الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في كم يقصر الصلاة
يريد بيان المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها ساغ له القصر، ولا يسوّغ له في أقل منها وهي من المواضع التي انتشر فيها الخلاف جداً، فحكى ابن المنذر وغيره فيها نحوًا من عشرين قولًا، ويأتي ذكر أكثرها قريبًا، وأقل ما قيل في ذلك قيل: وأكثره ما دام غائبًا عن بلده. وقد أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام، وأورد ما يدل على أن اختياره أنَّ أقل مسافة القصر يوم وليلة. ثم قال وسمّى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وليلة سفرًا في رواية أبي ذر: السفر يوماً وليلة، وفي كل منهما تجوز والمعنى: سمّى مدة اليوم والليلة سفرًا، وكأنه يشير إلى حديث أبي هريرة المذكورة عنده في آخر الباب، وتعقب بأن في بعض طرقه ثلاثة أيام، كما أورده هو من حديث ابن عمر وفي بعضها يوم وفي يعضها ليلة، وفي بعضها بريد، فإن حُمل اليوم المطلق أو الليلة المطلقة على الكامل أي: يوم بليلته، أو ليلة بيومها قلَّ الاختلاف واندرج في الثلاث، فيكون أقل المسافة يومًا وليلة، لكنه يُعكر عليه رواية بريد. ويأتي الجواب عنه بما قيل في الجمع بين حديث ابن عمر وبين اختياره.
ثم قال: وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد وهي: ستة عشر فرسخًا. وهذا وصله ابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة برد، ورواه عبد الرزاق عن مالك فقال: بين المدينة وذات النصب ثمانية عشر ميلًا وفي "الموطأ" عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان يقصر في مسيرة اليوم التام. وعن عطاء أن ابن عباس سُئل أتقصر الصلاة إلى عرفة؟ قال: لا، ولكن إلى عسفان أو إلى جدة أو الطائف. وقد رُوي عن ابن عباس مرفوعًا. أخرجه الدارقطني وابن أبي شيبة عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه وعطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا أهل مكة لا تقصروا الصَّلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان". وهذا إسناد ضعيف، من أجل عبد الوهاب. وروى عبد الرزاق عن عطاء عن ابن عباس قال: لا تقصروا الصلاة إلَاّ في اليوم، ولا تقصر فيما دون اليوم. ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأن مسافة أربعة برد يمكن في يوم وليلة.
وأما حديث ابن عمر الآتي في سفر المرأة مع غير محرم، الدال على اعتبار الثلاث، فإما أن يجمع بينه وبين اختياره بأن المسافة واحدة، ولكن السير يختلف أو أن الحديث المرفوع ما سبق، لأجل بيان مسافة القصر، بل لنهي المرأة عن الخروج وحدها، ولذلك اختلفت الألفاظ في ذلك، ويؤيد ذلك أن الحكم في نهي المرأة عن السفر وحدها متعلق بالزمان، فلو قطعت مسيرة ساعة
واحدة مثلاً في يوم تام لتعلق بها النهي، بخلاف المسافر فإنه لو قطع مسيرة نصف يوم مثلًا في يومين لم يقصر، فافترقا وأقل ما ورد في ذلك بريد، فقد روى ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن حرملة قال: قلت لسعيد بن المسيب: أأقصر الصلاة وأفطر في بريد من المدينة؟ قال: نعم.
وقوله: "وهي ستة عشر فرسخًا" وذكر الفراء أن الفرسخ فارسي معرب، واختلف في معناه فقيل: السكون ذكره ابن سيده. وقيل: السعة، وقيل: المكان الذي لا فرجة فيه: وقيل الشيء الطويل. وفي مجمع الغرائب فراسخ النهار، والليل ساعاتهما وأوقاتهما وهو ثلاثة أميال، والميل من الأرض منتهى مد البصر؛ لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى أدراكه، وبذلك جزم الجوهري. وقيل: حده أن ينظر إلى الشخص في أرض مسطحة، فلا يدري أهو رجل أو امرأة؟ أو هو ذاهب أو آت؟ قال النووي: الميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا معترضة معتدلة، والإصبع ست شعيرات معتدلة معترضة، والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون. والذي قاله النووي هو الأشهر، ومنهم مَنْ عبّر عن ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الإنسان. وقيل: هو أربعة آلاف ذراع. وقيل: بل ثلاثة آلاف ذراع. نقله صاحب البيان. وقيل وخمسمائة، صحّحه ابن عبد البر. وقيل: ألفا ذراع، ومنهم مَنْ عبّر عن ذلك بألف خطوة للجمل.
قال في "الفتح": ثم إن الذراع الذي ذكر النووي تحديده قد حرره غيره بذراع الحديد المستعمل الآن في مصر والحجاز في هذه الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن، فعلى هذا فالميل بذراع الحديد على القول المشهور خمسة آلاف ذراع، ومائتان وخمسون ذراعًا.
قلت: قد جاء الخلاف عند المالكية في تحديد الذراع بالإصبع، فقيل: أربعة وعشرون، كما ذكر النووي. وقيل: ستة وثلاثون إصبعًا، وهذا الأخير هو قدر الذراع الحديد المتعامل به الآن، وبما رُوي عن ابن عمر وابن عباس من كون مسافة القصر أربعة برد وهي مرحلتان يسير الأحمال، ودبيب الأقدام. أخذ مالك والشافعي وأحمد وإنما ضبطت بذلك التحديد، لثبوت تقديرها بالأميال عن الصحابة، ولأن القصر على غير الأصل، فيحتاط فيه بتحقيق تقدير المسافة. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون إلى إن المسافة التي تقصر فيها الصلاة ثلاثة أيام يسير الإبل، ومشي الأقدام. وقال أبو يوسف: يومان، وأكثر الثالث، والليل للاستراحة ولو سلك طريقًا هي مسيرة ثلاثة أيام وأمكنه أن يصل إليها من طريق أخرى قصر.
قلت: ظاهر هذا سواء كان عدوله عن القصيرة لعذر أم لا؟ وعند المالكية لا يقصر إلَاّ إذا كان عدوله عن القصيرة لعذر، وقدروا ذلك بالفراسخ فقيل: أحد وعشرون فرسخًا. وقيل: ثمانية عشر وعليه الفتوى. وقيل: خمسة عشر فرسخًا، وإلى ثلاثة أيام ذهب عثمان بن عفان وابن مسعود وسويد بن غفلة والشعبي والنخعي والثوري وغيرهم. قال في "الفتح": بعد أن ذكر ما مرّ في حديث ابن عمر في سفر المرأة مع غير محرم من مخالفته لاختياره في تمسك الحنفية، بحديث ابن عمر،