الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أَبِي طَالِبٍ".
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
…
ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ.
وما مرّ من أن الأولى إدخال حديث ابن مسعود الذي قبله تحت هذه الترجمة أجاب عنه في الفتح بأن الذي يظهر أنه لما كان من سأل قد يكون مسلمًا وقد يكون مشركًا وقد يكون من الفريقين، وكان في حديث ابن مسعود أن الذي سأل كان مشركًا ناسب أن يذكر في الذي بعده ما يدل على ما إذا كان الطلب من الفريقين، ولذلك ذكر لفظ الترجمة عامًا لقوله سؤال الناس، وذلك أن المصنف أورد في هذا الباب حديث تمثل ابن عمر بشعر أبي طالب وقول أنس "إن عمر كان إذا قحطوا استسقى بالعباس" وقد اعترضه الإسماعيلي فقال: حديث ابن عمر خارج عن الترجمة إذ ليس فيه أن أحدًا سأله أن يستسقى له، ولا في قصة العباس التي أوردها أيضًا.
وأجاب ابن المنير عن حديث ابن عمر بأن المناسبة تؤخذ من قوله فيه: "يستسقى الغمام"؛ لأن فاعله محذوف وهم الناس، وعن حديث أنس بأن في قول "عمر كنا نتوسل إليك بنبيك" دلالة على أن للإمام مدخلًا في الاستسقاء وتعقب بأنه لا يلزم من كون فاعل يستسقي الناس أن يكونوا سألوا الإمام أن يستسقي لهم كما في الترجمة، وكذلك ليس في قول عمر إنهم كانوا يتوسلون به دلالة على أنهم سألوه أن يستسقي لهم إذ يحتمل أن يكونوا في الحالين طلبوا السقيا من الله مستشفعين به عليه الصلاة والسلام.
وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكونوا أرادوا بالترجمة الاستدلال بطريق الأولى؛ لأنهم إذا كانوا يسألون الله به فيسقيهم فأحرى أن يقدموه للسؤال وهو حسن، ويمكن أن يكون أراد من حديث ابن عمر سياق الطريق الثانية عنه وأن يبين أن الطريق الأولى مختصرة منها وذلك أن لفظ الثانية ربما ذكرت قول الشاعر "وأنا انظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي" فدل ذلك على أنه هو الذي باشر الطلب عليه الصلاة والسلام وأن ابن عمر أشار إلى قصة وقعت في الإِسلام حضرها هو لا مجرد ما دل عليه شعر أبي طالب، وقد علم من بقية الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام إنما استسقى إجابة لسؤال من سأله في ذلك كما في حديث ابن مسعود الماضي وحديث أنس الآتي وغيرهما من الأحاديث. وأوضح من ذلك ما أخرجه البيهقي في الدلائل عن مسلم الملائي عن أنس قال: "جاء أعرابي إلى
النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ أتيناكَ وما لنا بعيرٌ يئطُ ولا صبي يغطُ ثم أنشدَ:
أتيناك والعذراء يدمَى لَبانُها
…
وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
وألقى بكفيه الصبي استكانة
…
من الجوع ضعفًا ما يُمر وما يُحلي
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا
…
سوى الحنظل العاهي والعِلْهَز الفَسل
وليس لنا إلا إليك فرارنا
…
وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر رداءَهُ حتى صعدَ المنبرَ فحمدَ الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: اللَّهُمَّ اسقنا" الحديث. وفيه "فجاء أهلُ البطانةِ يصيحونَ الغرقَ الغرقَ فضحك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بدتْ نواجذُه ثم قال: لله درُّ أبي طالب لو كان حاضرًا لقرتْ عينُهُ ثم قال من ينشدنا؟ فقال علي: يا رسولَ اللهِ كأنكَ أردتَ قوله:
وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجههِ .. الأبيات فظهرت بذلك مناسبة حديث ابن عمر للترجمة وإسناد حديث أنس وإن كان فيه ضعف، لكنه يصلح للمتابعة.
وقد ذكره ابن هشام في زوائده في "السير" عمن يثق به تعليقًا.
وقوله: "يئط" بفتح أوله وكسر الهمزة وكذلك"يغط" بالمعجمة. والأطيط صوت البعير المثقل والغطيط صوت النائم، وكنى بذلك عن شدة الجوع؛ لأنهما إنما يقعان غالبًا عند الشبع واللبان بفتح اللام الصدر أي يدمى لامتهانها في الخدمة.
وقوله: "ما يُمر" بضم أوله وكذلك "يُحلى" والأول من المرارة كناية عن الشر، والثاني من الحلاوة كناية عن الخير.
"العاهي" من العاهة وهي الأفة، و"العِلْهَز" بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه وهو شيء يتخذونه في سني المجاعة يخلطون الدم بأوبار الإبل ثم يشوونه بالنار ويأكلونه.
"والفَسل" بفتح الفاء الردي. وقوله: "يتمثل" أي ينشد شعر غيره. وقوله: "وأبيض" بفتح الضاد وهو مجرور برب مقدرة أو منصوب بإضمار أعني أو أخص، والراجح أنه منصوب عطف على قوله سيدًا في البيت الذي قبله وهو:
وما ترك قومٍ لا أبا لك سيدًا
…
يحوط الذمار بين بكر بن وائل
وقوله: "ثمال" بكسر المثلثة وتخفيف الميم هو العماد والملجأ والمطعم والمغيث والمعين والكافي قد أطلق على كل من ذلك قوله: "عصمة للأرامل" أي: يمنعهم مما يضرهم. والأرامل جمع أرملة وهي الفقيرة التي لا زوج لها، وقد يستعمل في الرجل أيضًا مجازًا قال:
هذي الأرامل قد قضّيتَ حاجتَها
…
فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
قال في "الفتح": ومن ثم لو أوصى للأرامل خص النساء دون الرجال. قلت: هذا لعله
مذهبه، أما مذهب مالك فالأرامل عنده شاملة للذكر والأنثى، وهذا البيت من قصيدة لأبي طالب ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها وهي مائة بيت وعشرة أبيات قالها لما تمالأت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم ونفروا عنه من يريد الإِسلام أولها:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم
…
وقد قطعوا كل العُرى والوسائل
وقد جاهرونا بالعداوة والأذى
…
وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
يقول فيها:
أعبد مناف أنتم خير قومكم
…
فلا تشركوا في أمركم كل واغل
فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم
…
تكونوا كما كانت أحاديث وائل
ويقول فيها:
أعوذ برب الناس من كل طاعن
…
علينا بسوء أو ملح بباطل
وثورٍ ومن أرسى ثَبيرًا مكانه
…
وراق لبر في حراء ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكة
…
وبالله إن الله ليس بغافل
ويقول فيها:
كذبتم وبيتِ الله نبزى محمدًا
…
ولما نطاعنْ دونَه ونناضل
ونُسْلِمَه حتى نُصرَّع حَوله
…
وندهلَ عن أبنائنا والحلائلِ
وما تَرْكُ قوم لا أبا لك سيدًا
…
يحوطُ الذمارَ بين بكر بن وائل
وأبيض يَستسقى الغمامُ بوجهِه
…
ثِمَالُ اليتامى عصمةٌ للأرامل
يلوذ به الهلّاك من آل هاشم
…
فهم عنده في نعمة وفواضل
وقد أتى بها صاحب "خزانة الأدب الكبرى" مشروحة قال السهيلي: فإن قيل كيف قال أبو طالب يستسقى الغمام بوجهه ولم يره قط استسقى إنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟ وأجاب بما حاصله أن أبا طالب أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي صلى الله عليه وسلم معه غلام أو أشار بهذا إلى ما أخرجه ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: "قدمتُ مكةَ وهم في قحطٍ فقالت قريشُ: يا أبا طالبٍ أقحطَ الوادي وأجدبَ العيالُ فهلُّمَ فاستسق فخرجَ أبو طالب معه غلامٌ -يعني النبي صلى الله عليه وسلم كأنَّه شمسُ دجنٍ تجلتْ في سحابةٍ قتماءَ وحولَهُ أغيَلمةٌ فأخذَهُ أبو طالب فألصقَ ظهرهُ بالكعبة ولاذَ الغلامُ وما في السماءِ قَزَعة فأقبلَ السحابُ من هاهنا وهاهنا، وأغدقَ واغدودقَ وانفجرَ الوادي وأخصبَ النادي والبادي". وفي ذلك يقول أبو طالب: وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجهه ..
ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه وإن لم يشاهد وقوعه. قال في "الفتح": والظاهر أن مجيء أبي سفيان المذكور في حديث ابن مسعود كان قبل الهجرة؛ لقول ابن مسعود في حديثه الآتي في باب (إذا استشفع المشركون) الخ ثم عادوا فذلك قوله تعالى: