الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فدل على تقدم ذلك قبل الخطبة. وقد بيّنه أحمد من حديث نُبيشة الهذلي بلفظ "فإن لم يجد الإِمام خرج صلّى ما بدا له". وفيه جواز النافلة نصف النهار يوم الجمعة، واستدل به على أن التبكير ليس من ابتداء الزوال؛ لأن خروج الإِمام يعقب الزوال، فلا يسع وقتًا يتنفل فيه وتبيّن بمجموع ما ذكرنا أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميع ما تقدم من غسل، وتنظف، وتطيب أو دهن، ولبس أحسن الثياب، والمشي بالسكينة، وترك التخطي. والتفرقة بين اثنين، وترك الأذى والتنفل والإِنصات، وترك اللغو. وفي حديث عبد الله بن عمرو "فمن تخطى أو لغا كانت له ظهرًا" وقد يكون اللغو بغير الكلام كمس الحصى وتقليبه بحيث يشغل سمعه وفكره. وفي بعض الأحاديث "ومَنْ مسَّ الحصى فقد لغا" ومنها الاستماع وهو إلقاء السمع لما يقوله الخطيب، ولا يغني عنه الإِنصات؛ لأن الإِنصات ترك الكلام والاستماع ما ذكرنا، وقد يستمع ولا ينصت بأن يلقى سمعه لما يقوله وهو يتكلم بكلام يسير أو يكون قوي الحواس بحيث لا يشتغل بالاستماع عن الكلام ولا بالكلام عن الاستماع، فالكمال الجمع بين الإِنصات والاستماع.
واختلف العلماء في الكلام هل هو حرام أو مكروه كراهة تنزيه وهما قولان للشافعي: قديم، وجديد. ومذهب مالك أنه حرام، واختلفوا إذا لم يسمع الإِمام هل يلزمه الإِنصات كما لو سمعه فقال الجمهور: يلزمه. وقال النخعي وأحمد والشافعي في أحد قوليه: لا يلزمه، ولو لغا الإِمام هل يلزمه الإِنصات أم لا فيه قولان: والراجح من مذهب الإِمام مالك أنه لا يلزمه، ودل التقييد بعدم غشيان الكبائر على أن الذي يكفر من الذنوب الصغائر فتحمل المطلقات كلها على هذا المقيد وذلك أن معنى قوله "ما لم تغشَ الكبائر" أي: فإنها إذا غشيت لا تكفر وليس المراد أن تكفير الصغائر شرطه اجتناب الكبائر إذ اجتناب الكبائر بمجرده يكفرها كما نطق به القرآن، ولا يلزم من ذلك أن لا يكفرها إلا اجتناب الكبائر، وإذا لم يكن للمرء صغائر تكفر رجي له أن يكفر عنه بمقدار ذلك، وهو جار في جميع ما ورد في نظائر ذلك. وقد مرّ الكلام على هذا المعنى مستوفىً في باب (قيام ليلة القدر) من كتاب الإِيمان وفي كتاب الوضوء في باب (الوضوء ثلاثًا ثلاثًا).
رجاله ستة:
مرّ منهم آدم بن أبي إياس في الثالث من الإِيمان، وسعيد بن أبي سعيد في الثاني والثلاثين منه، ومرّ أبوه كيسان أبو سعيد في السادس والعشرين من أبواب (صفة الصلاة)، ومرّ ابن أبي ذيب في الستين من العلم، والباقي من السند اثنان ابن وديعة وسلمان الفارسي. أما ابن وديعة فهو عبد الله بن وديعة بن خِدام بكسر الخاء أو ابن حرام الأنصاري المدني. ذكره ابن سعد في الصحابة، وكذا ابن منده وعزاه لابن أبي حاتم ومستندهم أن بعض الرواة لم يذكر بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أحدًا لكنه لم يصرح بسماعه فالصواب إثبات الواسطة، وهو تابعي جليل ذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال الدارقطني: إنه ثقة وذكره الواقدي فيمن قتل يوم الحرة. روى له
البخاري وابن ماجه هذا الحديث لا غير. روى عن أبي ذر الغفاري إن كان محفوظًا وعن سلمان الفارسي، وروى عنه أبو سعيد المقبري.
الثاني: سلمان الفارسي أبو عبد الله ويقال له سلمان بن الإِسلام، وكان إذا قيل له مَنْ أنت؟ قال: أنا سلمان بن الإِسلام من بني آدم. ويقال له سلمان الخير أصله من فارس من (رام هرمز) وقيل من أصبهان، وكان من أبناء أساورة فارس، وسمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيبعث، فخرج في طلب ذلك فأسر وبيع إلى أن وصل للمدينة. وروى البخاري في "صحيحه" عنه أنه تناوله بضعة عشر سيدًا، قيل: كان اسمه مابِه بكسر الباء بن بود. وقيل إن اسمه بهبود يقال: إنه أدرك عيسى بن مريم، وقيل بل أدرك وصي عيسى. قال أبو الشيخ عن العباس بن يزيد: أهل العلم يقولون: عاش سلمان ثلاثمئة وخمسين سنة، وأما مئتان وخمسون فلا يشكون فيها، وكذا قال الذهبي الأقوال كلها دالة على أنه جاوز مئتين وخمسين، والاختلاف إنما هو في الزائد.
قال: ثم رجعت عن ذلك وظهر لي أنه ما زاد على الثمانين وتعقبه في الإصابة قائلًا لم يذكر مستندًا لذلك، وإنما أخذه من شهوده الفتوح بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجه امرأة من (كِندة) وغير ذلك مما يدل على بقاء بعض النشاط، وإن ثبت ما ذكر يكون ذلك من خوارق العادات في حقه، وما المانع من ذلك مع ما ذكره أبو الشيخ؟
وروى أبو ربيعة الإِيادي من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ اللهَ يحبُّ من أصحابي أربعةً: عليٌ، والمقدادُ، وأبو ذرٍّ، وسلمانُ". وروى قتادة عن خيثمة عن أبي هريرة قال: سلمان صاحب الكتابين يعني الإنجيل والفرقان.
وروى ابن عبد البر بسنده عن علي أنه سئل عن سلمان فقال: علم علم الأول والآخر، بحر لا ينزف فهو منًا أهل البيت. وفي رواية عنه سلمان الفارسي مثل لقمان الحكيم، وقال كعب الأحبار: سلمان حُشي علمًا وحكمة.
وروى مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال فقالوا: "ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها؟ فقال أبو بكر: تقولون هذا لشيخِ قريش وسيدهم؟ وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال: يا أبا بكر لعلّك أغضَبتَهم لئن أغضبتَهُم لقد أغضبتَ ربّكَ، فأتاهم أبو بكرٍ فقال: يا إخوتاهُ أغضبتُكُم؟ قالوا: لا يا أبا بكرٍ، يغفرُ اللهُ لكَ".
وروي عن عائشة أنها قالت: "كان لسلمانَ مجلسٌ عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالليلِ حتى كان يغلبنا على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كانَ الدِّينُ في الثريا لناله سلمانُ". وفي رواية "لناله رجال من فارس".
وروي "أن سلمان أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بصدقةٍ فقالَ: يا رسولَ اللهِ هذه صدقةٌ عليكَ وعلى
أصحابِكَ؟ فقال: يا سلمانُ إنّا لا تحلِّ لنا الصدقةُ فرفعها، ثم جاءهُ من الغدِ بمثليها فقال: هذه هديةٌ فقال لأصحابه: كلُوا وكان هذا في أول قدومهِ عليه الصلاة والسلام يريدُ اختبارَهُ بذلك ثم اشتراه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من اليهودِ بكذا وكذا درهمًا إلى أن يغرسَ لهم كذا وكذا من النخلِ يعملُ فيها سلمانُ إلى أن تدركَ، فغرسَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم النخلَ كلَّه إلَاّ نخلة غرسها عمرُ فأطعمَ النخل كله إلا تلكَ النخلَة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ غرسَها؟ قالوا: عمرُ، فقلعَه عليه الصلاة والسلام وغرسَها فأطعمت من عامِها. وكان سلمانُ يطلبُ دينَ اللهِ تعالى ويتتبّعُ من يرجو ذلكَ عندَهُ، فدانَ بالنصرانيةِ وغيرِها وقرأ الكتبَ وصبرَ في ذلكَ على مشقّاتٍ نالتْهُ". وذلك كله مذكور في خبر إسلامه والأكثر على أن أول مشاهده الخندق شغله الرّق قبله وهو الذي أشار بحفره. وقد قال أبو سفيان وقومه لما رأوه: هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها. وقيل: شهد بدرًا وأُحدًا إلّا أنه كان عبدًا يومئذٍ كان - رضي الله تعالى عنه- خيّرًا فاضلًا عالمًا زاهدًا متقشفًا.
قال الحسن: كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان إذا خرج عطاؤه تصدّق به ويأكل من عمل يده، وكانت له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها، وكان يخطب بثلاثين ألفًا لابسًا تلك العباءة. دخل قوم عليه وهو أمير على المدائن وهو يعمل حفر الخُوْص. فقيل له: لِمَ تعمل هذا وأنت أمير ويجري عليك رزق؟ فقال: إني أحبُّ أن آكل من عمل يدي، وذكر أنه تعلّم حفر الخُوْص (بالمدينة) من الأنصار بعض مواليه. وذكر ابن وهب عن مالك قال: كان سلمان يعمل الخوص بيده فيعيش به، ولا يقبل من أحد شيئًا. قال: ولم يكن له بيت وإنما كان يستظل بالجدار والشجر وإن رجلًا قال له: ألا أبني لك بيتًا تسكن فيه؟ قال: ما لي به حاجة فما زال الرجل حتى قال: إني أعرف البيت الذي يوافقك، قال فصف لي، قال: أنا أبني لك بيتًا إذا أنت قمت فيه أصاب رأسك سقفه وإذا أنت مددت رجليك فيه أصابها الجدار. قال: نعم، فبنى له.
آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي الدرداء. وقال لأبي الدرداء: سلمان أفقه منك. وكان إذا نزل الشام نزل على أبي الدرداء وروى أبو جحيفة أن سلمان جاء يزور أبا الدرداء فرأى أُم الدرداء متبذلة قال: "ما شانكِ؟ قالت: إن أخاك ليس له حاجة في الدنيا، فلما جاء أبو الدرداء رحّب بسلمان وقدّم له طعامًا فقال سلمان: اطعم؟ فقال: إني صائم. فقال: أقسمت عليك إلا طَعِمْت إني لست بآكل حتى تطعم. قال وبات سلمان عند أبي الدرداء، فلما كان الليل قام أبو الدرداء فأحس به سلمان فقال: يا أبا الدرداء إن لربك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولجسدك عليك حقًا فأعط كلّ ذي حقّ حقّه، فلما كان وجه الصبح قال: قم الآن. قال: فقاما ثم صلّيا ثم خرجا إلى الصلاة، فلما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إليه أبو الدرداء فأخبره بما قال له سلمان. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِثلَ ما قال سلمانُ"، له ستون حديثًا تفقا على ثلاثةٍ وانفرد البخاري بواحد ومسلم بثلاثة.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه أنس وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأم الدرداء الصغرى وغيرهم: كان واليًا على المدائن ومات بها في عِلّية لأبي قُرّة الكِنْدي في خلافة عثمان سنة ست وثلاثين،