الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
حكم إرسال الرسل:
الخلاف في حكم إرسال الرسل بين المعتزلة والفلاسفة من جهة وبين أهل السنة والأشاعرة من جهة أخرى.
فيذهب المعتزلة إلى وجوب بعثة الرسل بناء على قاعدة وجوب مراعاة الأصلح فمن أقوالهم: (إنه تعالى إذا علم صلاحنا في بعثة شخص واحد بعينه وجب أن يبعثه بعينه ولا يعدل إلى غيره،
وإذا علم أن صلاحنا في بعثة شخصين وجب بعثتهما لا محالة ولا يجوز له الإخلال بها، وإذا علم أن صالحنا في بعثة جماعة وجب أن يبعث الكل) (1).
وعللوا ذلك بأن النظام المؤدي إلى صلاح النوع الإنساني على العموم في المعاش والمعاد لا يتم إلا ببعثة الرسل وكل ما هو كذلك فهو واجب على الله تعالى (2).
وقال بعضهم: إذا علم الله من أمته أنهم يؤمنون وجب عليه إرسال النبي، وإلا لم يجب الإرسال بل حسن (3).
وذهبت الفلاسفة إلى إيجاب النبوة عقلا على الله (لأن النظام الأكمل الذي تقتضيه العناية الأولية لا يتم بدون وجود النبي الواضع لقوانين العدل)(4).
ذلك أن من عرف النبوات منهم يظن أن شرائع الأنبياء من جنس نواميسهم وأن المقصود بها مصلحة الدنيا (5).
(1) شرح الأصول الخمس، القاضي عبد الجبار، ص 575، المغني، القاضي عبد الجبار 15/ 28.
(2)
شرح جوهرة التوحيد، البيجوري ص119، ينظر: شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار ص 563.
(3)
المواقف، الأيجي، ص 342، شرح المقاصد للتفتازاني 5/ 19.
(4)
المواقف، الأيجي، ص 342، شرح المقاصد 5/ 7 ينظر: آراء أهل المدينة الفاضلة، الفارابي / ص 11.
(5)
مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 17/ 330.
والصحيح الذي ذهب إليه أهل السنة وكذلك الأشاعرة: أن النبوة نعمة من الله تعالى ومنة منه تفضل بها على خلقه، كما قال الله تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (1).
وأما مسألة إيجاب شيء على الله ووضع شريعة لله بالعقل والتسوية بين الله وبين عباده فيما يحسن منهم ويقبح - كما ذهب إليه المعتزلة - فهو أمر ممتنع ومنتف من وجوه عديدة أشار إليها ابن القيم، منها:
أن الله تعالى كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته، فكذلك ليس كمثله شيء في أفعاله؛ فلا تقاس أفعاله على أفعال خلقه فيحسن منه ما يحسن منهم ويقبح منه ما يقبح منهم؛ ذلك أن كثيرا من الأفعال تقبح منا وهي حسنة منه تعالى.
كذلك الإيجاب والتحريم يقتضي موجبا آمرا ناهيا، وهو طلب للفعل أو الترك على وجه الاستعلاء، وهذا محال في حق الواحد القهار (2).
(1) سورة آل عمران الآية 164
(2)
مفتاح دار السعادة، ابن القيم 2/ 52.
ثم ذكر ثمانية عشر لازما فاسدا على قاعدة الصلاح والأصلح، منها ما ألزمه أبو الحسن الأشعري للجبائي وقد سأله عن ثلاثة إخوة أمات الله أحدهم صغيرا وأحيا الآخرين فاختار أحدهما الإيمان والآخر الكفر، فرفع درجة المؤمن البالغ على أخيه الصغير في الجنة لعمله، فقال أخوه يا رب لم لا تبلغني منزلة أخي فقال: إنه عاش وعمل أعمالا استحق بها هذه المنزلة. فقال: يا رب فهلا أحييتني حتى أعمل مثل عمله فقال: كان الأصلح في حقك أن توفيتك صغيرا لأني علمت أنك إن بلغت اخترت الكفر فكان الأصلح في حقك أن أمتك صغيرا، فنادى أخوهما الثالث من أطباق النار: يا رب فهلا عملت معي هذا الأصلح واخترمتني صغيرا كما عملت مع أخي واخترمته صغيرا، فأسكت الجبائي ولم يجبه بشيء.
ثم كان آخر إلزام ذكره ابن القيم: أن الإيجاب والتحريم
يقتضي سؤال الموجب المحرم لمن أوجب عليه وحرم: هل فعل مقتضى ذلك أم لا؟ وهذا محال في حق من لا يسئل عما يفعل، وإنما يعقل في حق المخلوقين وأنهم يسألون (1).
وقابل المعتزلة الأشاعرة في هذه المسألة فقالوا: لا يجب عليه شيء ويجوز عليه كل شيء (2).
وتوسط أهل السنة فقالوا: إن الله سبحانه أخبر عن نفسه أنه كتب على نفسه وأحق على نفسه؛ كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3)
فلا يمتنع في حق الرب تعالى الذي ليس فوقه آمر ولا ناه، أن يكون طالبا من نفسه، فيكتب على نفسه ويحق على نفسه ويحرم على نفسه، وكتابة ما كتبه على نفسه وإحقاقه ما حقه عليها متضمن لإرادته ذلك ومحبته له ورضاه به وأنه لا بد أن يفعله، وتحريمه ما حرمه على نفسه متضمن لبغضه لذلك وكراهته للفعل وبغضه له يمنع وقوعه منه مع قدرته عليه لو شاء (4).
(1) ينظر مفتاح دار السعادة، ابن القيم 2/ 52، 55.
(2)
ينظر: الإرشاد، الجويني، 236، 234.
(3)
سورة الأنعام الآية 54
(4)
ينظر مفتاح دار السعادة 2/ 110 - 111.