الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يدل عليه دليل آخر (1).
ويقول ابن النجار: " وكون خبر التواتر مفيدا للعلم هو قول أئمة المسلمين "(2).
(1) روضة الناظر مع شرحها (1/ 244).
(2)
شرح الكوكب المنير 2/ 326.
المبحث الثاني:
الأدلة من الكتاب
والسنة على وجوب الأخذ بخبر الواحد:
دلت أدلة كثيرة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم توجب الأخذ بخبر الواحد والعمل به، من ذلك:
أولا - قول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1)
فهذه الآية تحث المؤمنين على التفقه في الدين، وقد أمر الله تعالى الطائفة النافرة بالتفقه في الدين، ثم إنذار القوم وتخويفهم، وهذا في الأصل إنما يكون لترك واجب، أو فعل محرم، ثم بين الغاية من هذا الإنذار، وهو: حذر القوم مما أنذروا به.
ومعلوم أن الطائفة قد تطلق على الواحد فما فوق، كما قال تعالى:{إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} (2)
(1) سورة التوبة الآية 122
(2)
سورة التوبة الآية 66
قال محمد بن كعب: طائفة: رجل.
قال الإمام البخاري: ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (1) فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية (2).
وعلى هذا فقد أمر الله تعالى القوم بالحذر من إنذار الواحد والعمل بما يقوله لهم.
ثانيا: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (3) وفي قراءة " فتثبتوا " من التثبت (4)، وهذا يدل على الجزم والقطع بقبول خبر الواحد الثقة، وأنه لا يحتاج إلى التثبت لعدم دخوله في الفاسق، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمره بالتثبت مطلقا حتى يحصل العلم.
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2)
صحيح البخاري، كتاب أخبار الآحاد (8/ 132)
(3)
سورة الحجرات الآية 6
(4)
انظر تفسير الشوكاني 5/ 60.
يقول ابن القيم رحمه الله: " وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد وأنه لا يحتاج إلى التثبت، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمره بالتثبت حتى يحصل العلم، ومما يدل عليه أيضا أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وفعل كذا، وأمر بكذا، وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة، وفي صحيح البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع وكثيرة من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سمعه من صحابي غيره، وهذه شهادة من القائل وجزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نسب إليه من قول أو فعل، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم (1).
ثالثا: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) قال ابن القيم: " أجمع المسلمون أن الرد إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته وهو الرجوع إلى سنته بعد مماته، واتفقوا أن فرض هذا الرد لم يسقط بموته، فإن كان متواتر أخباره وآحادها لا تفيد علما ولا يقينا لم يكن للرد إليه وجه "(3).
(1) مختصر الصواعق المرسلة (2/ 394، 395).
(2)
سورة النساء الآية 59
(3)
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (2/ 353).
رابعا: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فرب مبلغ أحفظ له من سامع (1)» .
فهذا الحديث عام يتناول كل الأعمال والأحكام الاعتقادية وغيرها، ولو لم يكن الإيمان بما يثبت عنه صلى الله عليه وسلم من عقائد بأخبار الآحاد واجبا لما كان لهذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ حديثه مطلقا معنى، بل ليبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك مقصورا على أحاديث الأعمال دون غيرها.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بعد استدلاله بهذا الحديث " فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها أمره يؤديها، والأمور واحدة، دل على أنه لا يؤمر أن يؤدي عنها إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلال يؤتى، وحرام يجتنب وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا (2).
خامسا: ما اشتهر واستفاض بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينفذ آحاد الصحابة إلى النواحي والقبائل والبلاد
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 437) والترمذي في سننه: كتاب العلم (4/ 141)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وانظر كتاب دراسة حديث " نضر امرأ سمع مقالتي " لفضيلة شيخنا الشيخ عبد المحسن العباد - حفظه الله -.
(2)
الرسالة للشافعي ص (175).
بالدعاء إلى الإسلام، وتبليغ الأخبار والأحكام، وفصل الخصومات، وقبض الزكوات، ونحو ذلك، ولو لم يكن خبر هؤلاء الآحاد مما تقوم به الحجة، ويحصل به البلاغ، ويجب به العمل، لم يكن في بعثهم فائدة، ولما أمضى النبي صلى الله عليه وسلم أحكامهم وأخبارهم ولما نفذ أمورا بمقتضى كلامهم.
ومما حصل من ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث أبا بكر أميرا على الحاج (1) وبعث عليا قاضيا إلى اليمن (2)، وبعث معاذا إلى اليمن داعيا للإسلام وجابيا للصدقات (3)، وبعث مصعب بن عمير إلى المدينة (4)، وأمر مناديا بتحريم الخمر (5)، وتحريم صيام أيام منى (6)، وغير ذلك.
ومن ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي (5/ 115).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي (5/ 110).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة (2/ 136).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار (4/ 263).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأشربة (6/ 241 - 242) وكتاب أخبار الآحاد (8/ 134).
(6)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام (2/ 800).
العسيف (1) أنه قال: «واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها (3)» . فاعترفت فرجمها.
وقد اعتمد النبي صلى الله عليه وسلم خبره في اعترافها، مع ما فيه من إقامة حد، وقتل نفس مسلمة (4).
سادسا: ما تواتر واشتهر في عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر، وقد حكى إجماعهم على ذلك غير واحد من العلماء.
ومن ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمر، قال:" بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة "(5).
(1) العسيف: الأجير. النهاية (3/ 237).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب أخبار الآحاد (8/ 135)، ومسلم في كتاب الحدود (3/ 1324، 1325). واللفظ له
(3)
أنيس بن أبي يحيى الأسلمي، أحد الصحابة (2)
(4)
انظر: أخبار الآحاد للشيخ ابن جبرين ص (123).
(5)
أخرجه البخاري في كتاب أخبار الآحاد (8/ 133، 134)، ومسلم في كتاب المساجد (1/ 375).
يقول ابن القيم رحمه الله: " إن المسلمين لما أخبرهم الواحد وهم بقباء في صلاة الصبح أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قبلوا خبره، وتركوا الجهة التي كانوا عليها، واستداروا إلى القبلة، ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شكروا على ذلك وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة الأولى، فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به المعلوم لخبر لا يفيد علم وغاية ما يقال فيه أنه خبر اقترن بقرينة، وكثير منهم يقول: لا يفيد العلم بقرينة ولا غيرها، وهذا في غاية المكابرة، ومعلوم أن قرينة تلقي الأمة له بالقبول وروايته قرن بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن وأظهرها فأي قرينة فرضتها كانت تلك أقوى منها (1).
وقد عمل أبو بكر رضي الله عنه بخبر المغيرة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة.
(1) مختصر الصواعق المرسلة (2/ 394).
وعمل عمر رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في أخذ الجزية من المجوس (1).
وعمل عثمان رضي الله عنه بخبر فريعة بنت مالك في سكنى المتوفى عنها زوجها.
ورجع جماعة من الصحابة في إراقة الخمر إلى خبر الواحد (2).
كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا طلحة الأنصاري وأبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب شرابا من فضيخ (3) - وهو التمر - فجاءهم آت فقال أن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرة فاكسرها قال أنس: فقمت إلى مهراس: لنا فضربتها بأسفلها حتى
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجزية والموادعة، (4/ 62).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أخبار الآحاد 8/ 134
(3)
الفضيخ: شراب يتخذ من البسر المفضوخ، أي المشدوخ، النهاية لابن الأثير (3/ 453).