الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ قَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِى حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ، فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ. فَقَالَ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ.
أورد هذا الحديث من رواية جويرية بن أسماء عن مالك موصولًا عن ابن عمر وهو عند رواة "الموطأ" من مالك ليس فيه ذكر ابن عمر فلم يذكر في هذا الحديث أحد عن مالك عبد الله بن عمر غير روح بن عبادة وجويرية، وقد تابعهما أيضًا عبد الرحمن بن مهدي أخرجه أحمد بن حنبل عنه بذكر ابن عمر ووصله عن مالك أيضًا القعنبي في رواية إسماعيل بن إسحاق القاضي عنه. ورواه عن الزهري موصولًا يونس بن يزيد عند مسلم ومعمر عند أحمد وأبو أويس عند قاسم بن أصبغ.
وقوله: "بينا" أصله بين وأشبعت الفتحة، وقد تبقى بلا إشباع، وقد تزاد فيها ما فتصير بينما، وهي رواية يونس وهي ظرف زمان فيه معنى المفاجأة. وقد مرّ استيفاء الكلام عليها في بدء الوحي عند حديث جابر.
وقوله: "إذا جاء" في رواية المستملي والأصيلي وكريمة إذ دخل رجل. وقوله: "من المهاجرين الأولين" قيل في تعريفهم مَنْ صلّى إلى القبلتين، وقيل مَنْ شهد بدرًا، وقيل مَنْ شهد بيعة الرضوان، ولا يشك أنها مراتب نسبية والأول أولى في التعريف لسبقه، فمن هاجر بعد تحويل القبلة وقبل وقعة بدر هو آخر بالنسبة إلى مَنْ هاجر قبل التحويل والرجل المذكور هو عثمان بن عفان كما في رواية ابن وهب وابن القاسم عن مالك في "الموطأ" وقد سماه الأوزاعي عند مسلم قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا في ذلك.
وقوله: "فناداه" أي: قال له: يا فلان، وقوله:"أية ساعة هذه" أيّة بتشديد التحتانية تأنيث أي يستفهم بها والساعة اسم لجزء من النهار مقدر وتطلق على الوقت الحاضر وهو المراد هنا وهذا الاستفهام استفهام توبيخ وإنكار وكأنه يقول: تأخرت إلى هذه الساعة؟ وقد ورد التصريح بالإِنكار
في رواية أبي هريرة الآتية: فقال عمر: "لِمَ تحتبسونَ عن الصلاةِ؟ " وعند مسلم فعرض عنه عمر فقال: ما بالُ رجال يتأخرونَ بعدَ النداءِ" والذي يظهر أن عمر قال ذلك كله، وحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر، ومراد عمر التلميح إلى ساعات التبكير التي وقع الترغيب فيها، وأنها إذا انقضت طوت الملائكة الصحف كما يأتي قريبًا، وهذا من أحسن التعريضات وأرشق الكنايات. وفهم عثمان ذلك فبادر إلى الاعتذار عن التأخر.
وقوله: "إني شُغلت" أي: بضم أوله، وقد بيّن جهة شغله في رواية عبد الرحمن بن مهدي حيث قال:"انقلبتُ من السوقِ فسمعتُ النداءَ" والمراد به الأذان بين يدي الخطيب كما مرّ، ويأتي بعد أبواب.
وقوله: "فلم أزد على أن توضأتُ" أي: لم اشتغل بشيء بعد أن سمعت النداء إلا بالوضوء، وهذا يدل على أنه دخل المسجد في ابتداء شروع عمر في الخطبة.
وقوله: "والوضوء" أيضًا فيه إشعار بأنه قبل عذره في ترك التبكير لكنه استنبط منه معنى آخر اتجه له عليه فيه إنكار ثانٍ مضاف إلى الأول، و"الوضوءَ" بالنصب وعليه اقتصر النووي في شرح مسلم، وبالواو عطفًا على الإنكار الأول أي:(والوضوءَ اقتصرت عليه) واخترته دون الغسل أي: أما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويت الفضيلة حتى تركت الغُسل واقتصرت على الوضوء. وقال القرطبي: يجوز الرفع على أنه مبتدأ حذف خبره أي: (والوضوءُ أيضًا يقتصر عليه) أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: (كفايتُك الوضوءُ). وقال القرطبي: الواو عوض عن همزة الاستفهام كقراءة ابن كثير. قال فرعون: {وآمَنْتُمْ بِهِ} في الأعراف وتعقبه في المصابيح بأن تخفيف الهمزة بإبدالها واوًا صحيح في الآية لوقوعها مفتوحة بعد ضمة، وأما في الحديث فليس كذلك لوقوعها مفتوحة بعد فتحة فلا وجه لإبدالها فيه واوًا، ولو جعله على حذف الهمزة أي:"أو تخص الوضوء" لجرى على مذهب الأخفش في جواز حذفها قياسًا عند أمن اللبس والقرينة الحالية المقتضية للإنكار شاهدة بذلك، فلا لبس ولأبي ذرٍّ عن الحموي والمستملي قال:"والوضوءَ" وهو بالنصب أيضًا أي: أتتوضأ الوضوء فقط، ويجوز الرفع على نحو ما مرّ قريبًا ونقل البرماوي والزركشي أنه يروى عن ابن السيد بالرفع على لفظ الخبر. والصواب أن "آلوضوء" بالمد على لفظ الاستفهام كقوله تعالى:{آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} وتعقبه البدر ابن الدماميني بأن نقل كلام ابن السيد بقصد توجيه ما في البخاري به غلط، فإن كلام ابن السيد في حديث "الموطأ" وليس فيه واو إنما هو فقال له عمر:"الوضوء أيضًا". وهذا يمكن فيه المد بجعل همزة الاستفهام داخلة على همزة الوصل.
وأما في حديث البخاري فالواو داخلة على همزة الوصل، فلا يمكن الإتيان بعدها بهمزة الاستفهام. والظاهر أن البدر لم يطلع على رواية الحموي والمستملي السابقة. قال الوضوء بحذف الواو حينئذ، فلا اعتراض.
وقوله: "أيضًا" منصوب على أنه مصدر من آض يئيض أي: عاد ورجع والمعنى ألم يكفك أن فاتك فضل التبكير حتى أضفت إليه ترك الغُسل المرغب إليه. قال في "الفتح": ولم أقف في شيء من الروايات على ما أجاب به عثمان، والظاهر أنه سكت عنه اكتفاء بالاعتذار الأول؛ لأنه قد أشار إلى أنه كان ذاهلًا عن الوقت، وأنه بادر عند سماع النداء وإنما ترك الغُسل؛ لأنه تعارض عنده إدراك سماع الخطبة والاشتغال بالغُسل وكل منهما مرغب فيه فآثر الخطبة ولعله كان يرى فرضيته؛ فلذلك آثره.
وقوله: "كان يأمر بالغُسل" لم يذكر في جميع الروايات المأمور إلا أن في رواية جُويرية عن نافع: "كنّا نُؤْمر". وفي حديث ابن عباس عند الطحاوي في هذه القصة أن عمر قال له: "لقد علم أنّا أُمرنا بالغسلِ قلت: أنتم المهاجرونَ الأولون أم الناس جميعًا؟ قال: لا أدري". رواته ثقات إلا أنه معلول وفي رواية أبي هريرة في هذه القصة أن عمر قال: "ألم تسمعوا أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: إذا راحَ أحدُكم إلى الجمعةِ فليغتسلْ" كذا هو في "الصحيحين". وغيرهما وهو ظاهر في عدم التخصيص بالمهاجرين الأولين.
وفي هذا الحديث من الفوائد القيام في الخطبة وعلى المنبر، وتفقد الإِمام رعيته وأمره لهم بمصالح دينهم، وإنكاره على مَنْ أخل بالفضل وإن كان عظيم المحل ومواجهته بالإنكار ليرتدع من هو دونه بذلك، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أثناء الخطبة لا يفسدها وسقوط منع الكلام عن المخاطب بذلك، وفيه الاعتذار إلى ولاة الأمر وإباحة الشغل والتصرف يوم الجمعة قبل النداء ولو أفضى إلى ترك فضيلة البكور إلى الجمعة؛ لأن عمر لم يأمر برفع السوق بعد هذه القصة واستدل به مالك على أن السوق لا تمنع يوم الجمعة قبل النداء لكونها كانت في زمن عمر، ولكون الذاهب إليها مثل عثمان، وفيه شهود الفضلاء السوق ومعاناة المتجر فيها، وفيه أن فضيلة التوجه إلى الجمعة إنما تحصل قبل التأذين.
وقال عياض: فيه حجة لكون السعي إنما يجب بسماع الأذان، وأن شهود الخطبة لا يجب وهو مقتضى قول أكثر المالكية، وتعقب بأنه لا يلزم من التأخر إلى سماع النداء فوات الخطبة، بل تقدم أن عثمان لم يفته شيء من الخطبة وعلى تقدير أن يكون فاته منها شيء، فليس فيه دليل على أنه لا يجب شهودها على مَنْ تنعقد به الجمعة.
قلت مشهور مذهب مالك أن الجماعة التي تنعقد بها الجمعة لابد من حضورها للخطبتين، واستدل به على أن غسل الجمعة واجب لقطع عمر الخطبة وإنكاره على عثمان تركه وهو متعقب؛ لأنه أنكر عليه ترك السنة المذكور وهي التبكير إلى الجمعة، فيكون الغُسل كذلك، وعلى أن الغُسل ليس شرطًا لصحة الجمعة. وقد مرّ البحث في ذلك في باب (وضوء الصبيان).