الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة
أورد فيه الحديث المذكور مطولًا من وجه آخر عن أنس، وهو مطابق للترجمة أيضًا.
الحديث السادس والخمسون
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَمِنَ الْغَدِ، وَبَعْدَ الْغَدِ وَالَّذِى يَلِيهِ، حَتَّى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ أَوْ قَالَ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلَا عَلَيْنَا. فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلَاّ انْفَرَجَتْ، وَصَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ، وَسَالَ الْوَادِى قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِيءْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَاّ حَدَّثَ بِالْجَوْدِ".
قوله: "أصابت الناس سَنة" أي: بفتح السين أي: شدة جهد من الجدب وهو من قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} وأصل سنة سَنْهَة بوزن جَبْهَة، حذفت اللام ونقلت حركتها إلى النون، وقيل أصلها سنوة بالواو فحذفت كما حذفت الهاء.
وقوله: "على عهد النبي صلى الله عليه وسلم" أي: على زمنه.
وقوله: "فبينا" مرّ في الباب الذي قبله.
وقوله: "قام أعرابي" الأعرابي نسبة إلى الأعراب؛ لأنه لا واحد له، وليس هو جمعًا لعرب وإنما الأعراب سكان البادية خاصة، والعرب الجيل المعروف والنسبة إليه عربي، ويأتي في رواية يحيى بن سعيد عن أنس في "الاستسقاء":"أتى رجل من أهل البدو".
وأما قوله في رواية ثابت الآتية في باب "الدعاء"(إذا كثر المطر) عن أنس "فقام الناس فصاحوا" فلا يعارض ذلك؛ لأنه يحتمل أن يكونوا سألوه بعد أن سأل، ويحتمل أنه نسب ذلك إليهم لموافقة سؤال السائل ما كانوا يريدونه من طلب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم.
وعند أحمد من رواية ثابت "إذ قال بعض أهل المسجد" وهي ترجح الاحتمال الأول.
وفي رواية شريك عن أنس في "الاستسقاء": "أن رجلًا دخل يوم الجمعة من باب وجاه المنبر" أىِ: بكسر واو وجاه، ويجوز ضمها أي: مواجهة. وفي "شرح ابن التين" أن معناه مستدبر القبلة، وهو وهم. وكأنه ظن أن الباب المذكور كان مقابل ظهر المنبر، وليس الأمر كذلك.
وفي رواية إسماعيل بن جعفر "من باب كان نحو دار القضاء"، وفسر بعضهم دار القضاء بأنها دار الإمارة وليس كذلك، وإنما هي دار عمر بن الخطاب وسميت (دار القضاء)؛ لأنها بيعت في قضاء دينه فكان يقال لها (دار قضاء دين عمر)، ثم طال ذلك فقيل لها (دار القضاء) ذكره الزبير بن بكار بسنده إلى ابن عمر وذكر عمر بن شبة عن ابن أبي فديك عن عمه كانت (دار القضاء) لعمر فأمر عبد الله وحفصة أن يبيعاها عند وفاته في دين كان عليه فباعوها من معاوية، وكانت تسمى (دار القضاء).
قال ابن أبي فديك: سمعت عمي يقول: إن كانت لتسمى (دار قضاء الدين). قال: وأخبرني عمي أن الخوخة الشارعة في (دار القضاء) غربي المسجد، وهرب خوخة أبي بكر الصديق التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تبقى في المسجدِ خوخةٌ إلا خوخةُ أبي بكرٍ". وقد صارت بعد ذلك إلى مروان وهو أمير المدينة، فلعلها شبهة من قال إنها دار الإمارة، فلا يكون غلطًا كما قال صاحب "المطالع" وغيره وجاء في تسميتها (دار القضاء) قول آخر رواه عمر بن شبة عن أم الحكم بنت عبد الله عن عمتها سهلة بنت عاصم قالت: كانت (دار القضاء) لعبد الرحمن بن عوف وإنما سميت (دار القضاء)؛ لأن عبد الرحمن بن عوف اعتزل فيها ليالي الشورى حتى قضى الأمر فيها فباعها بنو عبد الرحمن من معاوية بن أبي سفيان. قال عبد العزيز بن عمران: فكانت فيها الدواوين وبيت المال، ثم صيّرها السفاح رحبة للمسجد، وزاد أحمد في رواية ثابت عن أنس:"أني لقائم عند المنبر" فأفاد بذلك قوة ضبطه للقصة لقربه، ومن ثم لم يرد هذا الحديث بهذا السياق كله إلا من روايته.
وقوله: "فقال: يا رسول الله" هذا يدل على أن السائل كان مسلمًا، فانتفى أن يكون أبا سفيان؛ لأنه حين سؤاله لذلك كان لم يسلم كما يأتي في "الاستسقاء".
وقوله: "هلك المال وجاع العيال".
وفي رواية شريك: "هلكت الأموال وانقطعت السبل".
وفي رواية كريمة وأبي ذر عن الكشميهني: "المواشي" وهو المراد بالأموال هنا لا الصامت. وقد مرّ في الحديث السابق الكُراع والعيال قال الجوهري: عيال الرجل من يعوله، وواحد العيال عيّل والجمع عيايل مثل جيد وجياد وجدايد.
وفي رواية يحيى بن سعيد الآتية في "الاستسقاء": "هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس" وهو من ذكر العام بعد الخاص والمراد بهلاكهم عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات
المفقودة بحبس المطر. "وانقطاع السبل" المراد به أن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر، أو لكونها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يقيم أودها. وقيل: المراد نفاد ما عند الناس من الطعام أو قلته فلا يجدون ما يحملونه ويجلبونه إلى الأسواق.
وفي رواية قتادة عن أنس الآتية في "الاستسقاء": "قَحَطَ المطر" أي: قَل وهو بفتح القاف والحاء، وحكي بضم ثم كسر.
وفي رواية ثابت عن أنس الآتية أيضًا و"احمرت الشجر" واحمرارها كناية عن يبس ورقها لعدم شربها الماء أو لانتشاره فتصير الشجر أعوادًا بغير ورق.
ولأحمد في رواية قتادة: "وأمحلت الأرض" وهذه الألفاظ يحتمل أن يكون الرجل قالها كلها، ويحتمل أن يكون بعض الرواة روى شيئًا مما قاله بالمعنى؛ لأنها متقاربة فلا تكون غلطًا كما قال صاحب "المطالع" وغيره.
وقوله: "فادعُ الله لنا"، وفي رواية شريك في الاستسقاء "فادعُ الله يغيثنا" أي: فهو يغيثنا وهذه رواية الأكثر ولأبي ذر "أن يغيثنا".
وفي رواية إسماعيل بن جعفر الآتية للكشميهني "يغثنا" بالجزم ويجوز الضم في يغيثنا على أنه من الإغاثة والفتح على أنه من الغيث، ويرجح الأول قوله في رواية إسماعيل بن جعفر "اللهمّ أغثنا".
وفي رواية قتادة "فادعُ الله أن يسقينا" وله في "الأدب": "فاستسقِ ربَّك".
قال قاسم بن ثابت رواه لنا موسى بن هارون: "اللهمّ أغثنا". وجائز أن يكون من الغَوْث أو من الغَيْث، والمعروف من كلام العرب غِثْنَا؛ لأنه من الغَوْث.
وقال ابن القعقاع: غَاثَ الله عباده غَيْثًا وغِيَاثًا سقاهم المطر، وأَغَاثَهم أجاب دعاءهم. ويقال غَاثَ وأَغَاثَ بمعنى والرباعي أعلى. وقال ابن دريد: الأصل غَاثَه الله يَغُوثِه غَوْثًا فأُغِيثَ، واستعمل أغَاثَه ومن فتح أوله فمن الغَيْث، ويحتمل أن يكون معنى "أَغِثْنا" أعطنا غَوْثًا وغَيْثًا.
وقوله: "فرفع يديه" زاد النسائي في رواية يحيى بن سعيد: "ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون". وزاد في رواية شريك "حِذاء وجهه". ولابن خزيمة عن حميد عن أنس: "حتى رأيت بياض إبطيه".
وقد مرّ في الحديث الذي قبل هذا "فمدّ يديه ودعا"، زاد في رواية قتادة في "الأدب""فنظر إلى السماء".
وقوله: "وما نرى في السماء قَزَعة".
وفي رواية شريك الآتية "اللَّهمَّ اسقنا أعادها ثلاثًا".
وفي رواية ثابت الآتية عن أنس "اللَّهمَّ اسقنا مرتين" والأخذ بالزيادة أولى ويرجحه ما مرّ في "العلم" من "أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا دعا دعا ثلاثًا". وفي الرواية المذكورة قال أنس: "ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئًا" والمراد بالسحاب المجتمع والقزعة بالقاف بالتحريك سحاب متفرق رقاق كأنها ظل إذا مرت من تحت السحاب الكثير.
قال أبو عبيدة: وأكثر ما يجيء في الخريف.
وقوله: "ولا شيئًا" بالنصب عطفًا على موضع الجار والمجرور أي ما نرى شيئًا، والمراد نفي علامات المطر من ريح وغيره، وفي الرواية المذكورة "وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار" وسَلْع بفتح المهملة وسكون اللام جبل معروف (بالمدينة المنورة). وقد حكي أنه بفتح اللام.
وقوله: "من بيت ولا دار" أي: يحجبنا عن رؤيته وأشار بذلك إلى أن السحاب كان مفقودًا لا مستترًا ببيت ولا غيره. وفي رواية ثابت "في علامات النبوءة" قال أنس: "وإن السماء لفي مثل الزجاجة" أي: لشدة صفائها، وذلك مشعر بعدم السحاب أيضًا.
وفي الرواية المذكورة لشريك قال: "فطلعت من ورائه سحابة مثل التُرس".
وقوله: "طلعت" أي ظهرت.
وقوله: "من ورائه" أي سَلْع وكأنها نشأت من جهة البحر؛ لأنه وضع يقتضي ذلك.
وقوله: "مثل التُرس" وهو بضم التاء ما يترس به، والمراد أنها مستديرة ولم يرد أنها مثله في القدر؛ لأن في رواية حفص بن عبيد الله عند أبي عوانة:"فنشأت سحابة مثل رجل الطائر وأنا انظر إليها" فهذا يشعر بأنها كانت صغيرة.
وفي رواية ثابت المذكورة: "فهاجت ريح أنشات سحابًا ثم اجتمع".
وفي رواية قتادة في "الأدب": "فنشأ السحاب بعضه إلى بعض" وفيها أي رواية شريك "فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت" وهذا يشعر بأنها استمرت مستديرة حتى انتهت إلى الأفق فانبسطت حينئذ، وكان فائدته تعميم الأرض بالمطر.
وقوله: "وضعهما حتى ثار السحاب أمثال الجبال" ثار بالثاء المثلثة أي: هاج. يقال: ثار الشيء يثور إذا ارتفع وانتشر.
وقوله: "أمثال الجبال" أي: لكثرتها وإطباقها وجه السماء.
وقوله: "ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر عن لحيته" أي: ينزل ويقطر، وهو (يتفاعل) من الحدور وهو ضد الصعود وأصل باب (التفاعل) للمشاركة بين قوم وهنا ليس كذلك؛ لأن (تفاعل) قد تجيء بمعنى (فعل) مثل توانيت أي: ونيت، وهذا كذلك ومعناه يحدر، وهذا يدل على أن السقف وكف لكونه كان من جريد النخل. وقوله: "فمُطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد
الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى" بضم ميم مطرنا مبنيًا للمفعول، "ويومنا" منصوب على الظرفية يعني في يومنا، وكلمة (من) في قوله: "من الغد" إما بمعنى (في) أي: في الغد، وإما تبعيضية. "وحتى الجمعة" يجوز فيها الحركات الثلاث كما في أكلت السمكة حتى رأسِها.
وفي رواية شريك الآتية "ما رأينا الشمس سبتًا" وهو كناية عن استمرار الغيم الماطر، وهذا في الغالب وإلا فقد يستمر المطر والشمس بادية، وقد تحجب الشمس بغير مطر ورواية الباب أصرح من هذه.
وقوله: "سبتاً" هو رواية الأكثر والمراد به أحد الأيام والمراد به الأسبوع، وهو من تسمية الشيء باسم بعضه كما يقال جمعة، ويقال أراد قطعة من الزمان.
وقال الزين بن المنير: قوله: "سبتًا" أي: من السبت إلى السبت أي جمعة.
وقال المحب الطبري مثله، وزاد أن فيه تجوّزًا لأن السبت لم يكن مبدأ ولا الثاني منتهى وإنما عبر أنس بذلك؛ لأنه كان من الأنصار وكانوا قد جاوروا اليهود فأخذوا بكثير من اصطلاحهم، وإنما سموا الأسبوع سبتًا؛ لأنه أعظم الأيام عند اليهود كما أن الجمعة عند المسلمين كذلك.
وحكى النووي تبعًا لغيره كثابت في الدلائل أن المراد بقوله: "سبتًا" قطعة من الزمان، ولفظ ثابت يقولون معناه من سبت إلى سبت وإنما السبت قطعة من الزمان، وأن الداودي رواه بلفظ "ستًا" وهو تصحيف، وتعقب بأن الداودي لم ينفرد بذلك.
ففي رواية الحموي والمستملي هنا "ستًا"، وكذا رواه سعيد بن منصور عن الدراوردي عن شريك، ووافقه أحمد من رواية ثابت عن أنس، وكان من ادّعى أنه تصحيف استبعاد اجتماع قوله:"ستًا" مع قوله في رواية إسماعيل بن جعفر الآتية سبعًا وليس بمستبعد؛ لأن مَنْ قال: "ستًا" أراد ستة أيام تامة ومَنْ قال سبعًا أضاف أيضًا يومًا ملفقًا من الجمعتين.
وفي رواية للنسفي فدامت جمعة، وفي رواية عبدوس والقابسي فيما حكاه عياض سبتنا كما يقال جمعتنا. ووهم من عزى هذه الرواية لأبي ذر وفي رواية قتادة الآتية "فمطرنا فما كدنا نصل إلى منازلنا" أي: من كثرة المطر.
وفي رواية "فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا" ولمسلم من رواية ثابت "فأمطرنا حتى رأيت الرجل تهمه نفسه أن يأتي أهله". ولابن خزيمة في رواية حميد "حتى أهم الشاب القريب الدار الرجوع إلى أهله". وللمصنف في "الأدب" عن قتادة "حتى سالت مثاعب المدينة" ومثاعب جمع مثعب بالمثلثة وآخره موحدة مسيل ماء.
وقوله: "وقام ذلك الأعرابي أو قال". وفي رواية شريك الآتية "ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة"، وظاهر هذه الرواية أنه غير الأول؛ لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد.
وقد قال شريك في آخر حديثه سألت أنسًا: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري. وهذا يقتضي أنه لم يجزم بالتغاير فالظاهر أن القاعدة المذكورة كانت أغلبية؛ لأن أنسًا كان من أهل اللسان. وقد تعددت ورواية الباب ومثلها رواية قتادة في "الأدب" تقتضي أنه كان يشك فيه، وسيأتي في "الاستسقاء" من رواية يحيى بن سعيد "فأتى الرجل فقال: يا رسول الله". ومثله لأبي عوانة عن أنسر بلفظ فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك الأعرابي في الجمعة الأخرى". وأصله في "مسلم" وهذا يقتضي الجزم بكونه واحدًا، فلعل أنسًا تذكره بعد أن نسيه أو نسيه بعد أن كان تذكره.
ويؤيد ذلك رواية البيهقي في "الدلائل" عن يزيد أن عبيدًا السلمي قال: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أتاه وفد بني فزارة وفيه خارجة بن حصن أخو عيينة بن حصن قدموا على إبل عجاف فقالوا: يا رسول الله أدعُ لنا ربك أن يغيثنا" فذكر الحديث وفيه: "اللهمّ اسقِ بلدَكَ وبهيمتَكَ وانشرْ بركتَكَ، اللهمّ اسقِنا غيثًا مغيثًا مريئًا مريعًا طبقًا واسعًا عاجلًا غير آجل نافعًا غير ضار، اللهمّ سقيا رحمةٍ لا سقيا عذاب، اللهمّ اسقنا الغيثَ وانصرنا على الأعداءِ". وفيه:"فقال: واللهِ ما نرى في السماء من قَزَعَةٍ ولا سحاب، وما بين المسجدِ وسَلْعٍ من بناءٍ" فذكر نحو حديث أنس بتمامه. وفيه قال الرجل يعني الذي سأله أن يستسقي لهم: "هلكتِ الأموالُ" الحديث.
والظاهر أن السائل هو خارجة المذكور؛ لكونه كان كبير الوفد ولذلك سمي من بينهم، وأفادت هذه الرواية صفة الدعاء المذكور والوقت الذي وقع فيه الدعاء.
وقوله: "فقال: يا رسولَ اللهِ تهدَّمَ البناءُ وغرقَ المال فادعُ اللهَ لنا فرفعَ يديهِ" وفي رواية حميد عند ابن خزيمة "واحتبسَ الركبانُ".
وفي رواية شريك الآتية "هلكتِ الأموالُ وانقطعتِ السبلُ" أي بسبب غير السبب الأول، والمراد أن كثرة الماء انقطع المرعى بسببها فهلكت المواشي من عدم الرعي؛ أو لعدم ما يكنها من المطر.
ويدل على ذلك قوله في رواية شريك عند النسائي "من كثرة الماء"، وأما انقطاع السبل، فلتعذر سلوك الطرق من كثرة الماء.
وفي رواية شريك الآتية "فادعُ اللهَ يمسكها" يجوز في يمسكها الضم والسكون، وللكشميهني "أن يمسكَها" والضمير يعود على الأمطار أو على السحاب أو على السماء، والعرب تطلق على المطر سماء.
وفي رواية سعيد عن شريك "أن يمسكَ عنا الماء".
وعند أحمد عن ثابت "أن يرفعها عنا".
وفي رواية قتادة في "الأدب": "فادعُ ربَّك أن يحبسَها عنا، فضحك".
وفي رواية ثابت "فتبسم". وزاد في رواية حميد "لسرعة ملال بن آدم".
وقوله: "فقال: اللَّهُمَّ حوالينا" بفتح اللام. وفي "مسلم": "حولنا" وكلاهما صحيح أي: مطبقين به من جوانبه، وهو ظرف متعلق بمحذوف تقديره (اجعل أو أمطر) والمراد به صرف المطر عن الأبنية والدور، وقد مرّت لغاته في حديث هرقل في "بدء الوحي".
وقوله: "ولا علينا" أي: ولا تمطر علينا فيه بيان للمراد بقوله حوالينا؛ لأنها تشمل الطرق التي حولهم فأراد إخراجها بقوله ولا علينا. قال الطيبي في إدخال الواو هنا معنى لطيف، وذلك أنه لو أسقطها لكان مستسقيًا للآكام وما معها المذكورة في رواية شريك الآتي ذكرها قريبًا. ودخول الواو يقتضي أن طلب المطر على المذكورات ليس مقصودًا لعينه، ولكن ليكون وقاية من أذى المطر، فليست الواو مخلصة للعطف ولكنها للتعليل، وهو كقولهم (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها) فإن الجوع ليس مقصودًا لعينه، ولكن لكونه مانعًا عن الرضاع بأجرة إذ كانوا يكرهون ذلك أنفة.
وقوله: "فما يشيرُ بيديهِ إلى ناحيةٍ من السحاب إلا انفرجتْ وصارتْ المدينة مثلَ" وفي رواية مالك: "فانجابتْ عن المدينةِ انجيابَ الثوبِ" أي: خرجت عنها كما يخرج الثوب عن لابسه.
وقوله: "إلا انفرجت" أي: إلا انكشفت. وقال ابن القاسم معناه تدورت كما يدور جيب القميص. وقال ابن وهب: معناه انقطعت عن المدينةِ كما ينقطع الثوب.
وقوله: "مثلَ الجَوْبَةِ" وهي بفتح الجيم والباء بينهما واو ساكنة الحفرة المستديرة الواسعة والمراد بها هنا الفرجة في السحاب. وقال الخطابي: المراد بالجوبة هنا الترس. وضبطها الزين بن المنير تبعًا لغيره بنون بدل الموحدة، ثم فسرها بالشمس إذا ظهرت في خلال السحاب، لكن جزم عياض بأن من قاله بالنون فقد صحف.
وقوله: "وسالَ الوادي قَناةُ شهرًا" وقَناة بفتح القاف والنون الخفيفة علم على أرض ذات مزارع بناحية (أُحد) وواديها أحد أودية المدينة المشهورة، قاله الحازمي.
وذكر محمد بن الحسن المخزومي: "في أخبار المدينة" بإسناده "أن أول مَنْ سمّاه وادي قناة تُبَّع اليماني لمّا قدم المدينة قبل الإِسلام.
وفي رواية له "أن تُبَّعًا بعث رائدًا ينظر إلى مزارع المدينة فقال: نظرت فإذا قناة حب ولا تبن، والجرف حب وتبن، والحرار جمع حرة بمهملتين لا حب ولا تبن".
وأعرب قناة بالرفع على البدل من الوادي على أن قناة اسم الوادي ولعله من تسمية الشيء باسم ما جاوره، وأعرب بالنصب والتنوين فهو بمعنى السير المحفور أي سال الوادي مثل القناة.
وفي رواية قناة بالجر بإضافة الوادي إليها.
وقوله: "إلا حدّثَ بالجَودِ" بفتح الجيم وسكون الواو وهو المطر الغزير. الواسع، وهذا يدل على
أن المطر استمر فيما سوى المدينة وقد يشكل بأنه يستلزم أن قول السائل: "هلكت الأموال وانقطعت السبل" لم يرتفع الإهلاك ولا القطع وهو خلاف مطلوبه.
ويمكن الجواب بأن المراد أن المطر استمر حول المدينة من الآكام والظِّراب وبطون الأودية لا في الطرق المسلوكة ووقوع المطر في بقعة دون بقعة كثير ولو كانت تجاورها، وإذا جاز ذلك جاز أن يوجد للماشية أماكن تكنها وترعى فيها بحيث لا يضرها ذلك المطر فيزول الإشكال.
وفي رواية شريك الآتية زيادة: "اللَّهمُّ على الآكام والجبالِ والظِّرَاب والأوديةِ ومنابتِ الشجر، قال: فانقطعتْ وخرجنا نمشي في الشمس". قوله: "على الآكام" فيه بَيانَ للمراد بقوله حوالينا، والآكام بكسر الهمزة وقد تفتح وتمد جمعَ أكمة بفتحات.
قال ابن البرقي: هو التراب المجتمع.
وقال الداودي: هي أكبر من الكدية.
وقال القزاز: هي التي من حجر واحد.
وقال الخطابي: هي الهضبة الضخمة. وقيل الجبل الصغير، وقيل ما ارتفع من الأرض.
وقال الثعالبي: الأكمة أعلى من الرابية، وقيل دونها. "والظِّرَاب" بكسر المعجمكة وآخره موحدة جمع ظرِب بكسر الراء وقد تسكن.
وقال القزاز: هو الجبل المنبسط ليس بالعالي.
وقال الجوهري: الرابية الصغيرة.
وقوله: "الأودية"، في رواية مالك "بطون الأودية" والمراد بها ما يتحصل فيه الماء لينتفع به. قالوا ولم نسمع (أفعلة) جمع (فاعل) إلا الأودية جمع وادٍ، وفيه نظر. وزاد مالك في روايته "رؤوس الجبال".
وقوله "فانقطعت" أي السماء أو السحابة الماطرة، والمعنى أنها أمسكت عن المطر على المدينة.
وفي رواية سعيد عن شريك "فما هو إلا أن تكلمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بذلك حتى تمزقَ السحابُ حتى ما نرى منه شيئًا" أي: في (المدينة).
ولمسلم في رواية حفص "فلقد رأيتُ السحابَ يتمزقُ كأنّه المُلا حينَ تُطوى" والملا بضم الميم والقصر، وقد تمد جمع ملاءة وهو ثوب معروف.
وعند المصنف عن قتادة "فلقد رأيتُ السحابَ يتقطعُ يمينًا وشمالًا يمطرون" أي: أهل النواحي "ولا يمطر أهل المدينة". وله في "الأدب": فجعلَ السحابَ يتصدعُ عن المدينةِ يريهمُ الله كرامة نبيِّهِ وإجابةَ دعوتِه".
وله في رواية ثابت عن أنس فتكشطت" أي: تكشفت فجعلتْ تمطُر حولَ (المدينةِ) ولا تمطُر (بالمدينة) قطرةً فنظرتُ إلى (المدينةِ) وإنها لمثلُ الإكليلِ".
ولأحمد "فتقور ما فوق رؤوسنا من السحابِ حتى كأنا في إكليل" والإكليل بكسر الهمزة وسكون الكاف كل شيء دار من جوانبه واشتهر لما يوضع على الرأس فيحيط به. وهو من ملابس الملوك كالتاج.
وفي الحديث فوائد جمة غير ما تقدم:
فيه جواز مكالمة الإمام في الخطبة للحاجة.
وفيه القيام في الخطبة وأنها لا تنقطع بالكلام، ولا تنقطع بالمطر.
وفيه قيام الواحد بأمر الجماعة، وإنما لم يباشر ذلك بعض أكابر الصحابة؛ لأنهم كانوا يسلكون الأدب بالتسليم، وترك الابتداء بالسؤال، ومنه قول أنس:"كان يعجبنا أن يجيء الرجل من البادية فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وسؤال الدعاء من أهل الخير ومن يرجى منه القبول وإجابتهم لذلك ومن أدبه بث الحال لهم قبل الطلب لتحصيل الرقة المقتضية لصحة التوجه، فترجى الإجابة.
وفيه تكرار الدعاء ثلاثًا وإدخال دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء به على المنبر ولا تحويل ولا استقبال، والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء وليس في السياق ما يدل على أنه نواها مع الجمعة.
وفيه علم من أعلام النبوءة في إجابة الله دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام عقبه أو معه ابتداء في الاستسقاء وانتهاء في الاستصحاء وامتثال السحاب أمره بمجرد الإشارة.
وفيه الأدب في الدعاء حيث لم يدع برفع المطر مطلقًا لاحتمال الاحتياج إلى استمراره فاحترز فيه بما يقتضي رفع الضرر وإبقاء النفع، واستنبط منه أن من أنعم الله عليه بنعمة لا ينبغي له أن يسخطها لعارض يعرض فيها بل يسأل الله تعالى رفع ذلك العارض وإبقاء النعمة.
وفيه أن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكل، وإن كان مقام الأفضل التفويض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالمًا بما وقع لهم من الجدب وأخر السؤال في ذلك تفويضًا لربه ثم أجابهم إلى الدعاء لما سألوه في ذلك بياناً للجواز وتقريرًا لسنة هذه العبادة الخاصة، قاله ابن أبي جمرة.
وفيه جواز تبسم الخطيب على المنبر تعجبًا من أحوال الناس، وجواز الصياح في المسجد بسبب الحاجة المقتضية لذلك.
وفيه اليمين لتأكيد الكلام ويحتمل أن يكون ذلك جرى على لسان أنس من غير قصد اليمين، واستدل به على الاكتفاء بدعاء الإمام في الاستسقاء، قاله ابن بطال، وتعقب بما مرّ في رواية يحيى بن سعيد "ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون".
وفيه جواز الدعاء بالاستصحاء للحاجة وقد ترجم البخاري في "الاستسقاء" واستدل به على جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، وعلى أن الاستسقاء لا تشرع فيه صلاة.
أما الأول: فهو قول مالك والشافعي وغيرهما، وكرهه الثوري.
وأما الثاني: فقد قال به أبو حنيفة فإنه قال: إن الاستسقاء دعاء واستغفار وليس فيه صلاة مسنونة في جماعة.
وقال صاحب "الهداية": فإن صلى الناس وحدانًا جاز، وعند أبي يوسف ومحمد السُّنة أن يصلي الإِمام ركعتين بجماعة كهيئة صلاة العيد، وهو قول مالك والشافعي وأحمد. وذكر في "المحيط" قول أبي يوسف مع أبي حنيفة.
وقال النووي: لم يقل أحد غير أبي حنيفة هذا القول.
ونقل أبو بكر الرازي عن أبي حنيفة التخيير بين الفعل والترك. وحكى ابن عبد البر الإجماع على استحباب الخروج إلى الاستسقاء والبروز إلى ظاهر العصر، لكن حكى القرطبي عن أبي حنيفة أيضًا أنه لا يستحب الخروج وكأنه اشتبه عليه بقوله في الصلاة.
وقال العيني: إن إبراهيم النخعي قائل بقول أبي حنيفة، ولا حجة لأبي حنيفة في الحديث؛ لأن الذي وقع في هذه القصة مجرد دعاء، وذلك لا ينافي مشروعية الصلاة له، وقد بينت في واقعة أخرى وفي الحديث رفع اليدين في الدعاء. وقد استدل به المصنف في "الدعوات" على رفع اليدين في كل دعاء وفي ذلك عدة أحاديث جمعها المنذري في جزء مفرد وأورد منها النووي في "شرح المهذب" في صفة الصلاة قدر ثلاثين حديثًا.
وعقد لها البخاري في "الأدب المفرد" بابًا منها ما أخرجه البخاري "عن أبي موسى الأشعري في غزوة حنين دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه حتى رأيتُ بياضَ إبطيه".
وأخرج أيضًا عن ابن عمر بعد غزوة الفتح "رفعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يديهِ وقال اللَّهُمَّ إني أبراُ إليك مما فعلَ خالدٌ".
وأخرج من رواية شريك "عن أنس رفعَ يديه حتى رأيتُ بياضَ إبطيهِ".
وأخرج في "الأدب المفرد" حديث أبي هريرة "قدمَ الطفيلُ بنُ عمروٍ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ إنّ دوسًا عصتْ فادعُ اللهَ عليها، فاستقبلَ القبلةَ ورفعَ يديهِ فقالَ: اللَّهمَّ اهدِ دوسًا". وهو في "الصحيحين" دون قوله "ورفع يديه".
وحديث "جابر أن الطفيل بن عمرو هاجر فذكر قصة الرجل الذي هاجر معه وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللَّهمَّ وليديه فاغفر ورفع يديه" وسنده صحيح وأخرجه مسلم.
وحديث عائشة "أنها رأتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يدعو رافعًا يديه يقول: اللَّهمَّ إنما أنا بشرٌ" الحديث وهو
صحيح الإسناد.
ومن الأحاديث الصحيحة في ذلك ما أخرجه المصنف في جزء "رفع اليدين": "رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه يدعو لعثمان".
ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة في "قصة الكسوف": "فانتهيت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم هو رافعٌ يديه يدعو".
وعنده في حديث عائشة "في الكسوف" أيضًا: "ثم رفع يديه يدعو".
وفي حديثها عنده في دعائه لأهل البقيع "فرفع يديه ثلاث مرات" الحديث.
ومن حديث أبي هريرة الطويل في (فتح مكة): "فرفع يديه وجعل يدعو".
وفي "الصحيحين" من حديث أبي حميد في قصة ابن اللتبية: "ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه يقول: اللَّهمَّ هل بلّغت؟ ".
ومن حديث عبد الله بن عمرو "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكرَ قولَ إبراهيمَ وعيسى فرفعَ يديهِ وقال: "اللَّهمَّ أُمتي".
وفي حديث عمر: "كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يُسمع عند وجههِ كدوي النحلِ فأنزلَ اللهُ عليه يومًا ثم سري عنه، فاستقبلَ القبلةَ ورفعَ يديه ودعا" الحديث. أخرجه الترمذي واللفظ له والنسائي والحاكم.
ورفع بديهِ لمّا بعثَ جيشًا فيهم عليٌّ قائلًا: "اللَّهمَّ لا تمتني حتى تريني عليًا" رواه الترمذي.
ولما جمع أهل بيته وألقى عليهم الكساءَ قائلًا: "اللَّهمَّ هؤلاء أهلُ بيتي" رواه الحاكم.
وفي حديث أسامة كنتُ ردفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعرفات فرفعَ يديهِ يدعو، فمالتْ به ناقتُهُ فسقطَ خطامُها فتناولَهُ بيدهِ وهو رافعٌ اليدِ الأخرى"، أخرجه النسائي بسند جيد.
وفي حديث قيس بن سعد عند أبي داود "ثم رفعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يديهِ وهو يقولُ: اللَّهمَّ صلواتُكَ ورحمتُكَ على آلِ سعد بن عبادة" الحديث، وسنده جيد. وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وغيرهما عن سلمان رفعه "إنَّ ربَّكُم حييٌ كريمٌ يستحي من عبدِهِ إذا رفعَ يديه إليه أن يردهَما صِفرًا" أي بكسر المهملة وسكون الفاء أي خالية وسنده جيد.
ولمسلم والترمذي عن ابن عباس عن عمر لما كانَ يومُ بدرٍ نظرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المشركينَ فاستقبلَ القبلةَ ثم مدَّ يديهِ فجعلَ يهتفُ بربهِ" الحديث.
وأخرج أبو عوانة في "صحيحه" عن ابن مسعود: "رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في قبرِ عبد اللهِ ذي البجادين" الحديث، وفيه "فلما فرغ من دفنِهِ استقبلَ القبلةَ رافعًا يديه".
وهذه الأحاديث وكثير مثلها ترد على من قال لا ترفع اليدان في الدعاء أصلًا إلا في الاستسقاء، وتمسك بحديث أنس "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء" وهو صحيح أخرجه البخاري وغيره، لكن يجمع بينه وبين الأحاديث المذكورة وما في معناها بأن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع، وحاصله أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره، إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في الاستسقاء حذو الوجه مثلًا. وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت في كل منهما حتى يرى بياض إبطيه، بل يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره. ويؤيد هذا أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد به مدّ اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه.
وإما في صفة اليدين في ذلك بأن تكون الكفان في الاستسقاء تليان الأرض، وفي الدعاء تليان السماء لما رواه مسلم عن ثابت عن أنس:"أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم استسقى فأشارَ بظهر كفيهِ إلى السماءِ".
ولأبي داود من حديث أنس "كان يستسقي هكذا ومدّ يديه، وجعلَ بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيتُ بياضَ إبطيه".
قال النووي: قال العلماء: السُّنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلًا ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء أن يجعل كفيه إلى السماء. وقال غيره الحكمة في الإِشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره للتفاؤل بتقلب الحال ظهرًا لبطن، كما قيل في تحويل الرداء، وقيل هو إشارة إلى صفة المسؤول وهو نزول السحاب إلى الأرض، أو يحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره. قال المنذري وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك. وأما ما أخرجه مسلم عن عمارة بن رويبة براء وموحدة مصغر أنه رأى بشر بن مروان يرفع يديه فأنكر ذلك وقال:"لقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وما يزيدُ على هذا يشيرُ بالسبابة".
فقد حكى الطبري عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره، وقال: السنة أن الداعي يشير بإصبع واحدة، ورده بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة وهو ظاهر في سياق الحديث، فلا معنى للتمسك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيتها. قال الطبري: وكره رفع اليدين في الدعاء ابن عمر وجبير بن مطعم، ورأى شريح رجلًا يرفع يديه داعيًا فقال: من تتناول بهما لا أم لك. وساق الطبري ذلك بأسانيده عنهم.
وذكر ابن التين: أنه نقل عن مالك أن رفع اليدين في الدعاء ليس من أمر الفقهاء قال: وقال في "المدونة": ويختص الرفع بالاستسقاء ويجعل بطونهما إلى الأرض. وأما ما نقله الطبري عن