الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلنا: هناك ترك واجبا فلم يسقط بخروجه حتى يصير إلى مسافة القصر، لأنه يكون إنشاء سفر طويل غير الأول، وهاهنا لم يكن واجبا، ولا يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما.
وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله:
ثم إذا نفر من منى، فإن بات بالمحصب - وهو الأبطح، وهو ما بين الجبلين إلى المقبرة- ثم نفر بعد ذلك فحسن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بات، وخرج، ولم يقم بمكة بعد صدوره من منى، لكنه ودع البيت، وقال:«لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1)» فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت، فيطوف طواف الوداع، حتى يكون آخر عهده بالبيت، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه.
وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها، لكن إن قضى حاجته، أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ليحمل المتاع على دابته، ونحو ذلك مما هو من أسباب الرحيل، فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع أعاده، وهذا الطواف واجب عند الجمهور، لكن يسقط عن الحائض.
(1) صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، سنن الدارمي المناسك (1932).
وقال ابن جاسر (1) وفقه الله:
فإذا أتى مكة متعجل، أو غيره وأراد خروجا لبلده أو غيره،
(1) مفيد الأنام ونور الظلام، ج 2 ص (127 - 137).
لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف، إذا فرغ من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«حتى يكون آخر عهده بالبيت (1)» إن لم يقم بمكة أو حرمها، فإن أقام بمكة أو حرمها فلا وداع عليه، وهو على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم، سواء كان حرا، أو عبدا، ذكرا، أو أنثى، صغيرا، أو كبيرا، وتقدم في أول فصل من هذا الكتاب حكم طواف الصغير، فليراجع عند الاحتياج إليه، ودليل ذلك ما روى ابن عباس قال:«أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2)» متفق عليه، وفي رواية عنه قال:«كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (3)» رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وعن ابن عباس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة (4)» رواه أحمد، وعن عائشة قالت:«حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت، قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أحابستنا هي " قلت: يا رسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال: " فلتنفر إذا") (5)» متفق عليه، ومن كان خارج الحرم ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع، سواء أراد الرجوع إلى بلده أو غيره لما تقدم، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت فيطوف طواف
(1) صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 431)، سنن الدارمي المناسك (1932).
(2)
صحيح البخاري الحج (1755)، صحيح مسلم الحج (1328)، سنن الدارمي المناسك (1934).
(3)
صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 431)، سنن الدارمي المناسك (1932).
(4)
صحيح مسلم الحج (1328)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 370).
(5)
صحيح مسلم الحج (1211)، سنن الترمذي الحج (943)، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391)، سنن أبو داود المناسك (2003)، سنن ابن ماجه المناسك (3072)، موطأ مالك الحج (945)، سنن الدارمي المناسك (1917).
الوداع حتى يكون آخر عهده بالبيت، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه، وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة، حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ولا نحوها، لكن إن قضى حاجته، أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ليحمل المتاع على دابته ونحو ذلك، مما هو أسباب الرحيل فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع أعاده، وهذا الطواف واجب عند الجمهور، ولكن يسقط عن الحائض) انتهى كلامه.
ومن مفهومه يؤخذ أنه لو دخل منزله بعد طواف الوداع فاشتغل فيه بغير ما هو من أسباب الرحيل أنه يلزمه إعادة الوداع، وبالأولى لو ودع في الليل ونام في بيته أو غيره من مساكن مكة أو ما يدخل في مسماها؛ لأن هذا يعد إقامة، وينافي مقتضى الحديث الذي نص فيه بأن يكون آخر عهده بالبيت، أما لو ودع البيت ثم انتظر وداع رفقته حتى يسافروا جميعا، فإنه لا يضر هذا الانتظار إذا لم يشتغل بعد الوداع بما هو ممنوع منه. والله أعلم.
وقال في الترغيب والتلخيص: لا يجب طواف الوداع على غير الحاج، قال في الفروع:(وإن خرج غير حاج فظاهر كلام شيخنا لا يودع) انتهى.
قلت: كلام شيخ الإسلام يخالف ما استظهره في الفروع، قال شيخ الإسلام:(طواف الوداع ليس من الحج وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة) انتهى. والمذهب وجوبه على كل من
أراد الخروج من " مكة وبلده غير الحرم.
(هذا بحث. نفيس مهم لا تجده في غير هذا الكتاب) وهو أن يقال: هل يجوز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة بعده بمنى والبيع والشراء فيه أم لا؟
فنقول وبالله التوفيق: قال في المنتهى وشرحه: (فإذا أتى مكة متعجل أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف) انتهى ملخصا، قال الشيخ عثمان النجدي:(فهم منه أنه لو سافر إلى بلده من منى ولم يأت مكة لا وداع عليه، صرح به في الإقناع عن الشيخ تقي الدين في موضع) انتهى.
قلت: (لم أجد ذلك في الإقناع بعد المراجعة مرارا اللهم إلا أن يكون مراده قوله الآتي: وطواف الوداع ليس من الحج. . إلى آخره. وهذا ليس بصريح فيما قاله عن الشيخ تقي الدين).
وقال النووي الشافعي: (ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع) انتهى، قال ابن حجر المكي:(أي بعد نفره وإن كان قد طاف قبل عوده من مكة إلى منى كما في المجموع) انتهى، وقال ابن نصر الله البغدادي الحنبلي في حواشي الكافي:(وظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج، ولو لم يكن طريق بلده عليها لوجوب طواف الوداع عليه ولم يصرحوا به).
وقال ابن نصر أيضا: (قوة كلام الأصحاب أن أول وقت
طواف الوداع بعد أيام منى، فلو ودع قبلها لم يجزئه ولم أجد به تصريحا، ويؤخذ ذلك من قولهم: من أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الزيارة والوداع، ولم يقولوا من اكتفى بطواف الزيارة يوم النحر عن طواف الوداع ولم يعد إلى مكة) انتهى.
قلت: (بل قد صرح به المغني حيث قال: فيما يأتي كما لو طافه قبل حل النفر، أي فإنه لا يجزئه) قال في المغني: (ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى يكون آخر عهده بالبيت (1)» انتهى، قال في الإنصاف:(وظاهر كلام المصنف- يعني الموفق - أن طواف الوداع يجب ولو لم يكن بمكة، قال في الفروع: وهو ظاهر كلامهم، قال الآجري: يطوفه من أراد الخروج من مكة أو من منى أو من نفر آخر) انتهى، وفي أثناء كلام للشيخ يحيى بن عطوة النجدي تلميذ الشيخ العسكري قال:(وأخبرنا جماعة أن الشويكي أفتاهم بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر، والفراغ من واجبات الحج، والبيع والشراء والإقامة بعده بمنى، ونقلوا عنه أنه بالغ حتى نسب ذلك إلى جميع الأصحاب، ولو تحقق ما صرح به الزركشي والمغني والشرح الكبير" وغيرها من كتب الأصحاب ما قال ما قال)، قال الخرقي: فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت، قال الزركشي: والمراد الخروج من الحرم، قال في الشرح: ووقته
(1) صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 431)، سنن الدارمي المناسك (1932).
بعد فراغ " المرء من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت، وكذا قال في المغني، قال: ولقد كشفت قريبا من خمسين كتاب من كتب المذهب فلم أظفر فيها بما نسبه هذا المتفقه إليهم، وأفتى به عنهم، وأنا أتعجب منه كيف صدرت منه هذه النسبة إلى جميع الأصحاب، والصريح عنهم العكس، ولعله دخل عليه اللبس من لفظ الخروج من كلام الخرقي، وتوهم أنه الخروج من مكة وليس كذلك، فقد صرح الزركشي أن مراد الخرقي الخروج من الحرم، ولعله ذهل عن وقت الطواف: أعني طواف الوداع، ولو حقق النظر في المغني والشرح الكبير وغيرهما لزالت عنه ضبابة الشك، ولعله اعتمد على ما وجهه ابن مفلح في فروعه قال: فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه، ومراده بعد حل النفر ودخول وقت الوداع، هذا مع تسليم جواز الإفتاء بالتوجيه المذكور، وجواز اعتماد المقلد عليه من غير نظر في الترجيح) انتهى كلام ابن عطوة. قلت: أما لفظ الخروج فهو صريح في كلام الأصحاب أنه الخروج من مكة، خلافا لما فهمه الشيخ ابن عطوة، قال الخرقي:(فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت يطوف به سبعا ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره حتى يكون آخره عهده بالبيت، قال الموفق في المغني: وجملة ذلك أن من أتى مكة لا يخلو: إما أن يريد الإقامة بها، أو الخروج منها، فإن أقام بها فلا وداع عليه، فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع، وهو واجب من تركه لزمه دم) انتهى
ملخصا، ومثله في الشرح الكبير، قال في الإقناع وشرحه:(فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع البيت بالطواف. . . إلى إن قال وهو على كل خارج من مكة! انتهى ملخصا، قال في المنتهى وشرحه: (فإذا أتى مكة متعجل أو غيره وأراد خروجا لبلده أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف) انتهى، وقال في الإقناع أيضا:(قال الشيخ وطواف الوداع ليس من الحج، وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة، قال في المستوعب: ومتى أراد الحاج الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع) انتهى، وأما فتوى الشيخ الشويكي بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة في منى فلا تسلم له صحة فتواه هذه؛ لما تقدم عن ابن نصر الله أن ظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج، ولو لم يكن طريق بلده عليها لوجوب طواف الوداع عليه، ولما تقدم عنه أيضا: أن قوة كلام الأصحاب أن أول وقت طواف الوداع بعد أيام منى، فلو ودع قبلها لم يجزئه، قال في المغني بعد كلام سبق:(ولأنه إذا أقام بعده أي: طواف الوداع خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزئه، كما لو طافه قبل حل النفر. . الخ) فجعل صاحب المغني ما إذا طاف الوداع قبل حل النفر أصلا في عدم الإجزاء، وقاس عليه من ودع بعد حل النفر، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة، فعلم عنه أنه لو طاف للوداع قبل حل النفر وهو ثاني عشر ذي الحجة أنه لا يجزئه، لأن وقت طواف الوداع لا يدخل إلا بعد حل النفر. والله أعلم، ومثله في
الشرح الكبير، وأما توجيه صاحب الفروع الذي نصه:(فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه) فمراده والله أعلم إذا كان طاف للوداع بعد حل النفر ودخول وقت الوداع، وقد نص العلماء: أن وقت طواف الوداع إذا فرغ من جميع أموره، ومن كان بقي عليه المبيت ليالي منى ورمي الجمار، فإنه لا يكون قد فرغ من جميع أموره بل بقي عليه شيء من واجبات الحج، أما إذا نفر من منى النفر الأول أو الآخر، ثم ودع البيت وسافر ونزل خارجا عن بنيان مكة للبيتوتة أو المقيل أو غيرهما، سواء كان ذلك النزول بمنى أو غيرها من بقاع الحرم المنفصلة عن مسمى بنيان مكة، فلا يلزمه إعادة طواف الوداع لأنه قد سافر من مكة وليس مقيما بها بعد الوداع، هذا ما ظهر لي في تحرير هذه المسألة التي طال فيها النزاع قديما وحديثا والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفي التحفة للشافعية: (وإذا أراد الحاج أو المعتمر المكي وغيره الخروج من مكة أو منى عقب نفره منها، وإن كان طاف للوداع عقب طواف الإفاضة عند عوده إليها طاف وجوبا للوداع إذ لا يعتد به، ولا يسمى طواف وداع إلا بعد فراغ جميع النسك) انتهى ملخصا بتصرف في التقديم والتأخير.
قال في المغني: (فصل) ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يخرج حتى يودع البيت، وهذا قول أبي ثور وقياس قول مالك ذكره ابن القاسم، وقال أصحاب الرأي في
أهل بستان ابن عامر وأهل المواقيت إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام بدليل سقوط دم المتعة عنهم، ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1)» ولأنه خارج عن الحرم فلزمه التوديع كالبعيد) انتهى، وكذا في الشرح الكبير، قال في الإقناع وشرحه:(ومن كان خارجه: أي خارج الحرم، ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع وهو على كل خارج من مكة) انتهى ملخصا، وتقدم أول الفصل أنه إذا أقام بمكة أو حرمها لا وداع عليه، وأنه على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم، ثم بعد طواف الوداع يصلي ركعتين خلف المقام كسائر الطوافات، قال في المنتهى والإقناع وغيرهما: ويأتي الحطيم نصا أيضا وهو تحت الميزاب فيدعو) انتهى.
قال في الإقناع وشرحه: (فإن خرج قبله: أي قبل الوداع فعليه الرجوع إليه، أي إلى الوداع لفعله إن كان قريبا دون مسافة القصر ولم يخف على نفسه أو ماله أو فوات رفقته أو غير ذلك من الأعذار ولا شيء عليه إذا رجع قريبا سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا، لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر فإن لم يمكنه الرجوع لعذر مما تقدم أو لغيره أو أمكنه الرجوع للوداع ولم يرجع، أو بعد مسافة قصر عن مكة فعليه دم رجع إلى مكة وطاف للوداع أو لا، لأنه قد استقر عليه ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه، كمن تجاوز الميقات بغير إحرام ثم أحرم ثم رجع إلى الميقات، وسواء تركه أي طواف الوداع
(1) صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، سنن الدارمي المناسك (1932).
عمدا أو خطأ أو نسيانا لعذر أو غيره، لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره، كسائر واجبات الحج، ومتى رجع مع القرب لم يلزمه إحرام، لأنه في حكم الحاضر ويلزمه مع البعد الإحرام بعمرة يأتي بها فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر ثم يطوف للوداع إذا فرغ من أموره) انتهى.
قال الخرقي: (مسألة) فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب، وإن بعد بعث بدم، قال في المغني: هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور، والقريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، والبعيد من بلغ مسافة القصر، نص عليه أحمد، وهو قول الشافعي، وكان عطاء يرى الطائف قريبا، وقال الثوري: حد ذلك الحرم فمن كان في الحرم فهو قريب ومن خرج منه فهو بعيد، ووجه القول الأول: أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر، ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام، وقد روي (أن عمر رد رجلا من مر إلى مكة ليكون آخر عهده بالبيت) رواه سعيد، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم، ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره كسائر واجباته، فإن رجع البعيد فطاف الوداع، فقال القاضي: لا يسقط عنه الدم لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه، كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه، وإن رجع القريب فطاف فلا دم
عليه، سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا، لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر، ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب.
(فصل) إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرما، لأنه ليس من أهل الأعذار، فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي، وطواف لوداعه، وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من الخلاف، وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه، فأما إن رجع القريب فظاهر قول من ذكرنا قوله: أنه لا يلزمه إحرام لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به، فأشبه من رجع لطواف الزيارة، فإن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة، فقال أحمد: أحب إلي أن لا يدخل إلا محرما، وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف، وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك إنما دخل لحاجة غير متكررة، فأشبه من يدخلها للإقامة بها) انتهى كلام صاحب المغني، ومثله في الشرح الكبير ونصه:(وإن أخر طواف الزيارة أو القدوم فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الوداع).
قال الشيخ مرعي في الغاية: (ويتجه من تعليلهم ولو لم ينو طواف الوداع حال شروعه في طواف الزيارة أو القدوم) انتهى لأن المأمور به إن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل، ولأنهما عبادتان من جنس فأجزأت إحداهما عن الأخرى، ولأن ما شرع مثل تحية المسجد يجزئ عنه الواجب من جنسه، كإجزاء المكتوبة عن تحية المسجد، وكإجزاء المكتوبة أيضا عن ركعتي
الطواف، وعن ركعتي الإحرام، وكغسل الجنابة عن غسل الجمعة، فإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة ولو كان ناسيا لطواف الزيارة، لأنه لم ينوه، وفي الحديث:«وإنما لكل امرئ ما نوى (1)» .
فإن قيل: كيف يتصور إجزاء طواف القدوم عن طواف الوداع، وقد قال الأصحاب: ثم يفيض إلى مكة فيطوف مفرد وقارن لم يدخلاها قبل للقدوم برمل ثم للزيارة؟ قلنا: يتصور فيما إذا لم يكن دخل مكة لضيق وقت الوقوف بعرفة مثلا، وقصد عرفات فلما رجع منها طاف للزيارة أولا، ثم طاف للقدوم إما نسيانا أو غيره، فطواف القدوم هذا وإن كان متأخرا عن طواف الزيارة يكفيه عن طواف الوداع، وهذا على القول بسنية طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة للمتمتع وللمفرد والقارن اللذين لم يدخلا مكة قبل وقوفهما بعرفة، وهو نص الإمام أحمد، اختاره الخرقي، أما على اختيار الموفق، والشارح، وشيخ الإسلام، وابن القيم، وابن رجب، فلا يسن طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة، وهو الذي تدل عليه السنة، كما تقدم في فصل:(ثم يفيض إلى مكة، ويكتفي بطواف الزيارة الذي هو ركن في الحج) والله أعلم، ولا وداع على حائض ونفساء لحديث ابن عباس وفيه:«إلا أنه خفف عن الحائض (2)» وتقدم، والنفساء في معناها، لأن حكمه حكم الحيض فيما يمنعه وغيره، ولا فدية على الحائض والنفساء، لظاهر حديث صفية المتقدم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بفدية إلا أن تطهر الحائض والنفساء قبل
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1)، صحيح مسلم الإمارة (1907)، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647)، سنن النسائي الطهارة (75)، سنن أبو داود الطلاق (2201)، سنن ابن ماجه الزهد (4227)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 43).
(2)
صحيح البخاري الحج (1755)، صحيح مسلم الحج (1328)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 431)، سنن الدارمي المناسك (1934).
مفارقة بنيان مكة فيلزمهما العود ويغتسلان للحيض والنفاس، لأنهما في حكم المقيم بدليل أنهما لا يستبيحان الرخص قبل مفارقة البنيان ثم يودعان، فإن لم تعودا للوداع مع طهرهما قبل مفارقة البنيان ولو لعذر فعليهما دم لتركهما نسكا واجبة، فأما إن فارقت الحائض والنفساء البنيان قبل طهرهما لم يجب عليهما الرجوع لخروجهما عن حكم الحاضر، فإن قيل: فلم لا يجب الرجوع عليهما مع القرب كما يجب على الخارج لغير عذر؟ قلنا: هناك ترك واجبا فلم يسقط بخروجه مع القرب كما تقدم تفصيله، وههنا لم يكن واجبا عليهم ولم يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما وهما حين الإقامة لا يجب عليهما لحصول الحيض والنفاس والله أعلم، وأما المعذور غير الحائض والنفساء كالمريض ونحوه فعليه دم إذا ترك طواف الوداع لأن الواجب لا يسقط جبرانه بالعذر) وتقدم.
قال ابن حزم رحمه الله:
(وأما قولنا: من أراد أن يخرج من مكة من معتمر أو قارن أو متمتع بالعمرة إلى الحج ففرض عليه أن يجعل آخر عمله الطواف بالبيت، فإن تردد بمكة بعد ذلك أعاد الطواف ولا بد، فإن خرج ولم يطف بالبيت ففرض عليه الرجوع ولو كان بلده بأقصى الدنيا حتى يطوف بالبيت، فإن خرج عن منازل مكة فتردد خارجا ماشيا فليس عليه أن يعيد الطواف، إلا التي تحيض بعد أن تطوف طواف الإفاضة فليس عليها أن تنتظر طهرها لتطوف لكن تخرج كما هي، فإن حاضت قبل طواف الإفاضة فلا بد لها أن
تنتظر حتى تطهر وتطوف وتحبس عليها الكرى والرفقة، فلما رويناه من طريق مسلم قال: نا سعيد بن منصور نا سفيان عن سليمان الأحول عن طاوس عن ابن عباس قال: «كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله: " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1)» ومن طريق مسلم نا محمد بن رمح نا الليث عن ابن شهاب عن أبي سلمة- وهو عبد الرحمن بن عوف - أن عائشة أم المؤمنين قالت: «حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: " أحابستنا هي؟ " فقلت يا رسول الله: إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلتنفر (2)» . قال أبو محمد: فمن خرج ولم يودع من غير الحائض فقد ترك فرضا لازما فعليه أن يؤديه، روينا من طريق وكيع عن إبراهيم بن يزيد عن أبي الزبير بن عبد الله:(أن قوما نفروا ولم يودعوا فردهم عمر بن الخطاب حتى ودعوا).
قال علي: ولم يخص عمر موضعا عن موضع، وقال مالك: بتحديد مكان إذا بلغه لم يرجع منه، وهذا قول لم يوجبه نص ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب، ومن طريق عبد الرزاق نا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن نافع قال:(رد عمر بن الخطاب نساء من ثنية هرشى كن أفضن يوم النحر ثم حضن فنفرن فردهن حتى يطهرن ويطفن بالبيت ثم بلغ عمر بعد ذلك حديث غير ما صنع فترك صنعه الأول).
(1) صحيح مسلم الحج (1327)، سنن أبو داود المناسك (2002)، سنن ابن ماجه المناسك (3070)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 431)، سنن الدارمي المناسك (1932).
(2)
صحيح مسلم الحج (1211)، سنن الترمذي الحج (943)، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391)، سنن أبو داود المناسك (2003)، سنن ابن ماجه المناسك (3072)، موطأ مالك الحج (945)، سنن الدارمي المناسك (1917).
قال أبو محمد: هرشى هي نصف الطريق من المدينة إلى مكة بين الأبواء والجحفة على فرسخين من الأبواء، وبها علمان مبنيان علامة لأنه نصف الطريق، وقد روي أثر من طريق أبي عوانة عن يعلى بن عطاء عن الوليد بن عبد الرحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوسى:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب أفتياه في المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض أن يكون آخر عهدها بالبيت (1)» .
قال أبو محمد: الوليد بن عبد الرحمن غير معروف، ثم لو صح لكان داخلا في جملة أمره عليه السلام أن لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت وعمومه، وكأن يكون أمره عليه السلام الحائض التي أفاضت بأن تنفر حكما زائدا مبنيا على النهي المذكور مستثنى منه ليستعمل الخبران معا ولا يخالف شيء منهيا. وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولنا من ترك عمدا أو بنسيان شيئا من طواف الإفاضة أو من السعي الواجب بين الصفا والمروة فليرجع أيضا كما ذكرنا ممتنعا من النساء حتى يطوف بالبيت ما بقي عليه، فإن خرج ذو الحجة قبل أن يطوف فقد بطل حجه، وليس عليه في رجوعه لطواف الوداع أن يمتنع من النساء فلأن طواف الإفاضة فرض.
وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (2) وقد ذكرنا أنها
(1) سنن الترمذي الحج (946)، سنن أبو داود المناسك (2004)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 416).
(2)
سورة البقرة الآية 197