الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحاج يلزمه أن يؤخر الرحيل لأجل من تحيض ممن لم تطف للإفاضة، وتعقب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أراد بتأخير الرحيل إكرام صفية كما احتبس بالناس على عقد عائشة، وأما ما أخرجه البزار من حديث جابر، والثقفي في فوائده من حديث أبي هريرة مرفوعا:" أميران وليسا بأميرين: من تبع جنازة فليس له أن ينصرف حتى تدفن أو يأذن أهلها، والمرأة تحج أو تعتمر مع قوم فتحيض قبل طواف الركن فليست لهم أن ينصرفوا حتى تطهر أو تأذن لهم " ففي إسناد كل واحد منها ضعيف شديد الضعف كما قال الحافظ.
2 -
النقول من كتب الفقهاء:
أ- الحنفية:
قال صاحب المبسوط (1):
الثالث: طواف الصدر وهو واجب عندنا، سنة عند الشافعي رحمه الله تعالى، قال: لأنه بمنزلة طواف القدوم ألا ترى أن كل واحد منها يأتي به الآفاقي دون المكي، وما يكون من واجبات الحج فالآفاقي والمكي فيه سواء. (ولنا) في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف (2)» ورخص للنساء الحيض، والأمر دليل الوجوب، وتخصيص الحائض برخصة الترك دليل على الوجوب
(1) المبسوط، ج4 ص (34، 35).
(2)
سنن الترمذي الحج (946)، سنن أبو داود المناسك (2004)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 416).
أيضا، وكما أن طواف الزيارة لتمام التحلل من إحرام الحج، فطواف الصدر لانتهاء المقام بمكة فيكون واجبا على من ينتهي مقامه بها، وهو الآفاقي أيضا الذي يرجع إلى أهله دون المكي الذي لا يرجع إلى موضع آخر، ويسمى هذا طواف الوداع فإنما يجب على من يودع البيت دون من لا يودعه.
فأما الطواف الرابع: فهو طواف العمرة وهو الركن في العمرة وليس في العمرة طواف الصدر ولا طواف القدوم، أما طواف القدوم فلأنه كما وصل إلى البيت يتمكن من أداء الطواف الذي هو ركن في هذا النسك فلا يشتغل بغيره بخلاف الحج، فإنه عند القدوم لا يتمكن من الطواف الذي هو ركن الحج فيأتي بالطواف المسنون إلى أن يجيء وقت الطواف الذي هو ركن، وأما طواف الصدر فقد قال الحسن رحمه الله تعالى: في العمرة طواف الصدر أيضا في حق من قدم معتمرا إذا أراد الرجوع إلى أهله كما في الحج، ولكنا نقول: إن معظم الركن في العمرة الطواف وما هو معظم الركن في النسك لا يتكرر عند الصدر، كالوقوف في الحج لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يكون معظم الركن في نسك، وهو بعينه غير ركن في ذلك النسك، ولأن ما هو معظم الركن مقصود، وطواف الصدر تبع يجب لقصد توديع البيت والشيء الواحد لا يكون مقصودا وتبعا.
وقال صاخب بدائع الصنائع (1):
(فصل) وأما طواف الصدر: فالكلام فيه يقع في مواضع، في بيان وجوبه، وفي بيان شرائطه، وفي بيان قدره وكيفيته، وما يسن له أن يفعله بعد فراغه منه، وفي بيان وقته، وفي بيان مكانه وحكمه إذا نفر ولم يطف.
أما الأول: فطواف الصدر واجب عندنا، وقال الشافعي سنة، وجه قوله مبني على أنه لا يفرق بين الفرض والواجب، وليس بفرض بالإجماع فلا يكون واجبا لكنه لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه على المواظبة، وأنه دليل السنة، ثم دليل عدم الوجوب أنا أجمعنا على أنه لا يجب على الحائض والنفساء، ولو كان واجبا لوجب عليهما، كطواف الزيارة، ونحن نفرق بين الفرض والواجب على ما عرف، ودليل الوجوب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف (2)» ومطلق الأمر لوجوب العمل، إلا أن الحائض خصت عن هذا العموم بدليل، وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للنساء الحيض ترك طواف الصدر لعذر الحيض ولم يأمرهن بإقامة شيء آخر مقامه وهو الدم، وهذا أصل عندنا في كل نسك جاز تركه لعذر أنه لا يجب بتركه من المعذور كفارة. والله أعلم.
(1) بدائع الصنائع، ج 2، فقه حنفي (142، 143).
(2)
سنن الترمذي الحج (946)، سنن أبو داود المناسك (2004)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 416).
(فصل) وأما شرائطه: فبعضها شرائط الوجوب، وبعضها شرائط الجواز. أما شرائط الوجوب فمنها: أن يكون من أهل الآفاق فليس على أهل مكة، ولا من كان منزله داخل المواقيت إلى مكة طواف الصدر إذا حجوا؟ لأن هذا الطواف إنما وجب توديعا للبيت، ولهذا يسمى طواف الوداع، ويسمى طواف الصدر لوجوده عند صدور الحجاج ورجوعهم إلى وطنهم، وهذا لا يوجد في أهل مكة؛ لأنهم في وطنهم، وأهل داخل المواقيت في حكم أهل مكة فلا يجب عليهم كما لا يجب على أهل مكة، وقال أبو يوسف: أحب إلي أن يطوف المكي طواف الصدر؛ لأنه وضع لختم أفعال الحج، وهذا المعنى يوجد في أهل مكة، ولو نوى الآفاقي الإقامة بمكة أبدآ بأن توطن بها واتخذها دارا فهذا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن نوى الإقامة بها قبل أن يحل النفر الأول، وإما أن نوى بعدما حل النفر الأول، فإن نوى الإقامة قبل أن يحل النفر الأول سقط عنه طواف الصدر أي: لا يجب عليه بالإجماع، وإن نوى بعد ما حل النفر الأول لا يسقط، وعليه طواف الصدر في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يسقط عنه إلا إذا كان شرع فيه، ووجه قوله إنه لما نوى الإقامة صار كواحد من أهل مكة، وليس على أهل مكة طواف الصدر، إلا إذا شرع فيه لأنه وجب عليه بالشروع فلا يجوز له تركه، بل يجب عليه المضي فيه، ووجه قول أبي حنيفة أنه إذا حل له النفر فقد وجب عليه الطواف لدخول وقته، إلا أنه مرتب على طواف الزيارة، كالوتر مع العشاء، فنية الإقامة بعد ذلك لا تعمل، كما إذا نوى
الإقامة بعد خروج وقت الصلاة، ومنها الطهارة من الحيض والنفاس، فلا يجب على الحائض والنفساء حتى لا يجب عليهما الدم بالترك؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للحيض ترك هذا الطواف لا إلى بدل، فدل أنه غير واجب عليهن، إذ لو كان واجبا لما جاز تركه إلا إلى بدل وهو الدم، فأما الطهارة عن الحدث والجنابة فليست بشرط للوجوب، ويجب على المحدث والجنب لأنه يمكنهما إزالة الحدث والجنابة فلم يكن ذلك عذرا. والله أعلم.
(فصل) وأما شرائط جوازه، فمنها: النية لأنه عبادة فلا بد له من النية، فأما تعيين النية فليس شرطا حتى لو طاف بعد طواف الزيارة لا يعين شيئا، أو نوى تطوعا كان للصدر لأن الوقت تعين له فتنصرف مطلق النية إليه، كما في صوم رمضان، ومنها: أن يكون بعد طواف الزيارة حتى إذا نفر في النفر الأول فطاف طوافا لا ينوي شيئا، أو نوى تطوعا، أو الصدر يقع عن الزيارة لا عن الصدر لأن الوقت له طواف، وطواف الصدر مرتب عليه، فأما النفر على فور الطواف فليس من شرائط جوازه حتى لو طاف الصدر ثم تشاغل بمكة بعده لا يجب عليه طواف آخر، فإن قيل: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف (1)» ، فقد أمر أن يكون آخر عهده الطواف بالبيت، ولما تشاغل بعده لم يقع الطواف آخر عهده به، فيجب أن لا يجوزان إذ لم يأت بالمأمور به، فالجواب: أن المراد منه آخر عهده بالبيت نسكا لا إقامة، والطواف آخر مناسكه
(1) سنن الترمذي الحج (946)، سنن أبو داود المناسك (2004)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 416).
بالبيت وإن تشاغل بغيره، وروي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا طاف للصدر ثم أقام إلى العشاء فأحب إلي أن يطوف طوافا آخر لئلا يحول بين طوافه وبين نفره حائل، وكذا الطهارة عن الحدث والجنابة ليست بشرط لجوازه فيجوز طوافه إذا كان محدثا أو جنبا ويعتد به، والأفضل أن يعيد طاهرا فإن لم يعد جاز وعليه شاة إن كان جنبا؛ لأن النقص كثير فيجبر بالشاة، كما لو ترك أكثر الأشواط، وإن كان محدثا ففيه روايتان عن أبي حنيفة: في رواية: عليه صدقة وهي الرواية الصحيحة، وهو قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن النقص يسير فصار كشوط أو شوطين، وفي رواية عليه شاة لأنه طواف واجب فأشبه طواف الزيارة، وكذا ستر عورته ليس بشرط للجواز حتى لو طاف مكشوف العورة قدر ما لا تجوز به الصلاة جاز، ولكن يجب عليه الدم، وكذا الطهارة عن النجاسة إلا أنه يكره ولا شيء عليه، والفرق ما ذكرنا في طواف الزيارة. والله أعلم.
(فصل) وأما قدره وكيفيته فمثل سائر الأطوفة ونذكر السنن التي تتعلق به في بيان سنن الحج إن شاء الله تعالى.
(فصل) وأما وقته فقد روي عن أبي حنيفة أنه قال: ينبغي للإنسان إذا أراد السفر أن يطوف طواف الصدر حين يريد أن ينفر، وهذا بيان الوقت المستحب لا بيان أصل الوقت، ويجوز في أيام النحر وبعدها ويكون أداء لا قضاء، حتى لو طاف طواف الصدر ثم أطال الإقامة بمكة ولم ينو الإقامة بها ولم يتخذها دارا جاز طوافه وإن أقام سنة بعد الطواف إلا أن الأصل أن يكون طوافه
عند الصدر لما قلنا ولا يلزمه شيء بالتأخير عن أيام النحر بالإجماع.
(فصل) وأما مكانه فحول البيت لا يجوز إلا به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف (1)» والطواف بالبيت هو: الطواف حوله، فإن نفر ولم يطف، يجب عليه أن يرجع ويطوف ما لم يجاوز الميقات، لأنه ترك طوافا واجبا، وأمكنه أن يأتي به من غير الحاجة إلى تجديد الإحرام، فيجب عليه أن يرجع ويأتي به، وإن جاوز الميقات لا يجب عليه الرجوع لأنه لا يمكنه الرجوع إلا بالتزام عمرة بالتزام إحرامها، ثم إذا أراد أن يمضي مضى وعليه دم، وإن أراد أن يرجع أحرم بعمرة ثم رجع، وإذا رجع يبتدئ بطواف العمرة ثم بطواف الصدر ولا شيء عليه لتأخيره عن مكانه.
وقالوا: الأولى أن لا يرجع ويريق دما مكان الطواف؛ لأن هذا أنفع للفقراء وأيسر عليه لما فيه من دفع مشقة السفر وضرر التزام الإحرام. والله أعلم. ا. هـ
(1) سنن الترمذي الحج (946)، سنن أبو داود المناسك (2004)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 416).
ب- المالكية:
قال ابن رشد رحمه الله (1):
القول في أعداده وأحكامه: وأما أعداده، فإن العلماء أجمعوا على أن الطواف ثلاثة أنواع: طواف القدوم على مكة،
(1) بداية المجتهد، 1/ 273.
وطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، وطواف الوداع، وأجمعوا على أن الواجب منها الذي يفوت الحج بفواته هو طواف الإفاضة، وأنه المعني بقوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1)، وأنه لا يجزئ عنه دم، وجمهورهم على: أنه لا يجزئ طواف القدوم على مكة عن طواف الإفاضة إذا نسي طواف الإفاضة لكونه قبل يوم النحر، وقالت طائفة من أصحاب مالك: إن طواف القدوم يجزئ عن طواف الإفاضة كأنهم رأوا أن الواجب إنما هو طواف واحد، وجمهور العلماء على أن طواف الوداع يجزئ عن طواف الإفاضة، بخلاف طواف القدوم الذي هو قبل وقت طواف الإفاضة، وأجمعوا فيما حكاه أبو عمر بن عبد البر أن طواف القدوم والوداع من سنة الحاج إلا لخائف فوات الحج فإنه يجزئ عنه طواف الإفاضة، واستحب جماعة من العلماء لمن عرض له هذا أن يرمل في الأشواط الثلاثة من طواف الإفاضة على سنة طواف القدوم من الرمل، وأجمعوا على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة، كما أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف القدوم، وأجمعوا أن من تمتع بالعمرة إلى الحج أن عليه طوافين، طواف للعمرة لحله منها، وطواف للحج يوم النحر على ما في حديث عائشة المشهور، وأما المفرد فليس عليه إلا طواف واحد كما قلنا يوم النحر، واختلفوا في القارن، فقال مالك
(1) سورة الحج الآية 29
والشافعي وأحمد وأبو ثور: يجزئ القارن طواف واحد وسعي واحد، وهو مذهب عبد الله بن عمر وجابر، وعمدتهم حديث عائشة المتقدم، وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وابن أبي ليلى على القارن طوافان وسعيان، ورووا هذا عن علي وابن مسعود لأنهما نسكان من شرط كل واحد منهما إذا انفرد طوافه وسعيه فوجب أن يكون الأمر كذلك إذا اجتمعا.
وقال الدسوقي (1) رحمه الله:
حاصل المسألة أن الخارج إلى مكة إذا قصد التردد لها فلا وداع عليه مطلقا وصل للميقات أم لا، وإن قصد مسكنه أو الإقامة طويلا فعليه الوداع مطلقا، وإن خرج لاقتضاء دين أو زيارة أهل نظر؛ فإن خرج لنحو أحد المواقيت ودع، وإن خرج لدونها كالتنعيم فلا وداع، هذا محصل كلام (ح).
قوله: (لا لقريب كالتنعيم والجعرانة) أي ما لم يخرج ليقيم فيه لكونه مسكنه، أو ليقيم فيه طويلا وإلا طلب منه.
قوله: (وإن صغيرا) مبالغة في قوله وندب طواف الوداع إن خرج لكالجحفة أي وإن كان ذلك الخارج صغيرا، وظاهره ولو كان غير مميز فيفعله عنه وليه.
قوله: (وتأدى. . إلخ) الحاصل أن طواف الوداع ليس مقصودا لذاته بل يكون آخر عهده من البيت الطواف، فلذلك
(1) حاشية الدسوقي، 2/ 47.
يتأدى بطواف الإفاضة أو العمرة، ولا يكون سعيه لها طولا حيث لم يقم عندها إقامة تقطع حكم التوديع، والمراد بتأديه بهما: أنه لا يستحب لمن طاف للإفاضة أو للعمرة، ثم خرج من فوره أن يطوف للوداع بل يسقط عنه الطلب بما ذكر، ويحصل له فضل الوداع إن نواه بما ذكر، قياسا على تحية المسجد.
ج- الشافعية:
قال النووي رحمه الله (1):
قال المصنف رحمه الله: (إذا فرغ من الحج وأراد المقام بمكة لم يكلف طواف الوداع، فإن أراد الخروج طاف للوداع وصلى ركعتي الطواف، وهل يجب طواف الوداع أم لا؟ فيه قولان:
(أحدهما): أنه يجب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (2)» .
(والثاني) لا يجب لأنه لو وجب لم يجز للحائض تركه، فإن قلنا: إنه واجب وجب بتركه الدم؟ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك نسكا فعليه دم (3)» . وإن قلنا: لا يجب، لم يجب بتركه دم؛ لأنه سنة فلا يجب بتركه دم، كسائر سنن الحج، وإن طاف للوداع ثم أقام لم يعتد بطوافه عن الوداع؛ لأنه لا
(1) المجموع شرح المهذب، 8/ 253 - 257.
(2)
صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، سنن الدارمي المناسك (1932).
(3)
موطأ مالك الحج (957).
توديع مع المقام، فإذا أراد أن يخرج أعاد طواف الوداع، وإن طاف ثم صلى في طريقه أو اشترى زادا لم يعد الطواف؛ لأنه لا يصير بذلك مقيما، وإن نسي الطواف وخرج ثم ذكره (فإن قلنا) إنه واجب نظرت، فإن كان من مكة على مسافة تقصر فيها الصلاة استقر عليه الدم، فإن عاد وطاف لم يسقط الدم لأن الطواف الثاني للخروج الثاني فلا يجزئه عن الخروج الأول، فإن ذكر ذلك وهو في مسافة لا تقصر فيها الصلاة فعاد وطاف سقط عنه الدم؛ لأنه في حكم المقيم، ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:(أمر «الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض (1)»، فإن نفرت الحائض ثم طهرت، فإن كانت في بنيان مكة عادت وطافت وإن خرجت من البنيان لم يلزمها الطواف).
(الشرح) حديث ابن عباس الأول: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده (2)» رواه مسلم، وحديثه الآخر:(أمر الناس. .) إلى آخره، رواه البخاري ومسلم. وحديث:«من ترك نسكا فعليه دم (3)» سبق بيانه في هذا الباب مرات.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة فقال: " عقرى حلقى- إنك لحابستنا- ثم قال لها: أكنت أفضت يوم النحر؟ " قالت: نعم. قال: " فانفري ") (4)» رواه البخاري ومسلم. والوداع بفتح الواو، وتنفر بكسر الفاء.
(1) صحيح البخاري الحج (1755)، صحيح مسلم الحج (1328)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 431)، سنن الدارمي المناسك (1934).
(2)
صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، سنن الدارمي المناسك (1932).
(3)
موطأ مالك الحج (957).
(4)
صحيح البخاري الأدب (6157)، سنن أبو داود المناسك (2003)، سنن ابن ماجه المناسك (3072)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 82)، سنن الدارمي المناسك (1917).
أما الأحكام ففيها مسائل:
(إحداها) قال أصحابنا: من فرغ من مناسكه وأراد المقام بمكة ليس عليه طواف الوداع، وهذا لا خلاف فيه سواء كان من أهلها أو غريبا، وإن أراد الخروج من مكة إلى وطنه أو غيره طاف للوداع ولا رمل في هذا الطواف ولا اضطباع كما سبق، وإذا طاف صلى ركعتي الطواف، وفي هذا الطواف قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما، أصحهما: أنه واجب، والثاني: سنة، وحكي طريق آخر: أنه سنة قولا واحدا، حكاه الرافعي وهو ضعيف غريب. والمذهب أنه واجب.
قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما هذا نصه في الأم والقديم، والاستحباب هو نصه في الإملاء، فإن تركه أراق دما (فإن قلنا) سنة فالدم سنة، ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع إن قلنا هو واجب. والله أعلم.
(الثانية) إذا خرج بلا وداع وقلنا يجب طواف الوداع عصى، ولزمه العود للطواف ما لم سيبلغ مسافة القصر من مكة، فإن بلغها لم يجب العود بعد ذلك، ومتى لم يعد لزمه الدم، فإن عاد قبل بلوغه مسافة القصر سقط عنه الدم، وإن عاد بعد بلوغها فطريقان:(أصحهما) وبه قطع الجمهور: لا يسقط.
(والثاني) حكاه الخراسانيون وجهان (أصحهما) لا يسقط، (والثاني) يسقط.
(الثالثة: ليس على الحائض ولا على النفساء طواف وداع، ولا دم عليها لتركه؛ لأنها ليست مخاطبة به للحديث السابق، لكن يستحب لها أن تقف على باب المسجد الحرام وتدعو بما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ولو طهرت الحائض والنفساء فإن كان قبل مفارقة بناء مكة لزمها طواف الوداع لزوال عذرها، وإن كان بعد مسافة القصر لم يلزمها العود بلا خلاف، وإن كان بعد مفارقة مكة وقبل مسافة القصر فقد نص الشافعي: أنه لا يلزمها، ونص أن المقصر بترك الطواف يلزمه العود. وللأصحاب طريقان:(المذهب) الفرق كما نص عليه وبه قطع المصنف والجمهور لأنه مقصر بخلاف الحائض.
(والطريق الثاني): حكاه الخراسانيون فيهما قولان: (أحدهما) يلزمهما، (والثاني): لا يلزمهما. (فإن قلنا) لا يجب العود فهل الاعتبار في المسافة بنفس مكة أم بالحرم؟ فيه طريقان: المذهب وبه قطع المصنف والجمهور بنفس مكة، والثاني حكاه جماعة من الخراسانيين، فيه وجهان أصحهما هذا، والثاني الحرم، وأما المستحاضة إذا نفرت في يوم حيضها فلا وداع عليها، وإن نفرت في يوم طهرها لزمها طواف الوداع.
(الرابعة) ينبغي أن يقع طواف الوداع بعد جميع الأشغال، ويعقبه الخروج بلا مكث، فإن مكث نظر: إن كان لغير عذر أو لشغل غير أسباب الخروج كشراء متاع أو قضاء دين أو زيارة
صديق أو عيادة مريض لزمه إعادة الطواف، وإن اشتغل بأسباب الخروج كشراء الزاد وشد الرحل ونحوهما، فهل يحتاج إلى إعادته؟ فيه طريقان: قطع الجمهور بأنه لا يحتاج، وذكر إمام الحرمين فيه وجهين، ولو أقيمت الصلاة فصلاها معهم لم يجد الطواف، نص عليه الشافعي في الإملاء، واتفق عليه الأصحاب.
والله أعلم.
(الخامسة) حكم طواف الوداع حكم سائر أنواع الطواف في الأركان والشروط، وفيه وجه لأبي يعقوب الأبيوردي أنه يصح بلا طهارة وتجبر الطهارة بالدم، وقد سبق بيان الوجه في فصل طواف القدوم، وهو غلط ظاهر. والله تعالى أعلم.
(السادسة) هل طواف الوداع من جملة المناسك أم عبادة مستقلة؟ فيه خلاف، فقال إمام الحرمين والغزالي: هو من المناسك وليس على الحاج والمعتمر طواف وداع إذا خرج من مكة لخروجه، وقال البغوي والمتولي وغيرهما: ليس طواف الوداع من المناسك بل هو عبادة مستقلة يؤمر بها كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر سواء كان مكيا أو آفاقيا، وهذا الثاني أصح عند الرافعي وغيره من المحققين تعظيما للحرم وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الإحرام، قال الرافعي:
ولأن الأصحاب اتفقوا على أن المكي إذا حج ونوى على أن يقيم بوطنه لا يؤمر بطواف الوداع، وكذا الآفاقي إذا حج وأراد الإقامة بمكة لا وداع عليه، ولو كان من جملة المناسك لعم الحجيج، هذا كلام الرافعي، ومما يستدل به من السنة لكونه ليس من
المناسك ما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا (1)» وجه الدلالة أن طواف الوداع يكون عند الرجوع وسماه قبله قاضيا للمناسك، وحقيقته أن يكون قضاها كلها. والله أعلم.
(فرع) ذكرنا في هذه المسألة السادسة عن البغوي: أن طواف الوداع يتوجه على كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر، قال: ولو أراد دون مسافة القصر لا وداع عليه، والصحيح المشهور أنه يتوجه على من أراد مسافة القصر ودونها سواء كانت مسافة بعيدة أم قريبة لعموم الأحاديث وممن صرح بهذا صاحب البيان وغيره.
(فرع) قد ذكرنا أنه لا يجوز أن ينفر من منى ويترك طواف الوداع إذا قلنا بوجوبه، فلو طاف يوم النحر للإفاضة وطاف بعده للوداع، ثم أتى منى ثم أراد النفر منها في وقت النفر إلى وطنه واقتصر على طواف الوداع السابق فهل يجزئه؟ قال صاحب البيان:
اختلف أصحابنا المتأخرون فيه، فقال الشريف العثماني: يجزئه لأن طواف الوداع يراد لمفارقته البيت وهذا قد أرادها، ومنهم من قال: لا يجزئه، وهو ظاهر كلام الشافعي، وظاهر الحديث؛ لأن الشافعي قال: وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت فيودع وينصرف إلى أهله، هذا كلام صاحب البيان، وهذا الثاني هو الصحيح وهو مقتضى كلام الأصحاب. والله أعلم.
(1) صحيح البخاري المناقب (3933)، صحيح مسلم الحج (1352)، سنن الترمذي الحج (949)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455)، سنن أبو داود المناسك (2022)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 52)، سنن الدارمي الصلاة (1512).
(فرع) قال صاحب البيان: قال الشيخ أبو نصر في المعتمد ليس على المقيم بمكة الخارج إلى التنعيم وداع ولا دم عليه في تركه عندنا، وقال سفيان الثوري: يلزمه الدم. دليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم ولم يأمرها عند ذهابها إلى التنعيم بوداع. والله أعلم.
(فرع) إذا طاف للوداع وخرج من الحرم، ثم أراد أن يعود إليه وقلنا دخوله الحرم يوجب الإحرام. قال الدارمي: يلزم الإحرام لأنه دخول جديد- قال- ولو رجع لطواف الوداع من دون مسافة القصر لم يلزمه الإحرام. والله أعلم.
د- الحنابلة:
قال ابن قدامة رحمه الله (1):
(مسألة) قال: (فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت، يطوف به سبعة ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره، حتى يكون آخر عهده بالبيت).
وجملة ذلك: أن من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها، أو الخروج منها، فإن أقام بها فلا وداع عليه؛ لأن الوداع من المفارق لا من الملازم، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن نوى الإقامة بعد أن حل
(1) المغني، 3/ 458 - 462.
له النفر لم يسقط عنه الطواف، ولا يصح؛ لأنه غير مفارق فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1)» وهذا ليس بنافر، فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع، وهو واجب من تركه لزمه دم، وبذلك قال الحسن والحكم وحماد والثوري وإسحاق وأبو ثور، وقال الشافعي في قول له: لا يجب بتركه شيء لأنه يسقط عن الحائض، فلم يكن واجبة كطواف القدوم، ولأنه كتحية البيت أشبه طواف القدوم. (ولنا) ما روى ابن عباس قال:«أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2)» متفق عليه، ولمسلم قال:«كان الناس ينصرفون كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (3)» . وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره، كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل وجوبه على غيرها، إذ لو كان ساقطة عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى، وإذا ثبت وجوبه فإنه ليس بركن بغير خلاف، ولذلك سقط عن الحائض ولم يسقط طواف الزيارة، ويسمى طواف الوداع؛ لأنه لتوديع البيت، وطواف الصدر؛ لأنه عند صدور الناس من مكة، ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره وليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه
(1) صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، سنن الدارمي المناسك (1932).
(2)
صحيح البخاري الحج (1755)، صحيح مسلم الحج (1328)، سنن الدارمي المناسك (1934).
(3)
صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 431)، سنن الدارمي المناسك (1932).
وسلم: «حتى يكون آخر عهده بالبيت (1)» .
(فصل) ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريبة منه فظاهر كلام الخرقي: أنه لا يخرج حتى يودع البيت، وهذا قول أبي ثور، وقياس قول مالك، ذكره ابن القاسم، وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر، وأهل المواقيت: إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام، بدليل سقوط دم المتعة عنهم.
(ولنا) عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (2)» ولأنه خارج من مكة فلزمه التوديع كالبعيد.
(فصل) فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج، ففيه روايتان: إحداهما: يجزئه عن طواف الوداع، لأنه أمر أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل، ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه، كتحية المسجد ركعتين تجزئ عنهما المكتوبة، وعنه: لا يجزئه عن طواف الوداع؛ لأنهما عبادتان واجبتان فلم تجزئ إحداهما عن الأخرى كالصلاتين الواجبتين.
(مسألة) قال: (فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع).
قد ذكرنا أن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه ليكون آخر عهده بالبيت، فإن طاف للوداع، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته، وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور،
(1) صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 431)، سنن الدارمي المناسك (1932).
(2)
صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، سنن الدارمي المناسك (1932).
وقال أصحاب الرأي: إذا طاف للوداع، أو طاف تطوعا بعد ما حل له النفر أجزأه عن طواف الوداع، وإن أقام شهرا أو أكثر؛ لأنه طاف بعد ما حل له النفر فلم يلزمه إعادته كما لو نفر عقيبه.
(ولنا) قوله عليه السلام: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1)» ولأنه إذا أقام بعده خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزه، كما لو طافه قبل حل النفر، فأما إن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه لم يجده؛ لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت، وبهذا قال مالك والشافعي ولا نعلم مخالفا لهما.
(مسألة) قال: (فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب وإن بعد بعث بدم). هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور، والقريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، والبعيد: من بلغ مسافة القصر، نص عليه أحمد وهو قول الشافعي، وكان عطاء يرى الطائف قريبا، وقال الثوري: حد ذلك الحرم، فمن كان في الحرم فهو قريب، ومن خرج منه فهو بعيد.
ووجه القول الأول: أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر، ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام، وقد روي أن عمر (رد رجلا من مر إلى مكة ليكون آخر عهده بالبيت) رواه سعيد، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد، ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم
(1) صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، سنن الدارمي المناسك (1932).
يكن عليه أكثر من دم، ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره، لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه، والمعذور وغيره كسائر واجباته، فإن رجع البعيد فطاف للوداع. فقال القاضي: لا يسقط عنه الدم لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر فلم تسقط برجوعه، كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه، وإن رجع القريب فطاف فلا دم عليه سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا، لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر، ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب.
(فصل) إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرمة، لأنه ليس من أهل الأعذار، فليزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي، وطواف لوداعه، وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من الخلاف، وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه، فأما إن رجع القريب فظاهر قوله من ذكرنا قوله: إنه لا يلزمه إحرام لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به، فأشبه من رجع لطواف الزيارة، فإن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة، فقال أحمد: أحب إلي أن لا يدخل إلا محرما وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف، وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك، وإنما دخل لحاجة غير متكررة، فأشبه من يدخلها للإقامة بها.
(مسألة) قال: (والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت، ولا وداع عليها ولا فدية).
هذا قول عامة فقهاء الأمصار، وقد روي عن عمر وابنه أنهما (أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع) وكان زيد بن ثابت يقول به، ثم رجع عنه: فروى مسلم (أن زيد بن ثابت خالف ابن عباس في هذا) قال طاوس: كنت مع ابن عباس إذ قال: (زيد بن ثابت يفتي أن لا تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت، فقال له ابن عباس: إما لا تسأل فلانة الأنصارية، هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟ قال: فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت).
وروي عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضا، وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين قالوا:«يا رسول الله إنها حائض، فقال: " أحابستنا هي " قالوا يا رسول الله: إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: " فلتنفر إذن (1)» ، ولا أمرها بفدية ولا غيرها، وفي حديث ابن عباس:«إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2)» . والحكم في النفساء كالحكم في الحائض؛ لأن أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب ويسقط.
(فصل) وإذا نفرت الحائض بغير وداع، فطهرت قبل مفارقة البنيان، رجعت فاغتسلت وودعت، لأنها في حكم الإقامة، بدليل أنها لا تستبيح الرخص، فإن لم يمكنها الإقامة فمضت، أو مضت لغير عذر فعليها دم، وإن فارقت البنيان لم يجب الرجوع إذا كانت قريبة، كالخارج من غير عذر.
(1) صحيح مسلم الحج (1211)، سنن الترمذي الحج (943)، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391)، سنن أبو داود المناسك (2003)، سنن ابن ماجه المناسك (3072)، موطأ مالك الحج (942)، سنن الدارمي المناسك (1917).
(2)
صحيح البخاري الحج (1759)، صحيح مسلم الحج (1328)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 431).