الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصح الطرق " (1).
ويقول ابن أبي العز: " وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا له يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة وهو إحدى قسمي المتواتر، ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع "(2).
وبهذا يتبين لنا أن المنهج الصالح في هذا هو الأخذ بكل حديث صحيح واعتقاد موجبه والعمل به.
(1) انظر: درء التعارض (3/ 383، 384).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية ص 398 - 400
المبحث الرابع: الرد على من أنكر حجية خبر الآحاد في العقيدة
ذهب بعض أهل الكلام من القدرية والرافضة وبعض
المعتزلة كالجبائي وبعض أهل الظاهر إلى أن خبر الآحاد لا يجوز العمل به في الشرع وإنما يعمل بالدليل القطعي آية أو حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قرر هذا المعنى أهل الكلام في كثير من كتبهم، وردوا به أحاديث صحيحة مشهورة، بل أحاديث متواترة زعموا أنها آحاد وأنها ظنية، فلا يؤخذ بها في العقيدة.
فمن المعتزلة الذين سطروا هذا المعنى القاضي عبد الجبار. فقد قال: " وأما ما لا يعلم كونه صدقا ولا كذبا، فهو كأخبار الآحاد، وما هذه سبيله يجوز العمل به إذا ورد بشرائطه، فأما قبوله فيما طريقه الاعتقادات فلا "(1).
(1) شرح الأصول الخمسة ص (769).
وبناء على هذه القاعدة التي سار عليها القاضي عبد الجبار رد كثيرا من أحاديث الآحاد الصحيحة بل المتواترة أحيانا بعد أن زعم أنها آحاد ويقرر أن خبر الواحد مما لا يقتضي العلم، ومسائل الاعتقاد طريقها القطع والثبات، فرد أحاديث الرؤية والشفاعة وغيرها (1).
ومنهم الحاكم الجشمي الذي قرر أن أخبار الآحاد لا يصح قبولها فيما طريقه العلم وهو الاعتقاد (2).
ومن الأشاعرة الجويني الذي قال: " وأما الأحاديث التي يتمسكون بها، فآحاد لا تفضي إلى العلم ولو أضربنا عن جميعها لكان سائغا
…
" (3).
(1) انظر: شرح الأصول الخمسة ص (269، 672، 690).
(2)
انظر: الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن، لعدنان زرزور ص (258، 263).
(3)
الإرشاد للجويني ص (161).
وذلك لأنها عنده محتملة للغلط والتحريف، فلا يوثق بها، ولذلك قال في حديث النزول الذي نص العلماء على تواتره:
" إن الحديث وإن رواه الأثبات ونقله بالثقات فلم يجمع أهل الصنعة على صحته على معنى أنه منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعا، وإنما انكف أهل التعديل عن التعرض للحديث الذي نقلوه من حيث لم يظهر لهم ما يتضمن مطعنا وقدحا في النقلة، وهم مع ذلك يجوزون على رواة الخبر أن يزلوا ويغلطوا، ولا يوجبون لهم العصمة. . . "(1).
ومنهم الرازي، الذي حكم بعدم جواز التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى (2).
وهذا القول مردود فإن الحديث إذا ثبتت صحته برواية الثقات، ووصل إلينا بطريق صحيح فإنه يجب الإيمان به وتصديقه سواء كان خبرا متواترا أو آحادا وأنه يوجب العلم اليقيني، وهذا هو مذهب علماء سلفنا الصالح، استدلالا بقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (3)
(1) الشامل للجويني ص (557، 558).
(2)
انظر: أساس التقديس ص (215).
(3)
سورة الأحزاب الآية 36
وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} (1) قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - " قد شاع فاشيا عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير فاقتضى الاتفاق منهم على القبول "(2).
سأل رجل الإمام الشافعي عن مسألة فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟
فقال: سبحان الله! أتراني في بيعة تراني على وسطي زنار (3)؟ أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت؟ (4). وقال الإمام أحمد: " كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5) فلم يشترطوا إلا صحة الخبر، ولم يفرقوا بين خبر الواحد والخبر المتواتر.
(1) سورة آل عمران الآية 32
(2)
فتح الباري (13/ 234).
(3)
الزنار: هو ما يلبسه المجوسي والنصراني ويشده على وسطه. لسان العرب (4/ 330).
(4)
انظر: مختصر الصواعق المرسلة (2/ 350)، وشرح الطحاوية ص (399) لابن أبي العز.
(5)
سورة الحشر الآية 7
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: السنة إذا
ثبتت فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب اتباعها " (1).
وقال ابن القيم في رده على من ينكر حجية خبر الواحد: " ومن هذا أخبار الصحابة بعضهم بعضا فإنهم كانوا يجزمون بما يحدث به أحدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرك خبر واحد لا يفيد العلم حتى يتواتر. . . وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات تلقاه بالقبول واعتقد تلك الصفة به على القطع واليقين، كما اعتقد رؤية الرب وتكليمه ونداءه يوم القيامة لعباده بالصوت الذي يسمعه البعيد كما يسمعه القريب ونزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة وضحكه وفرحه وإمساك السماوات على إصبع من أصابع يده وإثبات القدم له - من سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صاحب اعتقد مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق ولم يرتب فيها حتى أنهم ربما تثبتوا في بعض أحاديث الأحكام. . . ولم يطلب أحد منهم الاستظهار في رواية أحاديث الصفات البتة بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها وإثبات الصفات بها من المخبر لهم بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك، ولولا وضوح الأمر في ذلك لذكرنا أكثر
(1) مجموع الفتاوى (19/ 85).
من مائة موضع، فهذا الذي اعتمده نفاه العلم عن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين، وإجماع أئمة الإسلام ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء، وإلا فلا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك، بل صرح الأئمة بخلاف قولهم، وممن نص على " أن خبر الواحد يفيد العلم مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة، وداود بن علي وأصحابه كأبي محمد بن حزم "(1).
فالذين ردوا خبر الآحاد قولهم مناف للحق والصواب، والشبه التي استدلوا شبه واهية، دلت الأدلة على بطلانها.
ومن شبههم التي قالوها: زعمهم أن خبر الآحاد يفيد الظن لجواز الخطأ والغفلة والنسيان على الواحد، وعلى هذا فلا يجوز الأخذ بخبر الواحد في العقيدة لأن العقيدة مبناها على اليقين لا على الظن، واستدلوا على ذلك ببعض الآيات التي تنهى عن اتباع الظن.
منها: قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (2) فالجواب عن هذه الشبهة بأن نقول: احتجاجهم بهذه الآية وأمثالها مردود؛ لأن الظن هنا ليس هو الظن الغالب الذي عنوه وإنما هو الشك والخرص والتخمين الذي يعرض لك في
(1) مختصر الصواعق (2/ 361، 362).
(2)
سورة النجم الآية 28
شيء فتحققه وتحكم به " (1).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} (2) أي: ليس لهم علم صحيح يصدق ما قالوه، بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع. . . {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (3) أي: لا يجدي شيئا، ولا يقوم أبدا مقام الحق، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث (4)» (5).
فالشك والكذب هو الظن الذي ذمه الله تعالى ونعاه على المشركين ويؤيد ذلك قوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هم إلا يخرصون} (6) فوصفهم بالظن والخرص الذي هو مجرد الحزر والتخمين، وإذا كان الخرص والتخمين هو الظن فإنه لا يجوز الأخذ به في الأحكام (7)؛ لأن الأحكام لا تبنى على الشك والتخمين. وعلى هذا فيلزمكم رد هذه الأحاديث في الأحكام، لأن التفريق بين العقائد والأحكام تفريق بين أمرين متلازمين متماثلين، وهو كالجمع بين المتناقضين، والترجيح بلا مرجح، وهو محال.
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 162، 163).
(2)
سورة النجم الآية 28
(3)
سورة النجم الآية 28
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب (4/ 1985). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(5)
تفسير ابن كثير (4/ 229).
(6)
سورة الأنعام الآية 116
(7)
انظر: العقيدة في الله لعمر سليمان الأشقر، ص (48، 49).
وأما ما قيل من احتمال غفلة الراوي ونسيانه فيرده ما يشترط في خبر الواحد من كون كل راو من الرواة ثقة ضابطا، فمع صحة الحديث لا مجال لتوهم خطأ الراوي ومع ما جرت به العادة من أن الثقة الضابط لا يغفل ولا يكذب لا مجال لرد خبره لمجرد احتمال عقلي تنفيه العادة.
ثم نقول أيضا: وعلى فرض أنه مظنون فقد علم وجوب العلم به بالإجماع القاطع (1).
ثم المراد بالظن المذموم هو الذي لا دليل على العمل به، وهو الذي من قبيل الوهم والتخرص، فهذا يعمل به (2).
ومن شبههم احتجاجهم ببعض الأحاديث والآثار التي قد يفهم من ظاهرها عدم الأخذ بخبر الواحد، كحديث ذي اليدين، وحديث عمر رضي الله عنه في رد خبر أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في الاستئذان، حتى شهد له أبو سعيد الخدري (3)، ونحو ذلك من الآثار (4).
(1) انظر: لوامع الأنوار (1/ 19).
(2)
انظر: أخبار الآحاد للشيخ ابن جبرين ص (114).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان (7/ 130)، ومسلم في صحيحه، كتاب الآداب (3/ 1694).
(4)
انظر: المعتمد في أصول الفقه (2/ 623)، المحصول (2/ 543).
والجواب عن ذلك أن يقال: إن جميع من ذكروا أنهم ردوا خبر الواحد قد ثبت عنهم في وقائع أنهم قبلوه، وهذا يدل على أن عدم أخذهم به في هذه الحادثة المعينة لسبب يوجب الرد أو التوقف، وليس لكونه خبر واحد.
فرد النبي صلى الله عليه وسلم خبر ذي اليدين؛ لأنه عارض ما اعتقده من تمام الصلاة، ولظنه خلاف ما أخبر به، وذلك لتفرده بهذا القول دون من حضر الصلاة من المأمومين، ولكن بعد أن وافقه غيره من الصحابة وارتفع الوهم عنه صلى الله عليه وسلم عمل به، وظهور أمارة الوهم في خبر الواحد توجب التوقف في قبوله (1).
وأما سبب رد عمر لخبر أبي موسى فقد صرح به بقوله: " أما إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
والمقصود: بيان أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتوقفوا في قبول خبر الواحد والاحتجاج به وأن ما نقل من الوقائع التي فيها رد بعضهم لخبر الواحد لم يكن سبب ذلك أنه واحد، بل لأسباب أخرى كالاحتياط، أو ظن الخطأ، أو زيادة التثبت، أو غير ذلك.
ثم إن هذه الوقائع التي رد فيها خبر الواحد نرى أنه قد قبل
(1) انظر: الإحكام للآمدي (1/ 69)، فتح الباري (13/ 237).
خبره بانضمام ثان إليه، أو ثالث، وهذا لا يخرجه عن كونه آحادا، فثبت عملهم بأخبار الآحاد (1).
فقول أهل الكلام: إن أحاديث الآحاد لا يستفاد منها عقيدة ولا علما قول باطل، دلت الأدلة على خلافه.
وبهذا يتبين أن الحق هو الأخذ بخبر الواحد الصحيح والعمل به، وليس هناك دليل صحيح عند أهل الكلام يصلح للتمسك به في رد خبر الواحد، يقول ابن دقيق العيد رحمه الله:" وعلى الجملة فلم يأت من خالف في العمل بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به، ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة، بحيث لا يتسع له مصنف بسيط، وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال فذلك لأسباب خارجه عن كونه خبر واحد من ريبة في الصحة أو تهمة للراوي، أو وجود معارض راجح أو نحو ذلك "(2).
(1) انظر: الرسالة للشافعي ص (187)، روضة الناظر ص (97)، والمحصول (2/ 1 / 553).
(2)
انظر: إرشاد الفحول للشوكاني ص (49)، فقد نقل ذلك عنه.