الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَاّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ. فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ".
قوله: "لما رجع من الأحزاب" أي من الموضع الذي كان يقاتل فيه الأحزاب إلى منزله بالمدينة، وغزوة الأحزاب هي غزوة الخندق، وقد أنزل الله فيها سورة الأحزاب، وكانت في شوال سنة خمس من الهجرة كما قال ابن إسحاق، وقيل في شوال سنة أربع كما قال موسى بن عقبة، والجمهور على قول ابن إسحاق.
وسميت بالأحزاب؛ لأن الكفار تألفوا من قبائل العرب وهم عشرة آلاف نفس، وكانوا ثلاثة عساكر وجناح والأمر إلى أبي سفيان، وسميت بغزوة الخندق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع بهم وما جمعوا، ضرب الخندق على المدينة قال ابن هشام: يقال إن الذي أشار به سلمان الفارسي -رضي الله تعالى عنه-.
وقال الطبري والسهيلي إن أول من حفر الخنادق منوجهر بن أيرج وكان في زمن موسى عليه الصلاة والسلام.
وذكر ابن إسحاق "لما انصرفَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الخندقِ راجعًا إلى المدينةِ والمسلمونَ قد وضعوا السلاح، فلما كان الظهرُ أتى جبريلُ النبيَّ عليهما الصلاة والسلام فقال له: ما وضعت الملائكة السلاح بعدُ وإنّ الله يأمرُك أن تسيرَ إلى بني قريظة، فإنّي عائدٌ إليهم، فأمر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بلالًا فأذن في الناس: مَنْ كانَ سامعًا مطيعًا فلا يُصَلِّيَنَّ العصرَ إلا في بني قريظة.
وقال ابن سعد: ثم سار إليهم في ثلاثة آلاف، وكان مع المسلمين ستة وثلاثون فارسًا. وكان ذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة عقيب الخندق.
وقوله: لا يُصَلِّيَنَ أحد العصر" بالنون الثقيلة المؤكدة، وفي رواية التنصيص على العصر، وكذا في رواية الإسماعيلي. وأصحاب "المغازي" متفقون على أنها العصر كما مرّ عن ابن إسحاق.
وكذلك أخرجه الطبراني والبيهقي في "الدلائل" بإسناد صحيح إلى عبد الله بن كعب بن مالك "أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما رجعَ من طلب الأحزاب وجمع عليه اللأمةَ واغتسلَ واستجمرَ تبدّى له جبريلُ فقال: عذيركَ من محارب فوثبَ فزعًا فعزمَ على الناس أنْ لا يصلُّوا العصر حتى يأتوا بني قريظةَ. قال: فلبسَ الناسُ السلاح فلمْ يأتوا قريظةَ حتى غربَتِ الشمسُ. قال: فاختصموا عند غروبِ الشمس، فصلَّتْ طائفةٌ العصرَ، وتركتها طائفةٌ وقالت: إنا في عزمةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فليسَ علينا إثمٌ، فلم يعنفْ واحدًا من الفريقين".
وأخرجه الطبراني من هذا الوجه موصولًا بذكر كعب بن مالك فيه، وللبيهقي عن القاسم بني محمد عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- مطولًا "وفيه فصلتْ طائفة إيمانًا واحتسابًا. وتركتْ طائفةٌ إيمانًا واحتسابًا، وهذا كله يؤيد رواية البخاري أنها العصر، وفي جميع النسخ عند "مسلم" أنها الظهر مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته من شيخ واحد بإسناد واحد.
وقد وافق مسلمًا أبو يعلى وآخرون، وكذا أخرجه ابن سعد عن أبي عتبان مالك بن إسماعيل عن جويرية بلفظ "الظهر" وابن حبان عن أبي عتبان كذلك. قال في "الفتح": ولم أره من رواية جويرية إلا بلفظ "الظهر" غير أن أبا نعيم في "المستخرج" أخرجه عن أبي حفص السلمي عن جويرية فقال: "العصر".
وقد جمع بعض العلماء بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر، وبعضهم لم يصلّها فقيل لمن لم يصلّها لا يصلّينّ أحد الظهر، ولمن صلّاها لا يصلّينَّ أحد العصر.
وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى الظهر وللطائفة الأخرى العصر، وكلاهما جمع لا بأس به، لكن يبعده اتحاد مخرج الحديث الذي عند الشيخين بإسناد واحد من مبدئه إلى منتهاه كما مرّ فيبعد أن يكون كل من رجال إسناده قد حدث به على الوجهين إذ لو كان كذلك لحمله واحد منهم عن بعض رواته على الوجهين، ولم يوجد ذلك والذي يتأكد أن الاختلاف في اللفظ المذكور من حفظ بعض رواته، فإن سياق البخاري وحده مخالف لسياق كل من رواه عن عبد الله بن محمد بن أسماء وعن عمه جويرية.
ولفظ البخاري هنا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا يُصلِّيَنَّ أحدٌ العصر.
ولفظ مسلم ومن رواه "نادى فينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ انصرف عن الأحزابِ أنْ لا يُصلِّينَّ أحد الظهر إلا في بني قريظةَ فتخوفَ ناسٌ فوتَ الوقتِ فصلَّوا دونَ بني قريظةَ.
وقال آخرون: لا نصلِّي إلا حيث أمرنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنّفَ واحدًا من الفريقين"، فالذي يظهر من تقارير اللفظين أن عبد الله بن محمد بن أسماء شيخ الشيخين فيه لما حدث به البخاري حدث به على هذا اللفظ، ولما حدث به الباقين حدثهم به على اللفظ الأخير وهو اللفظ الذي حدث به جويرية بدليل موافقة أبي عتبان له عليه، بخلاف اللفظ الذي حدث به
البخاري أو أن البخاري كتبه من حفظه، ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك بخلاف مسلم، فإنه يحافظ على اللفظ كثيرًا وإنما لم أجوز عكسه لموافقة من وافق مسلمًا على لفظه بخلاف البخاري، لكن موافقة أبي حفص السلمي له تؤيد الاحتمال الأول، وهذا كله من حيث حديث ابن عمر، أما بالنظر إلى غيره فالاحتمال؛ لأن المتقدم أن في كونه قال الظهر لطائفة والعصر لطائفة متجه فيحتمل أن تكون رواية الظهر هي التي سمعها ابن عمر ورواية العصر هي التي سمعها كعب بن مالك.
وقوله: "إلا في بني قريظة" بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وفتح الظاء المعجمة وفي آخره هاء، وهم فرقة من اليهود. وقريظة والنضير والنحام وعمرو وهو هدل بنو الخزرج بن الصريح بن تومان بن السمط ينتهي إلى إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.
وقال ابن دريد: القَرَظ ضرب من الشجر يدبغ به يقال أديم مقروظ، وتصغيره قريظة، وبه سمي البطن من اليهود.
وقوله: "فأدرك بعضهم" الضمير فيه يرجع إلى لفظ أحد وفي بعضهم الثاني والثالث إلى البعض.
وقوله: "لم يرد منا" بالبناء للمجهول أو للفاعل أي المراد من قوله: "لا يصلِّينَّ أحد" لازمه وهو الاستعجال في الذهاب إلى بني قريظة لا حقيقة ترك الصلاة أصلًا. ولم يعنفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مخالفة النهي؛ لأنهم فهموا منه الكناية عن العجلة، ولا التاركين للصلاة المؤخرين عن وقتها لحملهم النهي على ظاهره.
وقال السهيلي وغيره في هذا الحديث من الفقه: أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية، وعلى من استنبط من النص معنى يخصصه وفيه ما استنبطه منه ابن حبان وهو معنى حسن حيث قال: لو كان تأخير المرء للصلاة عن وقتها إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى يلزمه بذلك اسم الكفر لما أمر المصطفى عليه الصلاة والسلام بذلك، وفيه كما قال السهيلي دليل على أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب إذ لا يستحيل أن يكون الشيء صوابًا في حق إنسان خطأً في حق غيره، وإنما المحال أن تحكم في النازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد، والأصل في ذلك أن الحظر والإباحة صفات أحكام لا أعيان، فكل مجتهد وافق اجتهاده وجهًا من التأويل فهو مصيب، وإنما عسر فهم هذا الأصل على طائفتين: الظاهرية، والمعتزلة.
أما الظاهرية فهم علقوا الأحكام بالنصوص فاستحال عندهم أن يكون النص يأتي بحظر وإباحة معًا إلا على وجه النسخ.
وأما المعتزلة، فإنهم علقوا الأحكام بتقبيح العقل وتحسينه، فصار حسن الفعل عندهم أو قبحه
صفة عين فاستحال عندهم أن يتصف فعل بالحسن في حق زيد وبالقبح في حق عمرو، كما يستحيل ذلك في الألوان وغيرها من الصفات القائمة بالذوات.
وأما ما عدا هاتين الطائفتين، فليس الحظر عندهم والإباحة بصفات أعيان، وإنما هي صفات أحكام كما مرّ، والمشهور أن الجمهور ذهبوا إلى أن المصيب في القطعيات واحد، وخالف الجاحظ والعنبري.
وأما ما لا قطع فيه فقال الجمهور أيضًا: المصيب واحد، وقد ذكر ذلك الشافعي وقرره، ونقل عن الأشعري أن كل مجتهد مصيب وأن حكم الله تعالى تابع لظن المجتهد، وقال بعض الحنفية وبعض الشافعية: هو مصيب باجتهاده وإن لم يصب ما في نفس الأمر فهو مخطىء وله أجر واحد، وقد أشبعنا الكلام على هذه المسألة في كتابنا "قمع أهل الزيغ والإلحاد".
وقد قيل إن الاستدلال بهذه القصة أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح، وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد فيستفاد منه عدم تأثيمه. وحاصل ما وقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحًا للنهي الثاني على النهي الأول وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق، فقد تقدم حديث جابر المصرح بأنهم صلّوا العصر بعدما غربت الشمس وذلك لشغلهم بأمر الحرب، فجوّزوا أن يكون ذلك عامًّا في كل شغل يتعلق بأمر الحرب ولاسيما والزمان زمان التشريع.
والبعض الآخر حملوا النهي على غير الحقيقة، وأنه كناية عن الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة.
وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يعنف أحدًا من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم.
واستدل به على جواز الصلاة على الدواب في شدة الخوف، وفيه نظر لما مرَّ عند احتجاج الوليد السابق من أن الحديث لا يدل على أنهم صلوا ركبانًا؛ ولذا قال العلماء: إن ابن المنير أغرب حيث قال إن الطائفة الذين صلوا العصر لما أدركتهم في الطريق إنما صلوها وهم على الدواب، واستند إلى أن النزول إلى الصلاة ينافي مقصود الإسراع في الوصول، قال: فإن الذين لم يصلّوا عملوا بالدليل الخاص وهو الأمر بالإسراع، فترك عموم إيقاع العصر في وقتها إلى أن فات، والذين صلوا جمعوا بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإسراع فصلوا ركبانًا؛ لأنهم لو صلوا نزولًا لكان مضادة لما أمروا به من الإسراع، ولا يظن ذلك بهم مع ثقوب إفهامهم، وفيه نظر؛ لأنه لم يصرح لهم بترك النزول فلعلهم فهموا أن المراد بأمرهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة المبالغة في الأمر بالإسراع فبادروا إلى امتثال أمره، وخصوا وقت الصلاة من ذلك لما تقرر عندهم من تأكيد أمرها،