الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التوكل وأثره التربوي في الكتاب والسنة
د. مسفر بن سعيد بن دماس الغامدي
(1)
.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه الأطهار الطيبين. أما بعد:
فالمتأمل في أحوال المسلمين أفرادا وجماعات، قبائل وشعوبا، دولا وتجمعات يقف على حقيقة مرة، هذه الحقيقة تستحق من كل غيور الدراسة والبحث وإيجاد الحلول. . . ألا وهي:(ضعف التوكل على الله).
فمعظم الناس قد اعتمدوا على الأسباب في رزقهم، وفي جميع أمورهم، أما في الأزمات فترى عجبا، إذ إن غالب المسلمين حكاما ومحكومين اعتمدوا على أعدائهم، ونسوا أن الله هو أقوى الأقوياء، وأنه إنما يقول للشيء كن فيكون، وأنه أرأف وأرحم بعباده من أنفسهم بأنفسهم.
(1) أستاذ الحديث المساعد بكلية المعلمين بمكة المكرمة، وقد سبقت ترجمته في العدد (41) ص (283).
والسبب في نظري جهلهم الكبير بحقائق الدين، فالكثير من المنتسبين للدين الإسلامي لم يعرفوا هذا الإله العظيم حق المعرفة {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (1).
ولم يدركوا حقيقة سر وجودهم في الحياة، ولم يتعلموا العلم الشرعي الذي ينير لهم دروب الحياة، فوقعوا فيما وقعوا فيه، وأصبحت حياتهم يكتنفها الخوف والقلق، وعدم الاستقرار، وصار الوقت والجهد والمال والعمر والأولاد. . . أشياء غير مباركة، بل صارت مصدر شقاء وعناء ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإسهاما مني في محاولة معالجة هذا الخلل العقدي كان هذا البحث، وقد بذلت ما استطعت محاولا الإجادة، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، والله أسأل أن ينفع به الكاتب والقارئ، وأن يجعله في ميزان الحسنات.
مقدمة في معنى التوكل، ومنازل الناس فيه، ودرجاته:
أولا: معنى التوكل:
التوكل له في اللغة معان عديدة منها:
أ- التكفل: يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، وجاء في الحديث:«من توكل بما بين لحييه ورجليه، توكلت له بالجنة (2)» أي من تكفل بما بين لحييه تكفلت له بالجنة (3).
(1) سورة الحج الآية 74
(2)
صحيح البخاري الحدود (6807)، سنن الترمذي الزهد (2408)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 333).
(3)
النهاية لابن الأثير (5/ 321).
ب- الاعتماد على الغير: تقول: وكلت أمري إلى فلان، أي اعتمدت فيه عليه، ويقال: وكل فلان فلانا: أي اعتمد عليه في أمور نفسه ثقة بكفايته (1).
أما في الاصطلاح فقد ذكر العلماء له تعريفات عديدة اختلفت عباراتها واتحد معناها ومنها:
التوكل: حركة ذات الإنسان في الأسباب بالظاهر والباطن. وسكون إلى المسبب وركون إليه بحيث لا يضطرب قلبه معه ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصلة إلى رضاه (2).
ويتضح من هذا التعريف أن التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب، بل إنه لا يصح إلا مع القيام بها، ومن ثم فقد نقل ابن القيم الإجماع على أن ترك الأخذ بالأسباب يؤدي إلى عدم صحة التوكل.
ويجب على المسلم ألا يتوكل إلا على الله سبحانه فهو نعم الوكيل كما جاء في القرآن الكريم: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (3).
كما أنه تعالى قد حذر من اتخاذ وكيل غيره فقال: {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} (4)
(1) لسان العرب (11/ 734 - 736).
(2)
مدارج السالكين (2/ 114 - 117).
(3)
سورة آل عمران الآية 173
(4)
سورة الإسراء الآية 2
ولذلك فإن خليل الرحمن، وهو في وقت الشدة نراه يقول لجبريل عليه السلام:"أما إليك فلا. . . " وذلك عندما قال له: "ألك حاجة"؟ (1).
والوكيل: فعليل من التوكل ومعناه: المتوكل عليه الذي تفوض إليه أمورنا فيوصل إلينا النفع ويدفع عنا الضر.
ثانيا: منازل الناس في التوكل:
قال ابن القيم: "فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابه، وتنفيذ أوامره.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في استقامته في نفسه وحفظ حاله مع الله فارغا عن الناس.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في معلوم يناله منه، من رزق أو عافية أو نصر على عدو، أو زوجة، أو ولد، ونحو ذلك.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش، فإن أصحاب هذه المطالب، لا ينالونها غالبا إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه، بل قد يكون توكلهم أقوى من توكل كثير من أصحاب الطاعات، ولهذا يلقون أنفسهم في
(1) ذكر ذلك ابن كثير في (تفسير القرآن العظيم) ج (5) ص (45) ط الشعبي.
المتالف والمهالك معتمدين على الله أن يسلمهم، ويظفرهم بمطالبهم.
ثم الناس بعد التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمن متوكل على الله في حصول الملك، ومن متوكل في حصول رغيف.
ومن صدق توكله على الله في الحصول على شيء ناله، فإن كان محبوبا له مرضيا كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطا مبغوضا كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه، وإن كان مباحا حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه، وإن لم يستعن به على طاعاته، والله أعلم " (1).
أما حال أهل هذا الزمان فهو مخالف لما يجب أن يكون عليه أهل الإيمان وأهل التوكل.
فنرى الدول الإسلامية قد ركنت إلى الدول الغربية أو الشرقية (الكفار) بل وكثير من هذه الدول الإسلامية تفتخر بصداقاتها وولائها وحبها لهذه الدول الكافرة، بل وحكمتها في شعوبها وثرواتها وأخلاقها وغير ذلك، وما ذاك إلا خوفا من هذه الدول الكافرة، وجهلا بالله وبشرعه المطهر؛ مما ترتب على ذلك تحكيم للقوانين الوضعية الكافرة، وإقصاء للشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله لعباده وأوليائه.
(1) مدارج السالكين (2/ 113).
والمخرج من هذا الوضع هو الرجوع إلى الله بتحكيم شرع الله والالتجاء على الله والتوكل عليه لأنه أقوى الأقوياء، وناصر الضعفاء ومعز الأولياء وداحر الأعداء.
أما على مستوى الأفراد فلا شك أنهم أيضا - إلا من رحم الله - قد ركنوا إلى الأسباب، وتركوا المسبب، واعتمدوا على أنفسهم في الأرزاق وفي كل الأحوال، وابتعدوا عن الله القادر الرازق. وسبب ذلك؛ الجهل بالله وبدين الله، والمخرج من ذلك كله هو تعلم دين الله ومعرفة الله بأسمائه وصفاته، والرجوع إليه في كل كبير وصغير وجليل وحقير.
والأمة الإسلامية مطالبة بتحكيم دين الله في العقيدة والشريعة وفي العبادات والمعاملات، وفي الأخلاق والعلاقات، وفي كل نواحي الحياة حتى تعود لها كرامتها وعزتها ومجدها وحتى يندحر الأعداء ويذلوا ويخضعوا للإسلام وأهله صاغرين والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل.
ثالثا: درجات التوكل:
إن التوكل درجات، وأفضله: التوكل في الواجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس، وأوسعه وأنفعه: التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهو توكل ورثتهم (1)
(1) مدارج السالكين (2/ 113).
والتوكل ثلاث درجات:
1 -
التوكل: وهو البداية، فالمتوكل يسكن إلى وعد ربه، والتوكل صفة المؤمنين، وصفة الأنبياء.
2 -
التسليم: وهو واسطة، وصاحب التسليم، يكتفي بعلم ربه، والتسليم صفة الأولياء، وهو صفة إبراهيم الخليل.
3 -
التفويض: وهو النهاية، وصاحب التفويض يرضى بحكم ربه، والتفويض صفة الموحدين، وهو صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى هذا:
التوكل: اعتماد على الوكيل، وقد يعتمد الرجل على وكيله مع نوع اقتراح عليه، وإرادة وشائبة منازعة. فإذا سلم إليه زال عنه ذلك، ورضي بما يفعله وكيله، وحال المفوض فوق هذا، فإنه طالب مريد ممن فوض إليه، ملتمس منه أن يتولى أموره، فهو رضا واختيار، وتسليم واعتماد.
فالتوكل يندرج في التسليم، وهو والتسليم يندرجان في التفويض والله أعلم (1)
(1) ذكره ابن القيم في (مدراج السالكين)(2/ 117) وعزا هذا التقسيم إلى أبي علي الدقاق.