الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن تيمية: (والله تعالى لم يذكر قط عن قوم إبراهيم أنهم أهلكوا؛ بل ذكر أنهم ألقوه في النار فجعلها بردا وسلاما، وفي هذا ظهور برهانه وآيته وأنه أظهره عليهم بالحجة والعلم، وأظهره أيضا بالقدرة، وإبراهيم بعد هذا لم يقم فيهم بل هاجر وتركهم فلم يوجد في حقهم سبب الهلاك وهو إقامته فيهم وانتظار العذاب النازل، وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه لم يقم فيهم بل خرج عنهم حتى أظهره الله عليهم بعد ذلك، ومحمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل فإنهم إذا علموا الدعوة حصل المقصود، وقد يتوب منهم بعد ذلك من يتوب)(1).
وأما أفضل الأنبياء بعد إبراهيم فقالوا: موسى ثم عيسى ثم نوح عليهم الصلاة والسلام (2).
(1) النبوات، ابن تيمية، ص 26.
(2)
شرح جوهرة التوحيد، البيجوري ص 130.
المبحث الثالث: إثبات النبوة بالمسلك النوعي كما ورد في الآيات
لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان الناس في الإيمان بنبوته على درجات، فمنهم من يكذب بجنس النبوة فلا يؤمن بالرسل من البشر، كما كان على ذلك قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم؛ ولهذا يقول الله تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} (1) ويقول:
(1) سورة الشعراء الآية 105
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} (1) ويقول: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} (2)؛ لأن تكذيبهم لم يكن لرسولهم فحسب؛ بل كانوا مكذبين لجميع الرسل، أو بعبارة أخرى مكذبين لجنس الرسالة والنبوة وهذه هي المرتبة الأولى.
ومنهم من يصدق بجنس الرسالة ويقر بنبوة الأنبياء، ولا يدري هل يبعث نبي أولا؟ وهذه هي المرتبة الثانية.
ومنهم من يقر بجنس النبوات مثل أهل الكتاب، ويعرفون أنه سيبعث نبي، ويعرفون بعض نعوته، وهذه هي المرتبة الثالثة.
فما تحتاجه كل طائفة من هؤلاء من دلائل صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لا شك أنها مختلفة، ذلك أن الطائفة الأخيرة وما تحتاجه من دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم أيسر إذ كانت حاجتهم هي: أن يعرفوا هل هو النبي المذكور أو غيره؟ ومن أمثلة هؤلاء هرقل الذي سأل عن صفته صلى الله عليه وسلم وصفة
(1) سورة الشعراء الآية 123
(2)
سورة الشعراء الآية 141
أتباعه وما يأمر به، ويسمى ما سلكه هرقل هو إثبات النبوة بالمسلك الشخصي.
وأما المسلك النوعي فيراد به تبيين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بنبوة من قبله أي بإثبات جنس النبوة، وأن هناك أنبياء بعثهم الله إلى أقوامهم، وأن أقواما كذبوهم وأقواما صدقوهم، ويذكر عاقبة هؤلاء وهؤلاء، فيعلم بالاضطرار ثبوت وجود الأنبياء، ثم من أقر بجنس الأنبياء كان إقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في غاية الظهور (1).
قال ابن تيمية: (طريق معرفة الأنبياء كطريق معرفة نوع من الآدميين خصهم الله بخصائص يعرف ذلك من أخبارهم واستقراء أحوالهم، كما يعرف الأطباء والفقهاء، ولهذا إنما يقرر الرب تعالى في القرآن أمر النبوة وإثبات جنسها بما وقع في العالم من قصة نوح وقومه وهود وقومه)(2) وسائر الأنبياء.
فالنبوة في الآدميين هي من عهد آدم عليه السلام، فإن أبناءه كانوا يعلمون نبوته وأحواله ويعلمون جنس ما تدعو إليه الرسل، وقد استدل النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة، كان ممن حسن إسلامه ولم يهاجر ولا له رؤية فهو تابعي من وجه، صاحب من وجه، توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه صلاة الغائب وذلك سنة تسع من الهجرة، ينظر: سير أعلام النبلاء 1/ 428، الإصابة 1/ 177. على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بمجيء
(1) ينظر النبوات، ابن تيمية، ص 23، 24.
(2)
النبوات، ابن تيمية ص 23.
النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما جاءت به الأنبياء قبله، فإنه لما استخبرهم عما يخبر به، واستقرأهم القرآن فقرءوه عليه قال: - إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. فكان عنده علم بما جاء به موسى واعتبر به ولولا ذلك لم يعلم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويلحظ كثرة ورود قصص الأنبياء في السورة المكية، والحكمة من ذلك: إثبات وجود جنس الأنبياء ابتداء وإثبات سعادة من اتبعهم وشقاء من خالفهم، ثم تكون نبوة عين هذا النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة؛ لأن الذي جاء به أكمل مما جاء به جميع الأنبياء.
فمن أقر بجنس الأنبياء كان إقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في غاية الظهور، وأما إنكار أهل الكتاب فكان لعنادهم وحسدهم فجميع ما ذكر من قصص الأنبياء في القرآن يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى؛ ولهذا جميع مشركي العرب آمنوا به فلم يحتج أحد منهم أن تؤخذ منه جزية، ولا تكاد توجد أمة لا كتاب لها يعرض عليها دين المسلمين واليهود والنصارى إلا رجحت دين المسلمين (1).
(1) النبوات، ابن تيمية ص 23، 24.
وجاء بيان حكم من أنكر النبوة في نظم غاية في الحسن، وذلك بعد أن ذكر الله تعالى في سورة الأنعام محاجة إبراهيم لقومه وذكر الأنبياء ثم قال الله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (1) أي ما عظم الله حق تعظيمه ولا عرفه حق معرفته، من أنكر النبوة ونفى الرسالة من المشركين وغيرهم.
ذلك أن منكر الرسالة إما أن يقول: إنه تعالى ما كلف أحدا من الخلق تكليفا أصلا، أو يقول: إنه كلفهم التكاليف، والأول باطل؛ لأنه يقتضي إباحة جميع المنكرات والقبائح، وإن قال بل كلفهم؛ فلا بد من مبلغ وشارع ومبين وما هو إلا الرسول.
كذلك إنكار الرسالة والنبوة طعن في الله فقد ثبت حدوث العالم، وحدوثه يدل على أن إله العالم قادر حكيم عليم، والخلق كلهم عبيده، وهو مالك لهم على الإطلاق، وملك لهم على الإطلاق، والملك المطاع يجب أن يكون له أمر تكليف على عباده، وأن يكون له وعد على الطاعة ووعيد على المعصية، وذلك لا يتم إلا بإرسال الرسل وإنزال الكتب؛ فكل من أنكر ذلك فقد طعن في كونه تعالى ملكا مطاعا، ومن اعتقد ذلك فهو ما قدر الله حق قدره (2).
(1) سورة الأنعام الآية 91
(2)
التفسير الكبير، الرازي 13/ 74.
فبعثة الرسل من أعظم نعم الله، ونقض الله تعالى في هذه الآيات دعوى المنكرين بإنزال التوراة العظيمة، وهو الكتاب الذي شاع ذكره حتى أنهم جعلوا يتناسخونه في القراطيس ويتصرفون فيه بما شاءوا، أي اليهود، وفي قوله:{تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} (1) قراءتان بالتاء وبالياء (يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا) فعلى قراءة الياء يكون القائلون ما أنزل الله على بشر من شيء هم مشركي قريش، وقصدهم من ذلك إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، واحتجاجه عليهم تعالى بالتوراة؛ لأنه شاع ذكرها وليس المراد مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط، بل بإنزال القرآن (2)، والقائلون بأن قائل هذا مشركو قريش هم: ابن عباس ومجاهد وغيرهما واختاره الطبري وابن كثير (3).
وقيل: بل القائل: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} (4) هو رجل من اليهود اختلف في اسمه، ويشهد لهذا القول قراءة التاء، وهم إنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم بسوء صنيعهم بالتوراة، وذمهم على تجزئتها بإبداء بعض ما انتخبوه وكتبوه في أوقات متفرقة، وإخفاء بعض مثل ما أخفوه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم (5).
(1) سورة الأنعام الآية 91
(2)
ينظر: تفسير أبي السعود 3/ 160، الكشاف، الزمخشري 2/ 34.
(3)
ينظر تفسير الطبري 11/ 523، تفسير القرطبي 7/ 36، تفسير ابن كثير 2/ 161.
(4)
سورة الأنعام الآية 91
(5)
ينظر الكشاف، الزمخشري 2/ 34، تفسير البيضاوي 4/ 93.
ثم أكد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (1)
أي أن الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم يوافق ما قبله من الكتب المنزلة في نفي الشرك وإثبات التوحيد، فكيف يقال ما أنزل الله على بشر من شيء، بل أنزل التوراة وأنزل القرآن (2).
وقد قال النجاشي لما سمع القرآن: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى (3) - كما سبق - ذلك أنه موافق لها في الأصول العامة.
ثم بين الله تعالى صدق الأنبياء إذ كيف يقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، وهذا يستلزم تكذيب الأنبياء عليهم السلام (4)، وبين أن أعظم الافتراء عليه دعوى النبوة والرسالة كذبا، فقال:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (5)
(1) سورة الأنعام الآية 92
(2)
ينظر تفسير القرطبي 7/ 37، تفسير أبي السعود 3/ 160، فتح القدير، الشوكاني 2/ 139.
(3)
السيرة النبوية، ابن كثير، 2/ 21.
(4)
فتح القدير، الشوكاني 2/ 139.
(5)
سورة الأنعام الآية 93
أي لا أحد أعظم ظلما ولا أكبر جرما ممن كذب على الله، فنسب إليه قولا أو حكما وهو تعالى بريء منه، ويدخل في ذلك ادعاء النبوة وهو كاذب في ذلك، فإنه مع كذبه على الله وجرأته على عظمته وسلطانه، يوجب على الخلق أن يتبعوه ويجاهدهم على ذلك، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم (1).
فلا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب في شيء من الأشياء {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} (2) وقد صان الله أنبياءه عن الكذب وعما يفتريه عليهم المفترون وإنما هذا شأن الكذابين، وهؤلاء الذين يفترون على الله الكذب نوعان وهم من جنس واحد، ثم قال الله تعالى:{وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (3) ولم يقل: أو قال ذلك أن الذي يقول هذا القول لا يدعي أنه رسول، إنما يدعي المعارضة ويزعم أن في إمكانه أن يأتي بمثل القرآن (4).
فذكر هنا المدعون لشبه النبوة، وقد تقدم قبلهم ذكر المكذب للنبوة، فهذا يعم جميع أصول الكفر التي هي تكذيب الرسل أو
(1) تيسير الكريم الرحمن، السعدي 2/ 434.
(2)
سورة الأنعام الآية 93
(3)
سورة الأنعام الآية 93
(4)
ينظر النبوات، ابن تيمية 229، تيسير الكريم الرحمن، السعدي 2/ 434.
مضاهاتهم.
وقال الرازي في الفرق بين من {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (1) وبين من قال {أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ} (2): أن الأول يدعي أنه أوحي إليه وما كان يكذب بنزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، وأما في هذا القول فقد أثبت الوحي لنفسه ونفاه عن محمد صلى الله عليه وسلم، وكان هذا جمعا بين نوعين عظيمين من الكذب وهو إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود (3).
وروى الطبري في تفسيره عن عكرمة أن هذه الآية نزلت في مسيلمة الكذاب وفي عبد الله بن أبي سرح.
(1) سورة الأنعام الآية 93
(2)
سورة الأنعام الآية 93
(3)
التفسير الكبير، الرازي 13/ 83.
وقال غيره: بل نزل ذلك في ابن أبي سرح خاصة. ثم قال: ودخل في هذه الآية كل من كان مختلقا على الله كذبا وقائلا في ذلك الزمان أو غيره: أوحى الله إلي، وهو في قوله كاذب، فأما التنزيل فإنه جائز أن يكون منزل بسبب بعضهم، وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم، وجائز أن يكون عني به جميع المشركين من العرب (1).
ثم أشار رحمه الله إلى تناقض أقوالهم وكيف يقول القائل: منهم أوحى الله إلي، ويقول: ما أنزل على بشر من شيء، فيكذب بالذي تحققه وينفي الذي يثبته.
ففي هذه الآيات أثبت الله تعالى وجود نوع الأنبياء ابتداء، ثم استدل بذلك على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وجاء ذلك في مواضع كثيرة، وأمر بسؤال أهل الكتاب؛ ذلك أن العرب لا عهد لها بالنبوة من زمن إسماعيل؛ ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (2) بل قد تقدم له نظراء وأمثال.
وأما من جاءهم رسول ما يعرفون قبله رسول مثل قوم نوح
(1) تفسير الطبري 11/ 534 - 536.
(2)
سورة الأحقاف الآية 9