الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى في مسألة اشتراط التتابع في صيام كفارة اليمين: (ولنا: أن قراءة أبي وعبد الله بن مسعود: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " كذلك ذكره الإمام أحمد في التفسير عن جماعة. . . .)(1).
وقال ابن اللحام رحمه الله تعالى: (المذهب المنصوص عن الإمام أحمد: الوجوب)(2). أي: وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين.
وحيث تبين لنا بجلاء موقف الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى من الاحتجاج بالقراءة الشاذة، فلنشرع الآن في بيان ثمرة الخلاف.
وسوف أقتصر في بيان تلك الثمرة على بعض المسائل الفقهية التي برز فيها الخلاف بشكل واضح، إذ المقصود التمثيل لا الحصر.
(1) المغني (13/ 529).
(2)
القواعد والفوائد الأصولية ص (156).
المسألة الأولى: حكم قراءة الشاذ في الصلاة وغيرها:
اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا تجوز قراءة الشاذ في الصلاة وغيرها.
وإلى هذا القول ذهب الإمامان مالك وأحمد في إحدى
الروايتين عنهما، وهو قول أكثر العلماء (1).
قال الفتوحي رحمه الله تعالى: (وتكره قراءة ما صح من غير المتواتر. نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه (2).
ونقل الزركشي رحمه الله تعالى عن الشيخ السخاوي قوله: (ولا تجوز القراءة بشيء من الشواذ لخروجها عن إجماع المسلمين وعن الوجه الذي ثبت به القرآن وهو المتواتر، وإن كان موافقا للعربية وخط المصحف؟ لأنه جاء من طريق الآحاد، وإن كانت نقلته ثقات)(3).
وقال النووي رحمه الله تعالى: (قال أصحابنا وغيرهم: تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بكل واحدة من القراءات السبع، ولا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة، لأنها ليست قرآنا، فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر)(4).
وقال ابن الصلاح رحمه الله تعالى: (يشترط أن يكون المقروء به على تواتر نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا واستفاض نقله بذلك وتلقته الأمة بالقبول كهذه القراءات السبع؛ لأن المعتبر في ذلك اليقين والقطع على ما تقرر وتمهد في الأصول، فما لم يوجد فيه ذلك ما عدا العشرة فممنوع من
(1) مجموع الفتاوى (13/ 394).
(2)
شرح الكوكب المنير (2/ 140).
(3)
البحر المحيط (1/ 474، 475).
(4)
المجموع (3/ 392).
القراءة به منع تحريم لا منع كراهة في الصلاة وخارج الصلاة، وممنوع منه ممن عرف المصادر والمعاني ومن لم يعرف ذلك) (1).
وقال ابن الحاجب رحمه الله تعالى: (لا يجوز أن يقرأ بالقراءة الشاذة في صلاة ولا غيرها عالما بالعربية كان أو جاهلا)(2).
وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: (لا يحل لأحد أن يقرأ بها ولا أن يكتبها في مصحفه)(3).
وإنما لم تجز قراءة الشاذ في الصلاة؛ لأنه ليس بقرآن وإنما هو جار مجرى أخبار الآحاد.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: (. . . وإنما لم تجز القراءة به في الصلاة؟ لأن ما عدا مصحف عثمان فلا يقطع عليه، وإنما يجري مجرى السنن التي نقلها الآحاد)(4).
وحيث لا تجوز قراءة الشاذ في الصلاة وغيرها عند أصحاب هذا القول فقد فرعوا على ذلك: عدم صحة الصلاة بتلك القراءة، وعدم جواز الصلاة خلف من يقرأ بها.
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (من قرأ في صلاته
(1) البرهان في علوم القرآن (1/ 332).
(2)
المرجع السابق.
(3)
المحلى (4/ 255).
(4)
التمهيد (8/ 292).
بقراءة ابن مسعود أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف لم يصل وراءه) (1).
وقال الفتوحي رحمه الله تعالى ما مؤداه: (ما ورد غير متواتر، وهو ما خالف مصحف عثمان ليس بقرآن، فلا تصح الصلاة به؛ لأن القرآن لا يكون إلا متواترا، وهذا غير متواتر، فلا يكون قرآنا، فلا تصح الصلاة به على الأصح)(2).
وذكر الزركشي رحمه الله تعالى في بحره المحيط نقل الشاشي عن القاضي الحسين: أن الصلاة بالقراءة الشاذة لا تصح (3).
كما نقل عن الإمام النووي رحمه الله تعالى أنه قال في فتاويه: (الصلاة بالقراءة الشاذة تحرم)(4).
وقال السرخسي رحمه الله تعالى: (اعلم بأن الكتاب هو القرآن المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، المكتوب في دفات المصاحف، المنقول إلينا على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا، لأن ما دون المتواتر لا يبلغ درجة العيان ولا يثبت بمثله القرآن مطلقا، ولهذا قالت الأمة: لو صلى بكلمات تفرد بها ابن مسعود لم تجز صلاته؟ لأنه لم يوجد فيه النقل المتواتر،
(1) التمهيد (8/ 293).
(2)
شرح الكوكب المنير (2/ 136).
(3)
البحر المحيط (1/ 475).
(4)
المرجع السابق.
وباب القرآن باب يقين وإحاطة، فلا يثبت بدون النقل المتواتر كونه قرآنا، وما لم يثبت أنه قرآن فتلاوته في الصلاة كتلاوة خبر، فيكون مفسدا للصلاة) (1).
القول الثاني: يجوز قراءة الشاذ في الصلاة وغيرها:
وإلى هذا القول ذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى في إحدى الروايتين عنه.
قال ابن وهب رحمه الله تعالى: (قيل لمالك: أترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب: " فامضوا إلى ذكر الله "؟
فقال: ذلك جائز. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا منه ما تيسر (2)» . . .
وقال مالك: لا أرى باختلافهم في مثل هذا بأسا، وقد كان الناس ولهم مصاحف، والستة الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم كانت لهم مصاحف) (3).
وقال ابن وهب رحمه الله تعالى: (أخبرني مالك بن أنس قال: أقرأ عبد الله بن مسعود رجلا: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} (4){طَعَامُ الْأَثِيمِ} (5)، فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال له ابن مسعود: طعام الفاجر. فقلت لمالك: أترى أن يقرأ كذلك؟
(1) أصول السرخسي (1/ 279، 280).
(2)
صحيح البخاري الخصومات (2419)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (818)، سنن الترمذي القراءات (2943)، سنن النسائي الافتتاح (938)، سنن أبو داود الصلاة (1475)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 43)، موطأ مالك النداء للصلاة (472).
(3)
التمهيد (8/ 292).
(4)
سورة الدخان الآية 43
(5)
سورة الدخان الآية 44
قال: نعم أرى ذلك واسعا) (1).
وأيضا فقد ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- في إحدى الروايتين عنه، وذهب إليه بعض أصحابه وبعض الشافعية (2).
واحتجوا لذلك: بأن الصحابة --رضي الله تعالى عنهم-- كانوا يقرؤون بالقراءة الشاذة في الصلاة.
وكان المسلمون يصلون خلف أصحاب هذه القراءات كالحسن البصري، وطلحة بن مصرف، والأعمش، وغيرهم من أضرابهم، ولم ينكر ذلك أحد عليهم (3).
ولو لم يروا جواز ذلك لما قرءوه في الصلاة.
وحيث جوز أصحاب هذا القول قراءة الشاذ في الصلاة وغيرها، فقد فرعوا على ذلك صحة الصلاة بالقراءة الشاذة.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: (وكذلك لا يجب على الإنسان التقيد بقراءة السبعة المشهورين باتفاق المسلمين، بل إذا وافقت القراءة رسم المصحف الإمام، وصحت في العربية، وصح سندها جازت القراءة بها وصحت الصلاة بها اتفاقا، بل لو قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان وقد قرأ بها رسول الله صلى الله
(1) التمهيد (8/ 292)
(2)
مجموع الفتاوى (13/ 394)، شرح الكوكب المنير (2/ 136 - 137)
(3)
مجموع الفتاوى (13/ 394)، شرح الكوكب المنير (2/ 137)
عليه وسلم والصحابة بعده جازت القراءة بها ولم تبطل الصلاة بها على أصح الأقوال) (1).
بيان الراجح في المسألة:
من خلال استعراض رأي الفريقين القائلين بجواز قراءة الشاذ وعدمه، يترجح لدي عدم جواز قراءة الشاذ وبخاصة في الصلاة؛ وذلك لأن القراءة الشاذة لا تسمى قرآنا على الأصح، وإنما هي منزلة منزلة الخبر فلا يحكم لها بأنها قرآن، ولا يجوز قراءة ما لم تثبت قراءته في الصلاة، ولا تصح الصلاة بتلك القراءة.
وما روي عن بعض الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- أنهم كانوا يقرءون الشاذ في الصلاة لا يخرج عن أحد احتمالين:
الاحتمال الأول: أنهم كانوا يفعلون ذلك قبل العرضة الأخيرة.
الاحتمال الثاني: أنهم كانوا يفعلون ذلك قبل إجماعهم على المصحف العثماني.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: (هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن جبريل عليه السلام كان
(1) إعلام الموقعين (4/ 263).