الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف
قال ابن المنير: مناسبة التعوذ عند الكسوف أن ظلمة النهار بالكسوف تشابه ظلمة القبر، وإن كان نهاراً، والشيء بالشيء يذكر. فيخاف من هذا كما يخاف من هذا، فيحصل الاتعاظ بهذا في التمسك بما ينجي من غائلة الآخرة.
الحديث العاشر
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا، فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَرَجَعَ ضُحًى، فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ ظَهْرَانَي الْحُجَرِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ، ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ وَانْصَرَفَ، فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
قوله: "إن يهودية" أي: امرأة من اليهود، وفي "مسند السراج" عن مسروق قال: دخلت يهودية على عائشة فقالت لها: أسمعت رسول صلى الله عليه وسلم يذكر شيئًا في عذاب القبر؟ فقالت عائشة: لا وما عذاب القبر؟ قالت: فسليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عائشة عن عذاب القبر فقال صلى الله عليه وسلم:"عذابُ القَبرِ حقٌ". قالت: فما صلى بعد ذلك صلاةً إلَاّ سمعته يتعوذ من عذاب القبر.
وفي حديث منصور عن مسروق عنها قالت: دخل عَليَّ عجوزتان من عجائز اليهود فقالتا: إن أهل القبر يُعذبون في قبورهم، فكذَّبتُهما، ولم أصدقهما، فدخل عَليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: دخلت عجوزتان من عجائز اليهود، فقالتا: إنَّ أهل القبور يعذبون في قبورهم. فقال: "إنهم
لَيُعذَّبونَ في قُبورهم عذابًا تَسْمَعه البهائم". وهو محمول على أن إحداهما تكلمت وأقرتها الأخرى على ذلك، فنسبت القول إليها مجازًا، والإفراد يحمل على المتكلمة، ولم تسم واحدة منهما. وفي هذا دلالة على أن اليهودية كانت تعلم عذاب القبر. إمّا سمعت من التوراة، أو من كتاب من كتبهم.
وقوله: "عائذًا بالله من ذلك" هو منصوب على المصدر الذي يجيء على مثال فاعل كقولهم: عافاه الله عافية أو على الحال الموكدة النائبة مناب المصدر، والعامل فيه محذوف كأنه قال: أعوذ بالله عائذًا ولم يذكر الفعل؛ لأن الحائل نائبة عنه. وروي بالرفع. أي: أنا عائِذٌ، وكان هذا قبل أن يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على عذاب القبر، وفي هذا الحديث في الجنائز فقال: نعم عذاب القبر، وعند مسلم عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: دخلت عَليَّ امرأةً من اليهود وهي تقول هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنما يُفتنُ اليهود" قالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل شعرت أنه أُوحيَ إليَّ أنكم تُفتنون في القبور؟ ". قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من عذاب القبر.
وروى أحمد بإسناد على شرط البخاري عن عائشة أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئًا من المعروف إلَاّ قالت اليهودية: وقال الله عذاب القبر. قالت: فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب؟ قال: "كذبت يهود لا عذاب دون يوم القيامة" ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار، وهو ينادي بأعلى صوته:"أيها النَّاس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق".
وبين الروايات مخالفة، ففي ظاهر روايتها الآتية في الجنائز، وصريح روايتيها السابقتين عن مسروق أنه أقر اليهودية وصدّقها، وفي رواية أحمد ورواية ابن شهاب عند مسلم، وظاهر رواية "الباب" أنه أنكر على اليهودية. قال النووي تبعًا للطحاوي هما قصتان فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قول اليهودية في القصة الأولى ثم أُعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولم يُعلم عائشة، فجاءت اليهودية مرة أخرى فذكرت لها ذلك، فأنكرت عليها ذلك مستندة إلى الإنكار الأول فأعلمها النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوحي نزل بإثباته.
وقال الكرماني: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ سرًا فلما رأى استغراب عائشة حين سمعت ذلك من اليهودية أعلن به. وكأنه لم يقف على رواية الزهري المارة عند مسلم، ورواية أحمد المتقدمة أيضًا. وفيما مرَّ من الأحاديث دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام إنما علم بحكم عذاب القبر إذْ هو بالمدينة في آخر الأمر كما علم من تاريخ صلاة الكسوف المار أنه يوم موت إبراهيم عليه السلام وقد استشكل ذلك بآية:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} إلخ، وآية:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} الدالتان على عذاب القبر فإنهما مكيتان. والجواب: أن عذاب القبر إنما يؤخذ من الأولى بطريق المفهوم في حق من لم يتصف بالإيمان، وكذلك بالمنطوق في الأخرى