الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: مناظرة إبراهيم لقومه:
لما كان إبراهيم عليه السلام ممن أجمعت الملل والطوائف على الاعتراف بفضله لأن أكثرهم من نسله؛ كاليهود والنصارى والمشركين من العرب والمسلمين، ولما يعلمونه من إخلاصه لله تعالى واحتمال الأذى فيه، لذلك كثيرا ما احتج عليهم بأحوال إبراهيم عليه السلام (1) وفي سورة الأنعام بيان لمحاجة إبراهيم عليه السلام ومراجعته لقومه في باطل ما هم عليه مقيمين من عبادة الأوثان وابتدأها بقوله {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2)
فأنكر إبراهيم عليه السلام على أبيه التأله لصنم يعبد من دون الله، وهو التمثال يصنع على صورة وذكر له أن هذا الفعل فعل التائهين الذين لا يهتدون أين يسلكون؛ بل هم في حيرة وجهل وضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم حيث عبدوا من لا يستحق من العبادة شيئا، وتركوا عبادة خالقهم ورازقهم ومدبرهم (3).
وقد اختلف في اسم أبي إبراهيم، وهل كان قوله (آزر) اسم له أم صفة، على أقوال:
(1) ينظر التفسير الكبير، الرازي، 13/ 34، نظم الدرر، البقاعي، 2/ 657.
(2)
سورة الأنعام الآية 74
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 2/ 155، تيسير الكريم الرحمن، السعدي 2/ 423.
الأول: أنه اسم أبيه وهذا قول السدي ومحمد بن إسحاق حيث قال: آزر أبو إبراهيم وكان فيما ذكر لنا والله أعلم رجلا من أهل كوثي من قرية بالسواد سواد الكوفة (1)(2).
القول الثاني: أن اسم أبيه تارح وهو الوارد في التوراة (3) قال الفراء (وقد أجمع أهل النسب على أنه ابن تارح)(4).
وأما (آزر) فقالوا: إما أنه لقب له، أو أنه اسم صنم، فسمي به
(1) بالضم هي الحصر المشهور بأرض بابل من سواد العراق ومصرت في عهد عمر، معجم البلدان 4/ 491.
(2)
تفسير الطبري 11/ 465.
(3)
سفر التكوين، الإصحاح الحادي عشر، 27.
(4)
معاني القرآن، الفراء 1/ 340.
للزومه عبادته وخدمته إياه، أو أنه سب وعيب بكلامهم ومعناه: معوج فعابه بزيغه واعوجاجه عن الحق، وقال الضحاك: معنى آزر الشيخ الهرم بالفارسية.
وقيل: هي صفة ذم بلغتهم كأنه قال: يا مخطئ.
قال الطبري: فأولى القولين بالصواب من قال: هو اسم أبيه؛ لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه أبوه، وهو المحفوظ من قول أهل العلم، دون القول الآخر الذي زعم قائله أنه نعت. فإن قال قائل: فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى تارح فكيف يكون آزر اسما له، والمعروف به من الاسم تارح؟ قيل له: غير محال أن يكون كان له اسمان كما لكثير من الناس في دهرنا هذا، وكان ذلك فيما
مضى لكثير منهم، وجائز أن يكون لقبا يلقب به) (1).
ووافقه القرطبي ورد على من ادعى إجماع واتفاق أهل النسب على أن اسم والد إبراهيم تارح فقال: (ما ادعاه من الاتفاق ليس عليه وفاق فقد قال ابن إسحاق والكلبي والضحاك: إن آزر أبو إبراهيم وهو تارح مثل إسرائيل ويعقوب. قلت: فيكون له اسمان)(2).
(1) تفسير الطبري، 11/ 469.
(2)
تفسير القرطبي 7/ 22.
ثم قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (1)
أي وكما وفقناه وأريناه البصيرة في دينه والحق، نبين له وجه الدلالة في نظره إلى ملكوت السماوات والأرض، ويرى ببصيرته ما اشتملت عليه من الأدلة القاطعة على وحدانية الله عز وجل في ملكه
(1) سورة الأنعام الآية 75
وخلقه، وإنه لا إله غيره ولا رب سواه، ليكون عالما موقنا فإنه بحسب قيام الأدلة يحصل له الإيقان والعلم التام بجميع المطالب، وفي قوله:{وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (1) تنبيه على أنه صلى الله عليه وسلم وصل في معرفة ربه إلى مرتبة الإيقان بالاستدلال وإقامة البرهان بحيث قدر على إلزامهم (2) كما سيأتي.
والملكوت مصدر على زنة المبالغة كالرهبوت والجبروت ومعناه: الملك العظيم والسلطان القاهر، وقيل: ملكوتها: عجائبها وبدائعها؛ روي أنه كشف له عليه السلام عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين حتى جلى له الأمر سره وعلانيته فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب، قال الله إني أرحم بعبادي منك فرده الله كما كان قبل ذلك.
قال ابن كثير: في هذه المرويات: إنه لا تصح أسانيدها (3).
وقيل: آياتهما، وقيل: ملكوت السماوات: الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض: الجبال والأشجار والبحار، والإراءة لا تقتصر على مجرد الإبصار والمشاهدة؛ بل اطلاعه عليه السلام على
(1) سورة الأنعام الآية 75
(2)
حاشية الشهاب، 4/ 85.
(3)
تفسير ابن كثير 2/ 156.
حقائقها ودلالتها على وحدانية الله (1).
وكان قوم إبراهيم ممن يعبدون الكواكب ويعتقدون إلهية النجوم في السماء ويقال لهم: الكلدانيون، أو الكشدانيون، أو الصابئة المشركة؛ فكانوا يعبدون الكواكب ويدعونها ويجعلون لكل كوكب صنما من المعادن المنسوبة إليه؛ كالذهب للشمس والفضة للقمر ليتقربوا إليها، فالصنم عندهما رمز للكواكب، فإذا أرادوا التقرب إلى ذلك الكوكب عبدوا ذلك الصنم.
(1) تفسير أبي السعود 3/ 151.
فأنكر إبراهيم عليه السلام أولا عبادتهم للأصنام بحسب الظاهر وذلك في خطابه لأبيه، ثم أبطل منشأها وما نسبت إليه من الكواكب وبين عدم استحقاقها لذلك أيضا (1) وذلك عن طريق المناظرة والاستدلال، قال تعالى:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (2) أي لما غطاه الليل وستره رأى نجما مضيئا، قال بعضهم: إنه الزهرة وقيل: بل المشتري؛ فقال على سبيل المناظرة (هذا ربي): قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل، وقيل: قاله على وجه النظر الاستدلال، وكان ذلك في زمان مراهقته وأول أوان بلوغه.
(1) حاشية الشهاب 4/ 85.
(2)
سورة الأنعام الآية 76
وقيل إنما معنى الكلام: أهذا ربي؟ على وجه الإنكار والتوبيخ، أي ليس هذا ربي. والصحيح الذي عليه أكثر المفسرين أنه قال ذلك (على وجه الاعتبار والاستدلال لا على وجه الإخبار ولذلك فإن الله تعالى لم يذم إبراهيم عليه السلام على ذلك بل ذكره بالمدح والتعظيم وأنه أراه ذلك كي يكون من الموقنين).
قال القاضي عياض: (وذهب معظم الحذاق من العلماء والمفسرين إلى أنه إنما قال ذلك مبكتا لقولهم ومستدلا عليهم)(1).
{فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (2) أي فلما غاب وذهب {قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (3) قال قتادة: علم أن ربه دائم لا يزول (4).
(1) الشفاء، القاضي عياض 2/ 260.
(2)
سورة الأنعام الآية 76
(3)
سورة الأنعام الآية 76
(4)
تفسير ابن كثير 2/ 156.
وقال بعضهم: الأفول هو الانتقال، والانتقال حركة وهي دليل الحدوث؛ ورد عليهم ابن تيمية بأن المعنى اللغوي للأفول: هو التغيب والاحتجاب سواء أريد بالأفول ذهاب ضوء القمر والكواكب بطلوع الشمس، أو أريد به سقوطه من جانب المغرب فإنه إذا طلعت الشمس يقال عن الكواكب إنها غابت واحتجبت وإن كانت موجودة في السماء ولكن طمس ضوء الشمس نورها، ثم إن إبراهيم عليه السلام لم يقل {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (1) لما رأى الكوكب يتحرك والقمر والشمس؛ بل قال ذلك حين غاب احتجب، فبطل قولهم الحركة دليل الحدوث (2).
فهنا بين إبراهيم عليه السلام أن الله قائم على عبده كل وقت، وأما النجم فهو آفل يغيب تارة ويظهر تارة فليس هو قائما
(1) سورة الأنعام الآية 76
(2)
مجموع الفتاوى، ابن تيمية 5/ 547.
على عبده في كل وقت، ففيه نقص وأما الرب فاطر السماوات والأرض فله صفات الكمال (1).
أي لما رأى القمر طالعا قال: هذا ربي تنزلا، فلما غاب قال:{لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} (3) فافتقر غاية الافتقار إلى هداية ربه، وعلم أنه إن لم يهده الله فلا هادي له فقالها على معنى الإشفاق والحذر (4).
قال القرطبي في قوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} (5) أي: لم يثبتني على الهداية وقد كان مهتديا (6). وفي هذا تلميح لضلال قومه.
أي فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام السماوية الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار وتحقق ذلك بالدليل القاطع، تبرأ إبراهيم عليه السلام من معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله وقال
(1) ينظر مجموع الفتاوى، ابن تيمية 11/ 207، 206.
(2)
سورة الأنعام الآية 77
(3)
سورة الأنعام الآية 77
(4)
تيسير الكريم الرحمن، السعدي 2/ 424، وينظر الشفاء، القاضي عياض 2/ 260.
(5)
سورة الأنعام الآية 77
(6)
تفسير القرطبي 7/ 27.
(7)
سورة الأنعام الآية 78
فتبرأ من الشرك وأذعن للتوحيد ولم يأخذه في الله لومة لائم، ولم يستوحش من الجهر بالحق والثبات عليه مع خلاف جميع قومه لقوله وإنكارهم عليه، وبين لهم أنه وجه وجهه في عبادته للذي خلق السماوات والأرض، وذلك على ما يجب لله من التوحيد مقبلا عليه معرضا عما سواه متبرئا من المشركين فليس هو منهم ولا ممن يدين دينهم.
ولكن قوم إبراهيم لم يذعنوا للحق بعد بيانه لهم وأقاموا على باطلهم وصاروا يناظرون إبراهيم، قال الله تعالى:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَان وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (2)
والمحاجة في اللغة مصدر حاج يحاج حجاجا ومحاجة وهي الجدل والتخاصم (3).
قال ابن عباس في قوله {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} (4) أتخاصموني في الله (5).
(1) سورة الأنعام الآية 79
(2)
سورة الأنعام الآية 80
(3)
لسان العرب ابن منظور مادة حجج 2/ 228.
(4)
سورة الأنعام الآية 80
(5)
تفسير ابن أبي حاتم 4/ 1331.
فصار قوم إبراهيم عليه السلام يجادلونه ويناظرونه فيما ذهب إليه من التوحيد، وأوردوا عليه الشبه بما يدل على أن أصنامهم التي يعبدون آلهة. فقال {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَان} (1) أي كيف تجادلونني في أمر الله وقد بصرني وهداني إلى الحق، وأنه لا إله إلا هو وقد بصرني وهداني وأنا على بينة من أمري، فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة (2).
وهذا تأكيد للإنكار؛ فإن كونه مهديا من جهة الله تعالى ومؤيدا من عنده مما يوجب استحالة محاجته (3).
ولما خوفوه آلهتهم أن تمسه بسوء، أجابهم بعدم خوفه وأنها لا تضر ولا تنفع، فكيف يخافها ولكن خوفه من الله الذي إن شاء ناله في نفسه أو ماله بما شاء من جهته تعالى من غير دخل لتلك الآلهة فيه أصلا؛ لأنه القادر على ذلك، إظهارا منه لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلامه لأمره، واعترافا بكونه تحت ملكوته وربوبيته (4).
(1) سورة الأنعام الآية 80
(2)
تفسير ابن كثير 2/ 157، فتح القدير، الشوكاني 2/ 134.
(3)
تفسير أبي السعود 3/ 154.
(4)
ينظر تفسير ابن كثير 2/ 157، تفسير أبي السعود 3/ 154.
ثم تعجب من حالهم وكيف يخوفونه بآلهتهم وفي نفس الوقت لا يخافون الله الذي خلقهم ورزقهم فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1)
(1) سورة الأنعام الآية 81
فكيف يخاف ما ليس في حيز المخوفات أصلا، وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات وأهولها، وهو: إشراككم بالله الذي ليس كمثله شيء، وتسويتكم بين العاجز والقادر فهذا الحقيق بأن يخاف منه كل الخوف (1).
فأي الطائفتين أحق بالأمن: الذي عبد من بيده النفع والضر أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل، أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة ومن عقابه وحلول سخطه في عاجل الدنيا (2).
ثم قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (3)
أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئا، ولم يخلطوا إيمانهم بظلم هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا.
وقد اختلف في الذي أخبر الله تعالى عنه أنه قال هذا، فقال بعضهم: هذا فصل القضاء من الله بين إبراهيم الخليل عليه السلام وبين من حاجه من قومه من أهل الشرك بالله، وقال غيرهم: إن هذا جواب من قوم إبراهيم لإبراهيم عليه السلام حين قال لهم: أي الفريقين أحق بالأمن؟ فقالوا له: الذين آمنوا بالله فوحدوه أحق
(1) ينظر تفسير أبي السعود 3/ 154، تفسير البيضاوي 4/ 84.
(2)
ينظر تفسير الطبري 11/ 492، تفسير ابن كثير 2/ 158.
(3)
سورة الأنعام الآية 82
بالأمن، واختار الطبري الأول ورجحه؛ لأن قوم إبراهيم لو قالوا ذلك لأقروا بالتوحيد واتبعوا إبراهيم عليه السلام.
كذلك اختلف في المراد بالظلم في هذه الآية، فقال بعضهم: إن الظلم هو الشرك، واستدلوا بما روى عبد الله بن مسعود أنه لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (1) قال أصحاب رسول الله: أينا لم يظلم فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2).
وقال آخرون بل المراد لم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم مثل المعاصي فالآية على العموم، لأن الله لم يخص به معنى من معاني الظلم (3).
واختار الطبري القول الأول وكذا ابن كثير وغيرهما (4).
(1) سورة الأنعام الآية 82
(2)
سورة لقمان الآية 13
(3)
ينظر تفسير الطبري 11/ 502، تفسير البيضاوي 4/ 89.
(4)
ينظر تفسير الطبري 11/ 503، تفسير ابن كثير 2/ 158.
وفصل ابن تيمية في معنى الظلم ومعنى الاهتداء والأمن؛ فذكر أن الظلم ثلاثة أنواع هي: الذي هو شرك لا شفاعة فيه، وظلم الناس بعضهم، وظلم الإنسان لنفسه بترك الطاعات وفعل المعاصي.
وبين أن الصحابة رضي الله عنهما شق عليهم الأمر لما ظنوا المشروط هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا يكون الأمن والاهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، وحينئذ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فمن لم يلبس إيمانه به كان من أهل الأمن والاهتداء مطلقا، وإن لم يسلم من أجناس الظلم الأخرى فيحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه نفسه، وأما إن سلم منها كان له الأمن التام والهداية التامة (1).
وكذلك السعدي.
قال: " فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا لا بشرك ولا بمعاصي حصل لهم الأمن التام والهداية، وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده ولكنهم يعملون السيئات
(1) ينظر مجموع الفتاوى ابن تيمية 7/ 78، 81، 80.
حصل لهم أصل الهداية وأصل الأمن وإن لم يحصل لهم كمالها " (1).
وإن قيل: إن العاصي الموحد قد يعذب، فما الأمن والاهتداء الذي حصل له؟ أجيب: فإنه آمن من التخليد في النار وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة فهو مهتد إلى طريقها (2).
ثم قال الله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (3)
الإشارة في قوله {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} (4) إلى ما تقدم من الحجج التي أوردها إبراهيم عليه السلام عليهم، أي تلك البراهين من قوله {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} (5) إلى قوله {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (6) وتلك الحجج والبراهين علا بها إبراهيم عليه السلام على قومه وقطع عذرهم وانقطعت حجتهم، فرفعنا درجته عليهم في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا فآتيناه أجره، وأما في الآخرة فهو من الصالحين. {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} (7) أي كما رفعنا درجات إبراهيم عليه السلام في الدنيا والآخرة.
{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (8) أي حكيم في أقواله وأفعاله، عليم بمن يهديه ومن يضله وإن قامت عليه الحجج والبراهين، وهو لا
(1) تيسير الكريم الرحمن، السعدي، 2/ 426.
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى ابن تيمية، 7/ 81، الفتح، ابن حجر 1/ 89.
(3)
سورة الأنعام الآية 83
(4)
سورة الأنعام الآية 83
(5)
سورة الأنعام الآية 76
(6)
سورة الأنعام الآية 82
(7)
سورة الأنعام الآية 83
(8)
سورة الأنعام الآية 83