الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- ترجمت للرواة الذين تدعو الحاجة إلى الترجمة لهم، كمن يدور الحكم في الحديث عليه من كتب الرجال باختصار.
- أبين الغريب الذي يحتاج إلى بيان من كتب الغريب واللغة.
- أبين ما في الحديث من فوائد من كتب شروح الحديث.
- عملت ثبتا للمصادر والمراجع، وفهرسا للموضوعات.
وأخيرا فإني حاولت حسب جهدي وطاقتي إخراج هذا البحث على الوجه اللائق، فما كان من صواب فهو من توفيق الله عز وجل وأحمده على ذلك، وما كان فيه غير ذلك فاسأل الله أن يعفو عني فيه ويتجاوز، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
تمهيد:
وفيه
تعريف المزاح
لغة واصطلاحا وبيان أحكامه.
لقد عرفه أهل اللغة بأنه الدعابة ونقيض الجد.
قال ابن منظور: المزح الدعابة، وفي المحكم: المزح نقيض الجد، مزح يمزح مزحا، ومزاحا ومزاحة، وقد مازحه ممازحة ومزاحا، والاسم المزاح بالضم والمزاحة أيضا. . . والمزاح بالكسر: مصدر مازحه، وهما يتمازحان. . والمزح من الرجال الخارجون
عن طبع الثقلاء، المتميزون من طبع البغضاء (1).
وأما في عرف الشرع فقد عرفه الزبيدي بقوله: هو المباسطة إلى الغير على جهة التلطف والاستعطاف دون أذية حتى يخرج الاستهزاء والسخرية، وقد قال الأئمة: الإكثار منه، والخروج عن الجد مخل بالمروءة والوقار، والتنزه عنه بالمرة والتقبض مخل بالسنة والسيرة النبوية المأمور باتباعها والاقتداء، وخير الأمور أوسطها (2).
(1) لسان العرب: 2/ 593
(2)
تاج العروس من جواهر القاموس: 2/ 322.
وأما حكمه: فإن المزاح الخالي من الموانع التي تعكر صفو الخواطر مندوب إليه، وهو خلق كريم حث عليه الشارع الحكيم.
(1) رواه الترمذي في كتاب البر والصلة، من حديث جابر بن عبد الله، رقم (2018) وقال: حسن غريب من هذا الوجه، وللحديث شواهد من حديث أبي ثعلبة الخشني عند أحمد في المسند، حديث (17732، 17743) وابن أبي شهبة في المصنف: 8/ 515، والخرائطي في مكارم الأخلاق ص 5، وابن حبان:(482) والطبراني في الكبير: (22/ 588) والبيهقي في شعب الإيمان حديث (7989) وله شاهد آخر من حديث ابن عباس عند البيهقي في الشعب حديث (7988) وحديث أبي ثعلبة قال عنه الهيثمي في المجمع: رجال أحمد رجال الصحيح. المجمع: 8/ 21. وأما حديث ابن عباس فقد حسنه السيوطي. انظر: فيض القدير: (3/ 619)، وصححه الشيخ ناصر الدين في صحيح الجامع الصغير:(3/ 118) حديث (3255)، وحسن حديث جابر في السلسلة الصحيحة (791) وقال: حديث حسن الإسناد وله شواهد، ذكر حديث أبي ثعلبة، وحديث ابن عباس كشواهد له
إن المسلم الذي يجمع إلى الجد الذي يسعى إليه روح الدعابة ومفاكهة الحديث وعذوبة المنطق، وترفه الحكمة يملك القلوب بجاذبية حديثه، ويأسر النفوس بلطيف معشره وكريم مداعبته.
ولكن هل للمسلم أن ينطلق في المزح والدعابة، كما يشاء وحيث أراد أم أنه يتقيد بالضوابط الشرعية.
والحقيقة أنها لا بد من التقيد بالشرع في كل ذلك لمعرفة المكروه من المزاح والمندوب إليه منه.
فالمكروه منه ما كان فيه إفراط بحيث يخرج المسلم عن مهمته الأساسية التي خلق من أجلها والتي هي عبادة خالقه جل وعلا، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1)
(1) سورة الذاريات الآية 56
والمقصود بالعبادة معناها الشامل، فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة (1).
أما إذا لم يكن فيه إفراط ولا شغل عن الله فهذا سنة وقد فعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تربوا في مدرسة النبوة، فقد كانوا يتمازحون فيما بينهم ولكن إذا جد الجد كانوا هم الرجال.
روى البخاري في الأدب المفرد بسنده إلى بكر بن عبد الله قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ)، (2) فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال (3).
إن المزاح المنهي عنه هو ما فيه إفراط؛ لأنه يسبب قسوة القلب ويشغل عن ذكر الله، والفكر في مهمات الدين، ويؤول في الكثير من الأوقات إلى الإيذاء، والحقد وسقوط المهابة والوقار (4).
(1) انظر: العبودية لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، المكتب الإسلامي، بيروت 1403 هـ
(2)
أي يترامون به، يقال: بدح يبدح إذا رمى. النهاية: (1/ 104)
(3)
الأدب المفرد للبخاري: 202، حديث 266، والحديث في السلسلة الصحيحة للشيخ ناصر الدين، حديث (435)
(4)
انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود: 14/ 106
ويقول الشيخ بدر الدين الغزي: "قد ورد في ذم المزح ومدحه أخبار، فحملنا ما ورد في ذمه على ما إذا وصل إلى حد المثابرة والإكثار، فإنه إزاحة عن الحقوق، ومخرج إلى القطيعة والعقوق، يصم المازح ويضيم المازح، فوصمه المازح أن يذهب عنه الهيبة والبهاء، ويجرئ عليه الغوغاء والسفهاء، ويورث الغل في قلوب الأكابر والنبهاء.
وأما إضامة الممازح فلأنه إذا قوبل بفعل ممض أو قول مستكره، وسكت عليه أحزن قلبه وأشغل فكره، أو قابل عليه جانب مع صاحبه حشمة وأدبا، وربما كان للعداوة والتباغض سببا، فإن الشر إذا فتح لا يستد، وسهم الأذى إذا أرسل لا يرتد، وقد يعرض العرض للهتك، والدماء للسفك، فحق العاقل (أن) (1) يتقيه وينزه نفسه عن وصمة مساويه " (2) وعلى هذا يحمل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعده موعدة فتخلفه (3)»
(1) ليست في الأصل وزدناها للتوضيح
(2)
المراح في المزاح لبدر الدين الغزي: 7، 8
(3)
سنن الترمذي في كتاب البر والصلة، حديث: 1995 وقال: (حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) والحديث فيه الليث بن أبي سليم، صدوق اختلط جدا ولم يميز حديثه فترك. ت: 464 وت ت: 8/ 465. فقد أعل الحديث به زين الدين العراقي في المغني عن حمل الأسفار، حديث: 187، والمناوي في فيض القدير: 6/ 546، وأورده الشيخ ناصر الدين في ضعيف الجامع الصغير: 6/ 77
وكما قرر الشيخ بدر الدين رحمه الله أن المزاح في أصله طريق إلى السرور والفرح، فإن الفرح نوعان كما أن المزاح نوعان، ففي الفرح خير وشر، كما أن في المزاح خيرا وشرا.
ولهذا فإن نظير هذا التفصيل وإن كان من قبيل آخر مع اجتماعه مع هذا الموضوع بجامع السرور الموجود في المزاح الطيب والسرور المحظور في المزاح السيئ، أقول: نظير ما جاء من التوجيه الرباني الذي يأمر الله تعالى فيه بالفرح فحينما يحصل الإنسان على النعم وينظر إلى ما بين يديه مما تفضل الله تعالى عليه به من النعمة الجزيلة التي تسره وتجعله يتوجه بها إلى استعمالها فيما يرضي الله عز وجل ليؤدي بعمله هذا واجب الشكر.
يقول الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) هكذا جاء الأمر في الآية بصيغة الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، وجاء النهي في كتاب الله تعالى عن الفرح المؤدي إلى الأشر
(1) سورة يونس الآية 58
والبطر والطغيان حيث يستعمل الإنسان نعم الله تعالى فيما يسخطه، فيكون بذلك جاحدا لفضله عليه سبحانه وتعالى، وهذا ما ذكره الله تعالى على لسان الناصحين لقارون حينما بطر نعم الله عليه وتفاخر وتعالى فقالوا له:{لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (1){وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (2){قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (3) وأما المزاح المندوب إليه فهو ما يجري بين الأهل والأقارب والإخوان والأصدقاء بشرط أن لا يكون فيه أذية لأحد، أو استخفاف به، وأن يكون قصد به تطييب نفس المخاطب ومؤانسته. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله على ندرة لمصلحة تطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهو سنة مستحبة (4).
قال الماوردي: (العاقل يتوخى بمزاحه حالين لا ثالث لهما:
أحدهما: إيناس المصاحبين، والتودد إلى المخاطبين، وهذا
(1) سورة القصص الآية 76
(2)
سورة القصص الآية 77
(3)
سورة القصص الآية 78
(4)
فتح الباري: 10/ 526، وتحفة الأحوزي: 6/ 125
يكون مما أنس من جميل القول وبسط من مستحسن الفعل.
والثاني: أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه وحدث به من هم وقد قيل لا بد من المصدور أن ينفس (1). وقد أوصى أحد السلف ابنه بوصية بليغة ينبغي لكل مازح استحضارها لئلا تزل قدمه، فقال:(لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا تمازح الدنيء فتهون عليه)(2).
ولم يكن مزح رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج عن الحالين السابقين.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأمزح ولا أقول إلا حقا (3)» .
قال المناوي:. رحمه الله قوله: «ولا (أقول إلا حقا (4)» لعصمتي
(1) انظر فيض القدير 3/ 18
(2)
ذكره الحافظ في ترجمته في الإصابة: 3/ 98
(3)
سنن الترمذي البر والصلة (1990)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 360).
(4)
سنن الترمذي البر والصلة (1990)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 360).
من الزلل في القول والعمل .. وإنما كان يمزح؛ لأن الناس مأمورين بالتأسي به والاقتداء بهديه، فلو ترك اللطافة والبشاشة ولزم العبوس والقطوب لأخذ الناس من أنفسهم بذلك على ما فيه مخالفة الغريزة من المشقة والعناء، فمزح ليمزحوا (1).
قلت: وهذا رحمة من الله بهذه الأمة، فحياة المسلم لو كانت كلها على سمت واحد لما رأيت أحدا يأنس بأخيه، لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحس أصحابه على بث روح المحبة والألفة بينهم رضي الله عنهم أجمعين فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق (2)» .
وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة على مزاحه ستأتي إن شاء الله تعالى.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم كثير المزاح، وإذا مازح فعل
(1) فيض القدير 3/ 18
(2)
مسلم باب استحباب طلاقة الوجه 144/ 2626، وأحمد في المسند 5/ 63