الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شبهات حول الإسلام
لمعالي الدكتور / محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فتكثر هجمات الغربيين بين وقت وآخر على الإسلام، وعلى تعاليم هذا الدين، متعرضين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بما يرمون من ورائه الإساءة لدين الله الحق، واعتباره مفكرا لا رسولا، ووراء ذلك كما نلمس اليوم من الهجمات الكثيرة على المملكة العربية السعودية، وعلى تعاليم دين الله الحق، الذي لا يقبل الله من البشر دينا سواه، وهو الإسلام، الدين الذي أرسل الله به الرسل، من أولهم إلى آخرهم - محمد صلى الله عليه وسلم الذي ختم الله به الرسالة، وهو الدين الذي رضيه الله لخير أمة أخرجت للناس.
يحرك الأمور اليهود، الذين أخبر الله عنهم بأنهم: أشد الناس عداوة للذين آمنوا بقوله سبحانه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (1)
وقد اندس كثير منهم بين المستشرقين في بلاد الغرب
(1) سورة المائدة الآية 82
والشرق، الذين اهتموا بدراسة الإسلام وكتبوا عنه، ما بين طالب للحق، ومبطل له، وأكثرهم مبطلون.
ومما لا يخفى على ذوي البصيرة أن غالبية من كتب عن الإسلام في بلاد الغرب، حسب ما ظهر من كتاباتهم، أمثال كولدزيهر الألماني، وغوستان لوبون الفرنسي، ودينيه جنيون، وفانساي مونيوي، وإثيان دينيه، ولورد هدلي، وتولستوي وكارليل وغيرهم كثير. هؤلاء الذين كتبوا عن الإسلام وأخذ عنهم من يكتب اليوم، ينقسمون إلى قسمين:
1 -
إما خصوم للإسلام، يريدون من دراستهم تشويه حقيقة هذا الدين، والتنفير منه. فهم يكتبون عن عداوة مبيتة.
2 -
وإما غير فاهمين له، ويقيسون ما يكتبون بمفاهيم سائدة في عقائدهم، وأمور يرونها بارزة في مجتمعاتهم " ومن جهل شيئا عاداه "(1).
ولما كانت تعاليم الإسلام، جاءت من عند الله سبحانه: عقيدة وتعليما وعبادة، والقرآن الكريم الذي هو مصدر التشريع الأول والأساس: منزل من الله جل وعلا، وليس من تأليف محمد عليه الصلاة والسلام، كما يفهمه كثير من الدارسين للإسلام من بلاد الغرب والشرق، أو يقوله من تشبع بفكرهم وتعلم على
(1) مثل عربي، انظر: معجم الأمثال العربية للدكتور / عفيف عبد الرحمن 2: 905
أيديهم. حيث يصر على هذا المفهوم، تقليدا وتأثرا.
ذلك أن عمق الدلالة من القرآن الكريم، لا يدركها إلا من درس اللغة العربية. فمثلا هذا " موريس بوكاي " الطبيب الفرنسي، كانت له آراء جدلية في القرآن الكريم، يقلب بها الفهم الصحيح للقرآن، من باب طرح الشبهات. وبعد أن اجتمع بالملك فيصل رحمه الله ليعالجه اعتبر الفرصة سانحة، وفرح بهذه الفرصة، التي إن فاز فيها، حقق مكسبا كبيرا للتبشير النصراني.
فقال له موريس بوكاي: أريد مناقشتك في القرآن، لأثبت لك ما فيه من أخطاء؟
فقال له الملك فيصل: هل قرأت القرآن باللغة العربية؟ قال: لا ولكن بترجمة معانيه إلى اللغة الفرنسية.
قال: هذا لا يكفي، اقرأه باللغة العربية، لتفهمه ثم ناقشني بعد ذلك.
فعكف موريس بوكاي على تعلم اللغة العربية لمدة عامين، حتى أتقنها ثم لما قرأ القرآن بها، تغير حكمه، ووجد أن كل ما فهمه من كتاب الغرب عن القرآن خطأ في خطأ. فهداه الله للإسلام بعد ذلك.
ولذا ألف كتابه: القرآن والتوراة والإنجيل والعلم، الذي ترجم من اللغة الفرنسية إلى اللغات: الإنجليزية والعربية والأندونيسية والصرب كرواتية وغيرها، ونفع الله به، لما فيه من إثباتات لتحريف اليهود وكذبهم.
كما ألفت المستشرقة الألمانية: زيغريد هونكه كتابا عن أثر الحضارة العربية في أوروبا، الذي ترجم لعدة لغات بعد أن أسلمت، وحقق نتائج طيبة، لمخاطبته عقول الناس في الغرب، بما يعرفون وبما يهتمون به، وهذا عنوانه:( DR. SIGRID HUNKE. ALLAHS SONNE UBER DEM ABENDLAND UNESER AKABISCHES ARBE) وقد كان لمثل هذين الكتابين، من الكتب الكثيرة التي ألفها أناس درسوا الإسلام، وفهموه من منابعه، تأثير في فهم كثير من أبناء الغرب، لحقيقة الإسلام، فوفق الله سبحانه، من أراد هدايته لنور اليقين، والدخول في الإسلام عن قناعة، يقول سبحانه:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1)
ولقد اطلعت على كتابة لأحد الألمان اسمه: جاتلا في جريدة رتشاد، ظهر لي منها أنه لا يعلم بالدين الإسلامي، وأنه اقتبس من: كتاب البرفسور الدكتور: أرنست ورز، والدكتور: كيرن رودلف. كما أخبرني من تحدثت معه في الموضوع، وما جاء في المقال من
(1) سورة القصص الآية 56
شبهات نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام.
وأبدي هنا بعض الملاحظات على ما ورد في تلك الكتابة، التي أرجو أن يكون فيها تصحيح للمعلومات التي ترد على بعض الكاتبين عن الإسلام في بلاد الغرب والشرق، لعل الله ينفع بها فأقول، عن تلك الشبهات، والتي تأتي عندهم كثيرا:
1 -
قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: " وقد توفي والده التاجر بعد ولادته بقليل ". وهذا غير صحيح، فإن المعروف أن والد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كان فقيرا، وأن التاجر هو جده عبد المطلب. أما والده عبد الله فقد توفي قبل ولادته عليه الصلاة والسلام.
2 -
قال عنه أيضا عليه الصلاة والسلام: " اضطر محمد إلى العمل راعيا، كي يكسب قوت يومه، ثم عمل بعد ذلك دليلا للقوافل التجارية ": الصحيح أن محمدا عليه الصلاة والسلام، عمل راعيا للغنم لهدف أراده الله سبحانه: وهو توطين نفسه على الصبر والتحمل، وسياسة الناس، وقد رعاها غيره من الأنبياء. كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم، ليوضح فيما بعد الحكمة:«ما بعث الله نبيا إلا ورعى الغنم قال أصحابه، وفي رواية قال له عمر رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم، كنت أرعاها بقراريط لأهل مكة (1)» . والقراريط
(1) أخرجه البخاري في الإجارة، وكذا ابن ماجه، ورواه مالك في الموطأ في الاستئذان 2:971.
شيء زهيد مما يدل على أن الهدف ليس كسب القوت كما قال الكاتب.
كما كان من صفات أهل مكة أنهم كانوا يحرصون على تعويد أولادهم العمل من الصغر؛ لتهيئتهم في تحمل مشاق الحياة، وتعويدهم العمل، والصبر على مكاره الحياة المقبلة عليهم. أما كونه دليلا للقوافل التجارية: فإن ما رصد من تاريخه عليه الصلاة والسلام قديما وحديثا لم يذكر ذلك، وإنما عرف في سيرته أنه سافر مرة واحدة مع قوافل التجارة للشام، كما يسافر غيره من شباب مكة ولم يكن دليلا للقوافل؛ لأن الدليل يترتب عليه أن يكون في حياته كثير الأسفار، حتى يتعرف على مسالك الطريق، ويكسب بالخبرة والمران خبرة ودراية بالدروب، وما عرف هذا في سيرة محمد عليه الصلاة والسلام.
3 -
قوله: وقد أحبته المرأة التي تكبره بخمس عشرة سنة وتزوجته إلخ ما قال: يعني بذلك خديجة بنت خويلد، فهي رضي الله عنها: لم تحبه الحب المفهوم في نظر الكاتب، والسائد في القصص الغرامية، وإنما أعجبت به، وبالبركة التي حصلت على يديه، حيث ربحت تجارتها، ورأت الخير في أعماله، وفيما على تجارتها من نمو؛ لصدقه وأمانته، حيث كان يعرف في مكة بذلك فسموه: الأمين.
وخديجة رضي الله عنها، لم تكن بعيدة عن محمد، فقد كانت
قريبة له، وتعرفه جيدا وعندها مال، ولا مدبر له من الرجال، فكان من المألوف أن تعرض عليه الزواج - لحكمة أرادها الله سبحانه - لأنها وجدت فيه من الصفات، ما تنعدم في غيره، من الكرم وحسن الأخلاق، وحميد السجايا، وعفة النفس والأمانة.
فكان زواجا سعيدا، وقد لاقى من بني هاشم كل سرور وبهجة، لأن فيه تكافؤا ومقاربة.
4 -
قال عن سفر الرسول الكريم إلى الشام: حيث تعرف على النصرانية، وكذلك على اليهودية، فأعجب أيما إعجاب بالديانتين، مما جعله يعتزل باستمرار للتحنث. . إلى آخر ما ذكر. . في هذا الموقف فيجب أن يعرف الكاتب أمورا منها:
أ - أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أميا، لا يقرأ ولا يكتب، كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} (1) الآية.
فكيف يتعلم من اليهود أو النصارى. . كما أنه لم يعرف عنه أنه جلس عندهم، أو عند غيرهم للتعلم.
ب - أن اليهود الذين كانوا في المدينة، اعتادوا طرح الشبه التي كانوا يعرفون عنها في كتبهم، ويجهلها أهل مكة، لأن العرب أهل جاهلية، فيلقونها لمشركي مكة في محاولة لتعجيز محمد صلى الله عليه وسلم،
(1) سورة الجمعة الآية 2
إذا لم يكن نبيا. . مثل: السؤال عن أهل الكهف، وعن قصة الخضر مع موسى، والسؤال عن ذي القرنين، وعن الروح وغير ذلك من شبه لها أخبار في كتبهم ويجهلها العرب. ويقول لهم اليهود: لا يجيبكم على هذه الشبه إلا نبي (1)، ومع أنه أخبرهم لم يؤمنوا.
علما بأن التوراة والإنجيل لم تتعرضا لبعض تلك الشبه المطروحة. . ولو كان عليه الصلاة والسلام، قد تأثر باليهود والنصارى، لوقف حيث وقفوا. . ولكن الجواب كان في القرآن الكريم أشمل مما لديهم، وجاء فيه أخبار تبين كذب اليهود، وتوضيحات عن أمور لم تكن في كتب اليهود والنصارى.
ج - من المعلوم أن المتأثر يكون فهمه للموضوع، وإجابته عما يطرح عليه أقل من الأصل، ولكن القرآن الكريم، أصبح في بيانه أوفى وأدق، من التوراة والإنجيل، مما يبرهن على نقصهما، وكمال القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه. وأن مصدر القرآن التنزيل من الله سبحانه؛ لأنه أخبر عن أمور غيبية، لم يدركها اليهود ولا النصارى.
د - أن القرآن الكريم: جاء فيه حوار ونقاش مع اليهود والنصارى فيما يتعلق بالمسيح ابن مريم عليه السلام، وأمه مريم وعزير، وقولهم عليهم بما يغضب الله سبحانه، وكذبهم على الله وتحريف الكلم عن
(1) جاء الرد على هذه الشبه في سورة الكهف.
مواضعه. . وقولهم: إن الله فقير ونحن أغنياء، وإن يد الله مغلولة فلعنهم الله بذلك. قال سبحانه:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (1) الآية، وقوله:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (2) وبيان قصة يوسف مع إخوته، وعناد اليهود ومخالفتهم. . وفي المباهلة مع النصارى أهل نجران، والذين أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وغير هذا من المواقف الكثيرة التي هي من الغيبيات وذكرها الله سبحانه في القرآن الكريم، ولو كان محمد عليه الصلاة والسلام متأثرا باليهود - في هذه الشبهة - لما فضحهم الله في أمور ادعوها وتبين كذبها، وجاءت في القرآن الكريم لتقوم الحجة عليهم بذلك.
ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم آخذا عن النصارى واليهود، لما اختلف معهم في حقيقة عيسى ومريم. . وعزير وغيرهم، إذ يتأثر بهم، ولكنه يأتي بأشياء تنافي ما يعتقدونه، وهذا برهان على أنه لم يعجب بهاتين الديانتين كما ذكر الكاتب.
(1) سورة آل عمران الآية 181
(2)
سورة المائدة الآية 64
5 -
لذا يجب أن نعرف أنه لم يتأثر بهم، وإنما الذي جاء في القرآن الكريم، هو إجابة لما يرى اليهود أن فيه تعجيزا، عن أمور حصلت
لأمم سابقة ورد ذكرها في التوراة، وعرف بعضها لدى النصارى، فكان الجواب حجة عليهم، بأن هذا هو تفاصيل وحقائق لما سألتم عنه. وجاءت هذه الأمور في القرآن الكريم أوفى وأدق، وصححت ما بدله أصحاب الديانات والأهواء السابقة لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وفي هذا مقنع على ادعاءاتهم، وإفحام عن تعجيزاتهم وشبهاتهم.
6 -
ولما كانت الديانات الحقة كلها من عند الله، فإن آخرها ينسخ أولها، ومن هنا نعرف أن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الله، ليبلغه للثقلين الإنس والجن، لم يعاد اليهود والنصارى ليهوديتهم ولا لنصرانيتهم، ولم يهاجم كتبهم بل احترمها وجعل الإيمان بها جزءا من عقيدة الإسلام، ورأى معاملاتهم معاملة حسنة، وسموا أهل الكتاب وأنزلوا في الإسلام منزلة كريمة فيجوز التزوج منهم، وأكل ذبائحهم، مع إبقاء من لم يصر على محاربة المسلمين على ديانتهم، مع دفع الجزية وأمر المسلم بالإيمان بما أنزل الله عليهم من كتب، والتصديق برسلهم: موسى وعيسى وغيرهما عليهم السلام. ثم مناقشتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن في مواضع الخلاف في ديانتهم مما دخله التغيير والتبديل، حتى يتضح الحق والصواب، ويستبين الرشد من الغي، أما النسخ فهو لحكمة أرادها الله بالتخفيف، حيث كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم
فيها التخفيف والتيسير.
وندرك حكمة ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وأنها حق من عند الله سبحانه في أمور منها:
أ - أن شريعة الإسلام تخاطب دائما العقول السليمة وتدعو إلى العلم لأن الحقيقة لا يمكن التوصل إليها إلا بذلك، يقول الله سبحانه:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1)
ب - أن تشريعات الإسلام عندما تناقش بعقل وتجرد يلمس المرء أنها عبادة لله، فإنها أوجدت لمصالح البشر البدنية والاجتماعية، وأنها صالحة لكل عصر ومصر، مهما تغيرت الأحوال ومتطلبات الناس: صحيا واجتماعيا وتعليميا، لأنها جاءت من عند الله سبحانه الذي يعلم ما تصلح به أحوال الناس إلى يوم القيامة.
ج - كما أن عالمية شريعة الإسلام، الذي أمر محمد عليه الصلاة والسلام أن يبلغها للناس، تجعل هذا الدين لا يفرق بين جنس وجنس ولا بيئة وبيئة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (2)«ولا فرق بين عربي على عجمي إلا بالتقوى (3)» .
ذلك أن تعاليم دين الإسلام تتلاءم مع أعلى المستويات التي
(1) سورة فاطر الآية 28
(2)
سورة الحجرات الآية 13
(3)
جزء من حديث رواه الإمام أحمد في مسنده.
تصل إليها حضارة الإنسان ومداركه ومتطلباته في كل زمان ومكان، فلا تجد مدخلا من مداخل العلوم والطب والفلك والاقتصاد والتربية وعلم النفس والاجتماع وغير ذلك إلا والإسلام سابق إليها، بعكس ما حصل لأوروبا في عصر النهضة عندما وقفت الكنيسة ضد المسائل العلمية الحديثة، فاستعانوا بالقاعدة العلمية الحضارية الإسلامية، وأسسوا علومهم على ما وجدوه عن العرب المسلمين في الأندلس في مرافق شتى، كما أوضحت ذلك الدراسات العلمية في بلادهم من باب الاعتراف بالفضل لأهله.
د - أن ما يراه مفكروهم من الأمور الجامدة في مفهوم التوراة والإنجيل، كانت معالجة الإسلام لها أكثر وضوحا، وأدق في الدلائل بحيث اقتنعت العقول بوجهة نظر الإسلام، وخاصة في النواحي العقلانية التي جذبت كثيرا من أرباب القلم والفكر في بلاد الغرب، فكتب المصنفون منهم عن الإسلام بتجرد - وهم بحمد الله كثير - وخاصة في هذه الأيام التي كثر فيها الهجوم على الإسلام واتهام تعاليمه بالإرهاب، ورغبة بعضهم بتعديل بعض النصوص مما يرفضه كل مسلم.
وإن من يتمعن في كتاب الله الكريم ليجد عددا كبيرا من الآيات تخاطب العقول والقلوب؛ لأنها موطن الفهم والإدراك " أولي
الألباب - لقوم يعقلون - لهم قلوب لا يفقهون بها " إلخ.
7 -
قال الكاتب عن النبي صلى الله عليه وسلم ولما بلغ الأربعين تملكه شعور بأن تخيلاته قد سيطرت عليه وملكت عليه جميع حواسه إلى درجة أنه اقتنع بأنه رسول إلى العرب فراح يجهر بنظرياته في مكة، وينذر في هذه النظريات.
هذا الكلام يتناقض مع العنوان الذي وضعه الكاتب لموضوعه عندما قال: النبي محمد يضع الأركان الخمسة للإسلام.
وكأن الكاتب يريد نفي الرسالة من الله سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم والقول بأنها - يعني الرسالة بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم ما هي إلا ادعاء وقناعة شخصية، ولو كان قرأ القرآن الكريم الذي عندما نناقش ونجادل بالتي هي أحسن القساوسة وبعض المفكرين منهم، فإنهم يسلمون الأمر؛ لأنهم يرونه حقا، اللهم إلا من الملاحدة واليهود فإنهم يتكبرون ويعاندون.
نقول إن آيات كثيرة في هذا المصدر الكريم، تبين أن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه، مما لا يدع مجالا بأنه ناتج عن تخيلات وادعاء كما يقول هذا الكاتب، يقول سبحانه:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1){وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (2)
(1) سورة البقرة الآية 119
(2)
سورة النساء الآية 79
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} (1)
والآيات والأحاديث في هذا كثيرة. وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بنص القرآن أولا، ثم ما يجدونه في كتبهم، وبشارة عيسى عليه السلام به ثابت لا مراء فيه، وأنه مؤيد من ربه بإظهار هذا الدين الذي بلغ بالدعوة إليه، ولو كان الأمر بالادعاء لكثر من يدعي هذا الأمر، ولكنها رسالة يعرفها كبراؤهم، كما يعرفون أبناءهم كما قال سبحانه:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (2) ولكنهم قوم يكتمون الحق، وينكرون ذلك بسابق الإصرار؛ حسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي خصه الله بالرسالة، وكانوا يظنون أن نبي آخر الزمان سيكون من ذرية إسرائيل.
ولما كانت الحكمة تقول: إن البقاء للأصلح: فإن محمدا صلى الله عليه وسلم بقيت رسالته، وثبتت أوامر هذه الرسالة وتشريعاتها، وحفظ الله كتابه الكريم - القرآن - الذي أنزل الله عليه صلى الله عليه وسلم، وسيبقى بإذن الله دين الإسلام عاليا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أما أصحاب الادعاءات والقناعات الشخصية فلم ولن يكتب لهم البقاء، وما يحصل فإنما هو ابتلاء، يمتحن الله به قلوب
(1) سورة الرعد الآية 30
(2)
سورة البقرة الآية 146
وأعمال أهل الإيمان الصادق، كما قال سبحانه:{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} (1)
وفي هذا دلالة لا تقبل المراء على أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، وأن ما سماه الكاتب نظرياته، ما هي إلا تعليمات دين الإسلام، التي نزلت من الله جل وعلا، قرآنا يتلى واضحة آياته، بينة دلالاته، لم يؤلفه ولم يتقوله من نفسه، يقول سبحانه:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} (2){لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} (3){ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (4)
وقد تعهد الله جل وعلا بحفظ ما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام القرآن الكريم كتاب الله الخالد - عن التعديل وعبث العابثين، كما قال سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (5)
ففي تاريخ الإسلام عرف أن طبعات وتعديلات، أدخلت - دسا - على القرآن الكريم عن طريق اليهود وغيرهم من أعداء دين الله، فانكشفت أعمالهم ولم يقدر لها أن تبقى وهذا من حفظ الله سبحانه لكتابه الخالد، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، عن كل عابث وحاقد.
(1) سورة الأنفال الآية 37
(2)
سورة الحاقة الآية 44
(3)
سورة الحاقة الآية 45
(4)
سورة الحاقة الآية 46
(5)
سورة الحجر الآية 9
ومن هنا لا توجد في القرآن تناقضات كما يصورون في شبهاتهم، أما نسخ التوراة والأناجيل، التي بين أيديهم اليوم، فهي خاضعة للتعديل والتبديل بما تصف ألسنتهم، كما أخبر الله عنهم بأنهم يلوون ألسنتهم بالكتاب، وما هو من الكتاب، وأنهم يتعمدون الكذب على الله وهم يعلمون.
ولأنهم يرون ما في كتبهم التي بين أيديهم تناقضا يتنافى مع العقل والعلم، ومتطلبات الحياة، فقد جاءت مرئياتهم عن القرآن الكريم والرسالة المحمدية على هذا القياس، وهو قياس فاسد، لتباين ما يصدر من الله، - الذي لا نقص فيه - مع ما يصدر من البشر - الذي سمته القصور -، فقد جاء القرآن الكريم شاملا ووافيا، بأمور الدين والدنيا، وما يوصل إلى الآخرة، يقول جل وعلا:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) هذا فيما يتعلق بما كتبه الله في اللوح المحفوظ، أما القرآن الكريم فيقول الله جل وعلا:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) ولو كانت المسألة قناعة من محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة - كما يدعي هذا الكاتب -: لما عاتبه ربه في أكثر من موضع، وإنما المسألة تكليف من الله، ولكن اليهود
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2)
سورة النحل الآية 89
حسدوه على هذا ودبروا له المكائد. أما قوله: بأنها نظريات: فما هي إلا شرائع وتكليفات في العبادة من الله سبحانه، وفي المعاملات لتغيير المجتمع الجاهل في بلاد العرب، ذلك أن النظرية تحتمل الصدق والكذب لأنها من البشر، أما الشرائع التي هي من الله، وكلف محمد صلى الله عليه وسلم تبليغها فهي حقائق ثابتة، ولو نوقشت بالعقل والمنطق، ووفق متطلبات الإنسان، في كل زمان ومكان لما كانت متناقضة - كما يحلو لهم أن يصموا الإسلام رغبة في النيل منه، والتنفير عنه -، بل إنها تسبق التطورات البشرية في العلوم والمخترعات، وشتى الفنون والمعارف.
وتخيلات الإنسان مهما كان من العبقرية، لا ترقى إلى إحداث تعليمات - كما يقول الكاتب - تغير بنية المجتمع بأسره في شتى مجالات الحياة ويكون لها ديمومة وانتشار بعيد الأثر؛ لأن البشر سمتهم القصور عن استيعاب جميع جوانب الحياة، ومتطلباتهم فيها، فضلا عن الأمور الغيبية، التي لا يعلمها إلا الله سبحانه.
ولكن عندما جاءت هذه الأساسيات في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت متكاملة، وفي فترة وجيزة من الزمن، في مكة قبل الهجرة، وفي المدينة بعدها، أدركنا أنها بقوة فوق قدرات البشر وعلمهم، وأنها تنزيل من عليم بأحوال الناس، وما يصلحهم في حياتهم ومعاشهم، ويسعدهم بعد مماتهم لمن استجاب وعمل،
وهو الله سبحانه وتعالى العليم بكل شيء، والقادر على كل شيء، وكل شيء يأمر به عباده فلحكمة أرادها سبحانه.
ولما بلغ محمد عليه الصلاة والسلام الأربعين، وهو من النضج والكمال العقلي الذي هيأه الله فيه لتبليغ الرسالة المكلف بها، والدعوة لدين الله الحق ومن ثم محاورة العقول بما يقنعها، حتى تخرج من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، أرسل إلى قومه والناس كافة والجن أيضا؛ لأن رسالته شاملة للثقلين فهو صلى الله عليه وسلم مبلغ وأمين على ما أوحي إليه، وليس بمبتكر أو مبتدع من تلقاء نفسه أو بمدع للرسالة من ذاتيته، ولذا استجاب الناس بعد نقاش وحوار عن قناعة، ودخل من أراد الله هدايته من أمم الأرض برضا وطواعية بهذا البلاغ، الذي حمله الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (1){وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} (2)
ومثل ذلك القول قد طرحه اليهود والمشركون كشبهة من الشبه، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الرد من القرآن الكريم، بتعليق الأمر بالله سبحانه، حيث يقول جل وعلا:{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (3) وقوله سبحانه:
(1) سورة النصر الآية 1
(2)
سورة النصر الآية 2
(3)
سورة يونس الآية 16
فمحمد صلى الله عليه وسلم، لا يدعي أنه يأتي بنظريات من تلقاء نفسه، وينسبها إلى الله ثم يدعو إليها؛ لأن النظريات يقابلها نظريات أخرى، والبلاغة اللسانية لها مقاييس عند العرب المشهورين بالبلاغة والفصاحة، ومن قبل كلام هذا الكاتب، قد أتوا بأفصحهم لغة، وأقدرهم شعرا، وأمكنهم في النقد وأكثرهم حكمة، ووضعوا موازينهم في هذه الأمور، فخرجوا بنتائج:
- منها عدم استطاعتهم الإتيان بمثل ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
- وأن ما جاء به يختلف عن مقاييس الشعر والبلاغة.
- وأن ما فيه من بيان وحكمة، يفوق ما ألفوا من أساليب الحكم.
فلما عجزوا عن كل ذلك قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (2)
(1) سورة يونس الآية 15
(2)
سورة المدثر الآية 24
8 -
قوله: لقد كان أهل يثرب يبحثون في مكة عن شخصية تستطيع إنهاء النزاع، القائم في يثرب بين قبائلها، ومقابل ذلك قدموا له - يعني محمدا رسول الله - اعترافه بتعاليمه كدين وحيد عندهم. هذا المفهوم عنده، يجب أن يبلور: بأن اليهود لهم حلف في يثرب
مع بعض القبائل، فكانوا يناصرونهم ضد القبيلة الثانية، فإذا حصل لليهود ضرر صاروا يتوعدونهم بنبي سيخرج صفته كذا، ونعته كيت، وأن زمانه قد قرب، وأن من اتبعه لن يغلب، حسبما يجدون في التوراة التي بين أيديهم، ويتوعدون بعض القبائل المتناحرة في يثرب بسرعة الانضمام لهذا النبي ساعة خروجه، لأن ما يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة قد أخبرتهم عنه وعن أعماله وأنصاره.
كما أن عيسى عليه السلام قد بشر برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه رسول يأتي من بعده: يقول الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (1) ولكن اليهود كما هي عادتهم العناد مع جميع أنبياء الله، والمخالفة للديانات الأخرى، كما حصل مع المسيحية من قبل الإسلام، فقد عاندوا مع موسى عليه السلام، ومع زكريا ويحيى عليهما السلام، ومع عيسى ثم محمد عليهما السلام، بعدما خرج كل منهما بالرسالة التي أمره الله بتبليغها فكذبوا وعاندوا. فقلد بعض أهل المدينة اليهود حيث نافقوا، أما الأوس والخزرج، فوجدوها فرصة للمسارعة باتباعه؛ لأن من فطرتهم وخلو أذهانهم هيأهم الله بذلك للبحث عن الأصلح
(1) سورة الصف الآية 6
الذي وصفه لهم أهل الكتاب - اليهود - فوفقهم الله إلى الالتقاء برسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، وبعد ما عرفوا ما يدعوهم إليه، سارعوا في الاستجابة والإيمان به، وبما جاء به، وعاهدوه على نصرته إذا هو هاجر إليهم. . بعد أن خذله قومه. فسموا من ذلك الوقت بالأنصار. كما عاهدوه على ترك وثنية الجاهلية، وعبادة الأصنام، فأرسل إليهم أصحابه نجاة بدينهم وليعلموا هؤلاء المسلمين الجدد دينهم. . وبعد أن أذن الله بالهجرة إليهم، شد الرحال مما أغاظ يهود المدينة، فزاد حقدهم، وتكاثرت دسائسهم، وما تخفي صدورهم أكبر.
وهو عليه الصلاة والسلام لا يعمل شيئا تجاه هذا الدين الذي دعا إليه من تلقاء نفسه، بل هو مبلغ وأمين على التبليغ. . فإنسان عرف عند قومه منذ حداثة سنه بأمانته وصدقه، ووفائه وجميع مكارم الأخلاق، ولم يعرف في حياته أنه خان أحدا من البشر، فكيف يخون الله سبحانه في الرسالة، وكيف يكذب عليه جل وعلا؟؟!.
9 -
أما قول الكاتب: فأظهر في أقصر وقت، أنه منظم ذكي، وسياسي ذو نظرة ثاقبة، ومؤسس دين حكيم.
فقد تكون العبارة أدعى للعقلانية، وتقريب المفهوم لو قال: وظهر في أقصر مدة، أنه حكيم وذكي وسياسي ذو نظرة ثاقبة، لأن هذا الدين - الإسلام - الشامل، الذي جاء به عن أمر الله يصلح
أحوال الدين والدنيا. . لو قال ذلك لما تعارض مع الدارسين من أبناء جلده لهذا الدين.
أما عن تأسيس الدين الحكيم، فهو لا شك بتوفيق الله، قد جاء من صبره عليه الصلاة والسلام على الدعوة، وما تحمل في فترة التبليغ من الأذى، والمصابرة في سبيلها، على فترتين الأولى في مكة:
- فقد كان ينطلق في تبيلغ ما أنزل الله عليه من شرائع، حسب حاجة النفوس إلى البناء، والتشبع بفهم الإسلام، وتمكين العقيدة مع الله سبحانه. وهي وإن كانت أطول المدتين، إلا أن بناء العقول، أثقل من بناء الدول.
- والثانية في يثرب، التي سميت المدينة - أو مدينة الرسول -، حيث اتخذها قاعدة الانطلاق، لأن الأتباع وهم المؤمنون، قد تشبعوا بالعقيدة وتمكنت من قلوبهم تعاليم الإسلام، ومع أن أعداء الدعوة يصرون على ملاحقتها في منتجعها الأخير، واليهود في المدينة، الذين تنكروا لهذه الدعوة، وأخذوا على أنفسهم عهدا قطعوه بالمعاداة والكيد لهذه الدعوة وللداعي لها وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
فكان لا بد من رد العدوان، ومقاتلة من تسلط عليهم وإظهار القوة أمام الخصوم، فأعداء محمد عليه السلام ودعوته، هم أعداء الله يريدون القضاء على محمد وأصحابه، ولا تزال عداوتهم مستمرة، أما المسلمون بقيادة محمد عليه الصلاة والسلام، وأصحابه من بعده،
ومن تبعهم بإحسان فلا يريدون للبشرية عموما إلا الخير والفلاح، وهدايتهم لما فيه فلاحهم في الدنيا ونجاتهم في الأخرى. وقد وضح هذا المنهج الصحابي: ربعي بن عامر لكسرى، لما جاءه يدعوه وهو في إيوانه فقال: جئنا لنخرجكم من الظلم إلى عدالة الإسلام.
10 -
قول الكاتب: " وبعد ذلك يعني محمدا عليه الصلاة والسلام حرم اليهود بعض حقوقهم " لست أدري ما الحقوق التي حرموا منها؛ لأن ذلك لم يأت له في التاريخ الموثوق ذكر، وإنما المعروف: أن محمدا عليه الصلاة والسلام، منذ وصل المدينة مهاجرا، كان أول شيء حرص عليه أن عمل معاهدة مع اليهود، وكتابة ميثاق بينه وبينهم، فتمسك هو بنصوصه، أما هم فقد:
- تحايلوا على بعض نصوصه، وسخروا أموالهم لمساعدة خصومه عليه.
- وساعدوا أعداءه عليه في غزوة الأحزاب وأحد بالتخطيط والأموال والسلاح والرجال والتجسس.
- سلطوا شعراءهم عليه بالإيذاء، ثم إيذاء نساء المسلمين، كما فعل كعب بن الأشرف اليهودي.
- حاولوا قتله بإلقاء حجر عليه، من فوق جدار، وهو جالس يحادثهم (1). وغير ذلك من أمور عملوها ضده صلى الله عليه وسلم.
(1) يراجع في هذا سيرة ابن هشام، وتاريخ ابن كثير، البداية والنهاية.
والمعروف في جميع الملل والنحل أن المواثيق تحترم بنودها وزمانها، وأنها عهد تلتزم به النفوس، فمحمد صلى الله عليه وسلم تحمل منهم النقض مرارا وتكرارا، ولم يعاجلهم العقوبة، مع أنه قادر، حتى رآهم يستمرئون المخالفة، ويستهينون بالمواثيق، ويرون تطبيقها من جانب واحد، وهو ما فيه مصلحة لهم، أما هم فيتصرفون كيفما شاءوا. . مثل ما حكى الله عنهم بقوله تعالى عنهم:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) ويريدون بالأميين من ليس يهوديا من العرب.
فكانت النذارة لهم ثم لما تمادوا في عداوة محمد عليه الصلاة والسلام وخانوا العهود أجلى قبيلة منهم عن المدينة، ثم بعد زيادة العداوة والمكيدة وجد أنه لا ينفع معهم غير القوة، أما من دخل الإسلام منهم عن علم ومعرفة فقد طالهم من بني جلدتهم - اليهود - الأذى أيضا، كما حصل لعبد الله بن سلام وصفية بنت حيي رضي الله عنها، التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك تسلية لنفسها.
(1) سورة آل عمران الآية 75
11 -
أما قوله: فأخذ يغير على قوافل مكة التجارية، يقطع طرقها، مما جلب له الغنائم الكثيرة، وكان من مبادئ محمد إطماع كل محارب معه بالغنى من الغنائم، وهو بديهي، أمر له تأثيره الكبير على معنويات القتال، وتلا ذلك معارك كثيرة في الصحراء، كانت
لها انتصاراتها المتفاوتة، ولكن روح القتال في المدينة ظلت تزداد تزمتا وتعصبا. أ. هـ، هذه النظرة من الكاتب ومن بني جنسه: حول مفهوم الجهاد في الإسلام، يجب أن تصحح فالمغانم لم تكن هي الهدف، ولا التسلط ولا المكاسب من وراء ذلك المادية، ذلك أن الغرض المصلحة التي لا يعدلها مصلحة وهي عبادة الله وحده، ودعوة الناس إلى ذلك.
ولعل أقرب ما يميل إليه الإنسان في هذا الأمر، ما أخبر عنه أكبر قساوسة وقادة المسيحية في سوريا، بعد أن تقهقرت جيوش الروم، أمام الجيوش المجاهدة في سبيل نشر الإسلام، فقد انهزمت الروم من موقع لموقع، فاجتمعت فلولهم في أنطاكية عام 13 هـ، وقال قائد الرومان: ما بال جيوشنا تنهزم أمام جيوش المسلمين، ونحن أكثر منهم عددا وعدة، وأكثر تدريبا وأوفر سلاحا؟!. فلم يجبه أحد، ثم قال لقواده وكبار من حوله: أجيبوا. قال أكبرهم قيادة وأكبرهم سنا: هل تأذن لي بالجواب؟. قال: نعم. قال السبب أننا نحب الحياة، وهم يحرصون على الموت، ونحن نريد المغانم، وهم يريدون الجزاء من الله، ويحرصون على الجنة التي وعدوا بها (1)، ونحن نشرب الخمر ونطرب الليل، وهم يسهرون الليل بالعبادة، قال: القائد الروماني: صدقت. فهل يمكن أن نغلبهم؟ قال: لا إلا إذا
(1) يراجع في هذا كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير حوادث عام 13 هـ.
عملوا بما عملنا، وعصوا الله فهنالك يتخلى الله عنهم، ونغلبهم بقوتنا التي تفوقهم، ففرح القائد الروماني، وقال: ومتى ذلك؟ قال: عندما يهتمون بالدنيا، ويحرصون على مكاسبها، ويخفى وازع الدين من قلوبهم أ. هـ.
كما يجب أن يعرف الكاتب وغيره، أن محمدا عمق في قلوب المسلمين مفهوم أن الحرب تختلف عن الجهاد، فمفهوم الحرب عند الأمم الأخرى، غير مفهوم الجهاد في الإسلام من حيث الهدف والغاية:
- فهدف الجهاد، بناء مجتمعات سليمة العقيدة والعمل، وإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام وصفائه في العقيدة والعمل ليكون الدين كله لله.
- وهدف الحرب: الاستئثار بالمكاسب السريعة، وإذلال الشعوب بسيطرة القوى.
- وغاية الجهاد: إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وأن تكون الأمور كلها مسيرة بشرع الله الذي شرع لعباده.
- وغاية الحرب: تسلط الغالب على المغلوب، وفرض إرادته وأنظمته، ليكون هو الآمر والناهي، وإبعاد شرع الله عن أرضه سبحانه.
وحتى يدرك القارئ ذلك: فإن الوقائع الجهادية، تثبت أن محمدا عليه السلام، ومن جاء بعده رافعا لراية الجهاد في سبيل الله، لم
يسبق أن قاتلوا أحدا إلا بعد إرسال مكاتبات لبيان أن الجهاد للدعوة إلى دين الله، فمن استجاب فله ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، ومن لم يستجب عليه أن يؤدي الجزية، ويبقى على دينه وهم أهل الكتاب، ومن امتنع يعطى إنذارا لمدة ثلاثة أيام ليراجع نفسه حيث يبين له الدين الذي جاءوا لنشره، وفيه السعادة كل السعادة للبشرية جمعاء، كما يبين ذلك نص الرسائل التي كتبها محمد صلى الله عليه وسلم لقيصر عظيم الروم، وكسرى عظيم فارس، ومقوقس مصر وغيرهم؛ ولعناد اليهود فإنهم يخافون من الجهاد الذي يدحضهم ويظهر الله به الحق، نراهم هذه الأيام وفي كل وقت يحاولون التقليل من شأن الجهاد، بل يطالبون بحذف آياته من القرآن، كما هي عادتهم تبديل ما بين أيديهم بما تحلو له ألسنتهم. ودين الإسلام لا تفرقة فيه بين الناس، ولا فضل فيه لعربي على عجمي إلا بالتقوى؛ لأن محمدا عليه السلام علمه ربه مقت العنصرية والطائفية والتفاخر بالأحساب والأنساب، فهو يقول:«كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى (1)» .
ويقول خليفته أبو بكر رضي الله عنه: " القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له "(2).
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده.
(2)
سير أعلام النبلاء للذهبي ضمن ترجمة لأبي بكر الصديق، من خطبته رضي الله عنه عندما تولى الخلافة.
ويقول محمد صلى الله عليه وسلم أيضا: «يا فاطمة بنت محمد، يا عباس بن عبد المطلب، يا فلان يا فلان - لأناس من قرابته - فإني لا أغني عنكم من الله شيئا (1)» .
(1) تفسير ابن كثير ج 2 في تفسير سورة الشعراء للآية 214.
12 -
قوله: وتوفي محمد عام 632م تاركا دولة قوية دينيا واقتصاديا وسياسيا، ما عتم الأمر بعدها إلا أن تفككت أ. هـ.
والذي يجب أن يدركه الكاتب وغيره ممن لم يتشبع بمعلومات صحيحة عن تاريخ الإسلام، وانتشاره في الأرض: أن دولة الإسلام كبرت واتسعت، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى شملت أغلب المعمور من الأرض، ذلك الوقت: من الصين شرقا حتى الأندلس والمحيط الأطلسي غربا، وملخص ذلك بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
- دولة الخلفاء الراشدين 30 عاما. وقاعدتهم في المدينة.
- دولة بني أمية 92 عاما. وقاعدتهم في دمشق.
- دولة بني العباس 524 عاما. وقاعدتهم بغداد.
- الدولة الأموية في الأندلس 720 عاما. وقاعدتهم قرطبة.
- الدولة العثمانية بعد العباسية وقاعدتهم في تركيا، لم تنته إلا بعد الحرب العالمية الأولى عام 1335 هـ.
فكيف بهذه المدد الطويلة أن يقال: ما عتم الأمر بعدها إلا أن
تفككت.
أما أسباب التفكك فيعود - والله أعلم - إلى تقليدهم الأمم الأخرى، والابتعاد عن دينهم، وكونه مصدرا لإصلاح أمورهم، وتنظيم الأمور في الحياة لهم ولغيرهم، والابتعاد عن وصية محمد عليه الصلاة والسلام، عندما طلب منه ذلك في آخر حياته، فقال:«تركت فيكم ما لن تضلوا إذا تمسكتم به: كتاب الله الكريم (1)» .
يقول المؤرخ الإنجليزي تونبي: وهو مؤرخ أوروبا في العصر الحاضر: لقد درست حضارات الأمم منذ بدء الخليقة، فما رأيت أمة طال ملكها، وانصهرت فيه الأمم المغلوبة، وأحبوا عقيدتهم، مثل الإسلام، وكل حضارة قامت وانتهت؛ لأن دعائمها التي قامت عليها وقتية، إلا حضارة الإسلام، فإنها قامت على عقيدة دينية، انجذبت إليها الأمم التي شملتها حضارة الإسلام، وكل الحضارات: من صينية وفينيقية، وحمورابية، وآشورية، ورومانية، إلى آخر الحضارات التي ذكر، قد انتهت ولن تعود، إلا حضارة الإسلام فإنها سوف تعود مرة أخرى قوية، وإن البشرية اليوم، مدينة لحضارة الإسلام. أ. هـ. كلامه.
(1) سنن الترمذي المناقب (3788).
13 -
يقول عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: إلا أنه لا ينكر وجود عناصر قوية فيه، من النصرانية واليهودية. . فما يجب أن يؤمن به الكاتب: أن اليهودية في أصلها: ديانة جاء بها موسى عليه السلام لإنقاذ قومه من الضلال، بعد أن أنقذهم الله من فرعون مصر، الذي
كان يسومهم سوء العذاب. وأن النصرانية جاء بها عيسى عليه السلام من عند ربه؛ ليجدد بها الدين الذي جاء به موسى، وليحلل لبني إسرائيل ما حرم عليهم، فكانت الثانية ناسخة للأولى في بعض الأشياء. ثم جاء محمد عليه الصلاة والسلام، بالإسلام ليجدد ما اندرس من الدين، بعد أن كثر الفساد والضلال في الأرض، فكانت ناسخة لما قبلها. أما في العقيدة مع الله فإن جميع الديانات تدعو إلى الإسلام. وما يأتي في الأخيرة مما يتفق مع ما قبلها، فإنه لم ينسخ، فيبقى حكمه، ولنضرب لذلك هذا النموذج: شخص ألف كتابا، فظهر له فيه حاجة للتصحيح والزيادة والتعديل والتبديل، فإن المؤلف يخرج طبعة ثانية، ثم يظهر له تغيير النظريات حسب مجريات الأمور فيخرج الطبعة الثالثة. . . وهكذا. وتكون الطبعات السابقة قد دخلها بعض التعديل ممن تولاها هذا المثل حسب المعهود لدى أصحاب هاتين الديانتين الذين سماهم الله في القرآن الكريم بأهل الكتاب، وهي سمات البشر في نظراتهم القاصرة. . لكن تشريع الله سبحانه وتعالى لعباده، ليس شبيها بما يصدر عن البشر، فتعالى وتقدس عن الشبيه والنظير. . حيث يقول سبحانه:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) ولكن من باب مخاطبة العقول بما تعرف، حتى لا يكذب الله ورسوله (2)، ولتقريب
(1) سورة النحل الآية 74
(2)
كلمة لعلي بن أبي طالب.
الحق لها، لعلها ترعوي إلى أمر الله، وتستجيب إلى دينه الكامل الذي لا يقبل الله من البشر دينا سواه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1)
وما سوف يرونه في معهودهم تغييرا أو تبديلا، فهو قصور في الفهم منهم، وإنما هو في الشريعة نسخ حكم بآخر، وتخفيف من الله سبحانه عن الأمة المستجيبة، كما قال سبحانه:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2)
فالله عليم بخلقه وما يتلاءم مع قدراتهم ولذا نهى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، عن كثرة السؤال والاختلاف، كما حصل من بني إسرائيل في اختلافهم على أنبيائهم، وتعنتهم في الأمور، فشدد الله عليهم بذلك.
وقد جاء في كلام محمد صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد سكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها» . وهذا من رحمته سبحانه بأمة محمد أمة الإسلام، وليس نسيانا فتعالى الله عن ذلك. . وكما ورد في حديث فرضية الصلاة، حيث يقول موسى لمحمد عليهما الصلاة والسلام:«ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف عن أمتك فإنها لا تطيق ذلك، فقد جربت قبلك بني إسرائيل (3)» . .
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2)
سورة البقرة الآية 106
(3)
صحيح البخاري بدء الخلق (3207)، صحيح مسلم الإيمان (162)، سنن النسائي الصلاة (450)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 149).
فخففت من خمسين صلاة إلى خمس في اليوم والليلة، ولمن حافظ عليها بعقيدة وإيمان أجر الخمسين، فضلا من الله وتيسيرا (1).
فالإسلام الذي مصدره القرآن الكريم، وهدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قد خصه الله بميزة أشمل مما في الديانات السابقة، من حيث شموليته لشئون الناس: حياتهم وعلمهم وفكرهم، فكان كاملا، ويصلح لكل زمان ومكان، ولا يوجد بين تعليماته وبين الواقع تباين أو تنافر بعكس ما يوجد في الديانات الأخرى المعدلة المبدلة، أو مما هي من وضع البشر، حيث يبرز فيها القصور.
والكاتب: لو طلب جوابا لكل مسألة في الإسلام لوجدها لا تتعارض مع العلم والفكر والمنطق، علاوة على فتحها الأفق أمام طالب المعرفة، ولكن لو أن ذلك قسا في الكنيسة أو حبرا في المعبد اليهودي، لما أعطاه الجواب، بل يقول له: هكذا قال الرب، ويمنعه من طلب المزيد؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه؛ ولهذا جاءت عندهم كثير من الشبه، التي عجزوا عن جوابها فجاءوا ليقيسوا الإسلام على منوالها. والإسلام بنظرته الواسعة، وعالميته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يعطي الجواب المريح، المعلل لكل سبب؛ مما يقنع العقول، ويريح البصائر.
(1) يراجع حديث الإسراء والمعراج عند البخاري، وفي تفسير ابن كثير.
14 -
يقول الكاتب: اعترف محمد بكل من: إبراهيم وموسى،
ويوحنا المعمدان، وكذلك بالمسيح كأنبياء. . إلخ.
ونقول له إن دين الإسلام الذي دعا إليه محمد عليه الصلاة والسلام، لا يكتمل عند الإنسان ما لم يؤمن: بالله ربا لا شريك له في العبادة والاعتقاد، وبالملائكة، وبالكتب التي أنزلها الله على رسله، ويؤمن بالرسل الذين أرسلهم سبحانه، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. فالإيمان بالله: التصديق بأنه سبحانه وحده المستحق للعبادة، فتصرف له جميع أنواع العبادات، وهو الذي تتعلق به القلوب.
والإيمان بالملائكة، التصديق بوجودهم دون العداوة لأحد منهم، وأن كلا منهم موكل بعمل أراده الله سبحانه، وأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، والإيمان بالرسل: التصديق بهم كلهم، دون تمييز من عهد آدم، الذي هو أول الأنبياء إلى محمد عليهم الصلاة والسلام جميعا الذي هو آخرهم، وأنهم جميعا مكلفون بتبليغ شرع الله وهو الإسلام، وأنهم صدقوا في أداء الأمانة.
أما يوحنا المعمدان، فلم يأت له ذكر في القرآن الكريم، فإن كان هو يحيا بن زكريا، فهو واحد منهم، وكلهم أنبياء كرام، وقد ذكر الله قصته في القرآن الكريم. . وإن كان غيره فنقف من حيث أمرنا الله بقوله الكريم:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1){قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (2)
(1) سورة البقرة الآية 135
(2)
سورة البقرة الآية 136
وقد وضح الله حقيقة الإيمان وكماله في هذا الخطاب الكريم، بقوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (1)
والإيمان بالكتب: هي ما أنزل على كل رسول ليبلغه أمته، والمسلمون يؤمنون بها من غير تفريق، وقد جاء ذكر بعضها في القرآن مثل: التوراة والإنجيل، ويجب عليكم أن تؤمنوا بالقرآن وهو آخرها، وتصدقوا بما فيه.
(1) سورة النساء الآية 136
15 -
يقول: عندما يسمع السور التي يغنيها المؤذن من مآذن المساجد، لعله يعني بذلك الأذان الذي ينبه الناس للصلاة في أوقاتها. . فالأذان ليس سورا. . وإنما هو الإعلام بموعد كل صلاة من الصلوات الخمس، ودخول وقتها.
والصلاة قد فرضت من قبل على أهل الكتاب: اليهود والنصارى، ولكنهم عدلوا فيها، ولم تثبت بالصيغة التي أرادها الله إلا في الإسلام، وبقية الأمم غيرت وبدلت، وكان النصارى وأهل الكتاب يدقون الأجراس والنواقيس من كنائسهم إعلاما بالوقت،
فجاء الإسلام بصيغة الأذان، الذي يرتبط بالله سبحانه عقيدة وذكرا، ومميزا عن الأمم الأخرى، وهذا نصه يلقى من فوق مكان بارز حتى يسمع الصوت، فيجيب كل فرد في أداء الصلاة: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
فهذا النداء ليس سورة، وإنما السور تطلق على الأجزاء والسور من القرآن، وإنما هذا نداء للصلاة، ودعوة لأداء هذه العبادة: حي على الصلاة: أي أسرعوا إليها وأجيبوا، حي على الفلاح: أي حافظوا على ما فيه فلاحكم ونجاتكم؛ لأن المسارعة طاعة لله، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم. والمؤذن لا يغنيها، وإنما يرفع بها صوته لإسماع الناس، حتى يعرفوا دخول الوقت، ويستجيبوا لحضور هذه العبادة في وقتها. وهذه العبادة المفروضة في الإسلام، قد فرضت على اليهود والنصارى من قبل، كما كتب الصيام عليهم أيضا قبلنا معاشر المسلمين، ولكنهم بدلوا في دينهم وغير لهم المتتابعون على دياناتهم من قادة وغيرهم، كما أخبر صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما أسلم وتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان نصرانيا هذه الآية:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (1){اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) قال عدي: لسنا نعبدهم؟ قال رسول الله: أليسوا يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما حرم الله فتحرمونه قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم. فاليهود والنصارى عطلوا كثيرا من شرائع الله التي فرضت عليهم، ومنها الصلاة واكتفوا بتعظيم يومي السبت لليهود، والأحد للنصارى. . واقتصروا على زيارة المعابد في هذين اليومين، ولا يرتادها إلا العجائز والأطفال. . ونبذوا ما شرع الله عليهم وراء ظهورهم. أما المسلمون فقد حرصوا على تطبيق تأكيدات محمد عليه الصلاة والسلام، وفق ما شرع الله بالمحافظة على العقيدة والعبادات. . وفي مقدمتها الصلاة، التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من تركها كفر أو أشرك. . واعتبرت الصلاة ركنا من أركان الإسلام، لا يقوم الإسلام إلا بها، كما أن البيت لا يقوم إلا على الأركان وهي العمد، فإذا سقط منها واحد أو أكثر سقط البيت.
(1) سورة التوبة الآية 30
(2)
سورة التوبة الآية 31
16 -
أما قوله: ويجب أن يسبق الصلاة غسل ذو طقوس، للوجه واليدين والأقدام، أما في الصحراء فيمكن أن يتم هذا الغسل بالتراب. . ولتصحيح مفهوم الكاتب عن الوضوء، الذي هو الطهارة: نوضح له
أن الإسلام علاوة على كونه عبادة لله سبحانه، فإنه يحرص على حماية النفس البشرية، والمجتمع من الآفات، كل ذلك لمصلحة الإنسان، واستقامة سلامته. . فقد اعتبر الطب الحديث: أن تعاليم الإسلام في الصلاة والنظافة والطهارة، قد كفلت للنفس البشرية أهم المقومات الصحية. يقول سبحانه:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (1){وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (2) ولأهمية الصلاة والمحافظة عليها. فإن المسلم عند أداء الصلاة مأمور بالطهارة الحسية، والطهارة الوجدانية. . فأما الحسية: ففي الثوب والبدن والبقعة التي يصلي فيها. . بحيث يراعي هذا في هذه الثلاثة؛ لأن مبدأ الإسلام الحث على ذلك، حتى تزكو النفس، وتخلص في أداء العبادة. وأما الوجدانية فبإخلاص القلب والمعتقد لله، فلا يشرك مع الله غيره في أي نوع من أنواع العبادات، لأن الله طيب لا يقبل إلا ما كان طيبا نقيا.
ولما كانت الصلاة خمس مرات يوميا، فقد أمر الفرد في المجتمع الإسلامي، بأن يتهيأ لذلك بالطهارة المحسوسة الظاهرة، وبالطهارة الباطنة التي لا يعلم حقيقتها إلا الله، وصاحب العمل المحاسب عليه. وهذه ليست اجتهادية من الإنسان، ولكنها أوامر شرعية لا تقبل الجدل. فالظاهرة بالوضوء وتنظيف الأعضاء التي حددها أمر الله سبحانه بقوله الكريم:
(1) سورة المدثر الآية 3
(2)
سورة المدثر الآية 4
أما الباطنة: فهي طهارة القلب من الحسد والحقد، والعمل من الرياء، وعدم إضمار ما يخل بالعمل، قال الله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (2) فلا بد أن يكون المصلي طاهرا ونقيا ظاهرا وباطنا، ونظيفا من كل ما يخل بالصلاة، والوضوء بالماء وإذا لم يجده أو يستطعه في بدنه، فقد خفف الله سبحانه عن المسافر والمريض غير القادر ومن به حروق أو غير ذلك مما يضره الماء، فإن الله خفف عن المسلمين بالتيمم: وهو ضرب التراب باليدين، ومسح الوجه بذلك. . وهذا مما خفف الله به عن أمة محمد، ولما كانت الخصال الخمس التي أعطيها محمد ولم تعط لأحد من الأنبياء قبله، من التخفيف تعتبر فضلا من الله، فإن منها قوله:«وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل (3)» . فكانت تعاليم دين الإسلام سهلة وميسرة، لا مشقة فيها يقول
(1) سورة المائدة الآية 6
(2)
سورة العنكبوت الآية 45
(3)
من حديث رواه الترمذي برقم 217، وأبو داود برقم 492.
سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) أي طاقتها وقدرتها، ويقول عز وجل:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2)
ومن باب الفائدة نوضح لهذا الكاتب وغيره: أن طبيبا فرنسيا قد فتح له مصحا منذ عدة سنوات، في إحدى ضواحي باريس حسبما ذكرت إذاعة لندن التي حاورته، ومهمته في هذا المصح: علاج الروماتيزم في المفاصل بدون عقاقير لدى كبار السن، وكان يعالجهم بالصلاة المفروضة في الإسلام، ويلزمهم بالوضوء لكل صلاة، على طريقة المسلمين، ويقول إن الوضوء للمفاصل بمثابة الزيوت للمعدات والمركبات حيث تلينها وتعينها على العمل، وإن أداء الصلاة في أوقاتها الخمسة، تمرين للمفاصل خمس مرات، وأهمها صلاة الفجر، حيث تتم بعد النوم والراحة، فكان مرضاه يصلون من أجل الشفاء لا العبادة. ويضيف هذا الفرنسي: بأنه لم يقدم على ذلك إلا بعدما أجرى دراسة عميقة استمرت ست سنوات، بين المسلمين في مصر وشمال أفريقيا، وعاش بين المسلمين وحادثهم فأدرك قلة روماتيزم المفاصل عند المحافظين على الصلاة منهم.
(1) سورة البقرة الآية 286
(2)
سورة البقرة الآية 185
17 -
وقال عن الزكاة: وأوجب محمد على كل مسلم أن يتصدق
يوميا على متسول. . وهذا الحكم الذي قاله ليس موجودا في الإسلام، ولم يأمر به محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء في الزكاة أنها نسبة قليلة، بحسب نوعية المال، سواء كان المال حيوانات أم نقودا من فضة أو ذهب، أو ما يقوم مقامها، أو عروض تجارة أو زروعا، ولا زكاة على ما توفرت فيه شروط الزكاة وبلغ نصابا إلا بعد أن يحول عليه الحول، أي بمضي سنة والمال عنده. وتدفع الزكاة لأحد أصحابها الثمانية، الذين حددهم الله سبحانه في القرآن الكريم، وليست للمتسول، إلا إذا كانت تنطبق عليه صفة من الثمانية. . وهم: الفقراء والمساكين، والمؤلفة قلوبهم، والعاملون عليها، والغارمون، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل. .
ولأن الفقراء والمساكين معروفون، فإن المؤلفة قلوبهم هم من دخلوا الإسلام مجددا، أو من يرجى دخوله فيه، فيعطى ما يرغبه في هذا الدين، ليشعر بتكافل المسلمين مع بعضهم ومحبة بعضهم لبعض، فيعطى ما يمكن فيه هذا الدين، حتى يستقر في قلبه، أو ممن يرجى إسلام قومه معه. والعاملون عليها: هم جباتها عوضا عن جهدهم، إذا لم تؤمن لهم الدولة أو الجهة المسئولة عن جمع الزكاة ما يكفيهم.
أما الغارمون: فهم من يحرصون على إصلاح ذات البين، بين الناس، أو تحمل الديون عن المعسرين، أو فك الشحناء بجهدهم ومالهم، فيعطى من قام بذلك من الزكاة ما يعينه على هذا العمل الذي فيه
صلاح وحماية للمجتمع، وتأليف للقلوب وأداء للحقوق حتى لو كان غنيا. والرقاب: تعني عتق من وقع في الرق، ليكون حرا كغيره من البشر، سواء كاتب مالكه لكي يتحرر أو أعتقه ولم يطلب ذلك، ذلك أن الإسلام يمقت الرق، ويدعو لفك الرقاب؛ ولذا كان العتق زيادة على حرص المملوك بالتخلص من الرق، جاءت الكفارات لكثير من الأخطاء التي يقع فيها المسلم: عتق الرقبة. وفي سبيل الله: هم المجاهدون لإعلاء كلمة الله. وفي ابن سبيل الله: هو المسافر الذي انقطعت به النفقة بأي سبب فيعطى من الزكاة ولو كان غنيا ما يوصله إلى بلده.
والزكاة في الإسلام لها هدف كبير، بامتصاص نقمة الفقراء على الأغنياء، وإشعارهم بأن هناك من يهتم بهم، ويتفقد أحوالهم، ويعينهم على تخطي ما يعانون من مشكلات، إذ ثبت بما لا يقطع الشك أن المجتمع الذي تدفع فيه الزكاة تخف فيه الجريمة {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (1){لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2) ذلك أن دراسة أثر الزكاة في الإسلام، تشعر المتابع والمهتم: بأن هذا الدين وسط بين الرأسمالية والشيوعية. وفي هذا توازن للمجتمع، ومتابعة لأحوال المحتاجين، ومكافحة للجريمة، وما من مجتمع إلا يحرص على ذلك؛ ولهذا قال بعض المستشرقين من الإنجليز، بعد أن درس الإسلام
(1) سورة المعارج الآية 24
(2)
سورة المعارج الآية 25
جيدا: لو طبق المسلمون تعاليم دينهم، وأخذوها منهج عمل وسلوك لصلحت المجتمعات، ولأغلقت من بلادهم المحاكم والسجون ودور الشرطة، ولوجدنا أوروبا تنساق إلى الإسلام، لأنهم يجدون فيه، ما يحل مشكلاتهم، ويلبي متطلباتهم.
18 -
أما قوله عن الحج: أما إذا لم يتوفر لديه المال الكافي، فعليه أن يقوم بزيارة أحد الأمكنة المقدسة في بلده، سبع مرات: في مراكش يحجون إلى مولاي إدريس إلخ ما ذكر.
ما ذكره هذا الكاتب ليس له أساس في الإسلام، ولم يقل به أي مسلم، ولم يقل به محمد عليه الصلاة والسلام، منذ بعثه الله إلى أن توفاه إليه، وإنما هذا شيء باطل، أدخل كذبا على الإسلام من أعدائه.
والصحيح أن من لم يستطع الحج، سواء من الفقر أو العجز أو الخوف؛ لأن الطريق غير مأمون، أو في حالات الحرب، أو لأي عذر من الأعذار المانعة، فإنه يسقط، ولا شيء على الإنسان ما دام العذر قائما. . والله يقول:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) والأضرحة والقبور ليست أماكن مقدسة، يستعاض بها عن الحج؛ لأنها مما ينهى عنها الإسلام بشدة لأنها تعلق بغير الله، ونبي الله محمد عليه الصلاة والسلام، شدد في هذا الأمر، فقال: «لعن
(1) سورة آل عمران الآية 97
الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا قبري عيدا، فإني أنهاكم عن ذلك (1)». أما من يتعلق بالقبور والأضرحة في ديار المسلمين فهو مقلد لأهل الكتاب الذين مقت عملهم محمد صلى الله عليه وسلم.
(1) حديث شريف، جاء بعدة روايات في جامع الأصول لابن الأثير، ص472 - 474 الجزء 5.
19 -
قوله: أما وضع المرأة في الإسلام، فإنه أقل تقييما منه عندنا. . وهذا غير صحيح، فإن المرأة لم تحظ في حياتها بحقوق، بمثل ما حظيت به في الإسلام: فلقد كان الرومان يبيعونها مع أثاث البيت، ويرثونها كما يورث ذلك المتاع، كما قال ديورانت في موسوعته، قصة الحضارة، والعرب في الجاهلية يدفنونها حية، ويسمون ذلك وأدا، كما قال الله عنهم:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (1){بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (2)
وقد أنصف ديورانت في كتابه قصة الحضارة: عندما بين المكانة الرفيعة التي أحلها الإسلام للمرأة، وقبل فترة قامت صحيفة أمريكية بمهاجمة الأناجيل لماذا لم تخاطب المرأة في الوقت الذي انصب الخطاب على الرجل وحده، بينما الإسلام في القرآن خاطب الرجل والمرأة على السواء، وأعطى للمرأة حقوقا كثيرة، وبشهادة نساء من الغرب في العصر الحاضر فإن الإسلام أعطى المرأة من التقدير والحقوق ما لم تعطه حضارة العصر، التي جعلت المرأة دمية يتلهى
(1) سورة التكوير الآية 8
(2)
سورة التكوير الآية 9
بها الرجل، ويسخرها لمآربه، حيث أعطاها مكانة تتوق إليها المرأة الغربية.
ولقد شهدت امرأة ألمانية تزوجها أحد الأردنيين، الذين يعملون أطباء في ألمانيا، منذ فترة، حيث حرصت هذه الزوجة أن تذهب مع زوجها إلى بلاده لزيارة والدته التي جاءه خبر مرضها، وبعد أن عاينت اهتمام الأبناء والبنات والأحفاد والأقارب بالأم، سألت زوجها: هل أمك ملكة؟ أو من أسرة ذات زعامة؟ فقال: أبدا إنها امرأة عادية كسائر النساء في المجتمع. . قالت: ولماذا هذه الحفاوة؟ قال: لأن ديننا يأمرنا ببر الأمهات، ويؤكد عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول:«الجنة تحت أقدام الأمهات» ، والقرآن الكريم يأمرنا بذلك، حيث قرن طاعة الوالدين بطاعته فقال سبحانه:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (1){وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (2)
فقالت: هنيئا لكم هذا الدين، فلو كانت عندنا، لكانت في بيت العجزة، ولتخلف عنها أولادها حتى عن الزيارة، ولشعرت بالضجر النفسي أكثر، لأنها تشعر بالحرمان وخاصة في مثل هذا
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2)
سورة الإسراء الآية 24
السن؛ مما دفع هذه المرأة بعد عودتها لألمانيا أن تحرص على الكتب الإسلامية، وزيارة المركز الإسلامي، حيث هداها الله للإسلام عن قناعة وحب في دين هذه تعاليمه.
فالإسلام صان المرأة، وحفظ كرامتها وأعلى قدرها: بنتا بالرعاية والاهتمام والتوجيه، وزوجة بالتقدير والحقوق، والمعاشرة الحسنة، والإنفاق والمودة والرحمة، وأما بالبر والإحسان، ورعاية المكانة وصلة أقربائها، وصديقاتها من أجلها. كما أن المرأة لها أن تتملك المال، وترث ما قدر لها حسب مكانة القرابة، ولها نصيبها من المال كاملا، لا ينقصها منه أحد وتتصرف فيه.
20 -
قوله: والقرآن هو كتاب الإسلام المقدس، وهو في أهميته مثل كتابنا المقدس ويعتبر محتواه وحيا من الله صاغه محمد. . إلا أنه لم يكتبه؛ لأنه شخصيا ربما لم يكن يعرف القراءة والكتابة، وقد رتبت سوره الأربع عشرة والمائة، دونما أي ترابط وراء بعضها البعض ووضعت هذه السور أمام المسلمين كعمل تم إنجازه بعد وفاة محمد.
هذه العبارة تحتاج إلى تغيير في الصياغة والمعنى، فمحمد صلى الله عليه وسلم لم يصغه، وإنما هو كلام الله بلغه عن ربه بأمانة. وقد يكون من المناسب أن تكون هكذا: والقرآن الكريم، هو كتاب الإسلام المقدس، وهو ذو أهمية كبيرة في عقيدة المسلمين وعباداتهم، ويعتبر محتواه وحيا من الله، بلغه محمد إلا أنه لم يكتبه، لأنه أمي، لم
يكن يعرف القراءة والكتابة، فكان يمليه على كتاب الوحي، أما ترتيب سوره الأربع عشرة والمائة، فقد تم باجتهاد من أصحابه بعد وفاته، حيث وضعت مرتبة حسب كبرها. . ويعرف هذا الترتيب، والخط الذي رسم به، باسم الرسم العثماني. هذا من جانب الصياغة.
وعن جمع القرآن وترتيبه: فإن أبا بكر رضي الله عنه، خليفة رسول الله قد حرص بالتشاور مع كبار الصحابة على حفظ القرآن وجمعه بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يدب الخلاف بين قراء وحفظة القرآن من المسلمين، والخليفة الراشد الثالث، عثمان بن عفان رضي الله عنه، قد جمع القرآن في عهده، وأرسل منه نسخا للأمصار، للتقيد بها، ووحد المسلمين على رسم واحد.
وهذا جزء من حرصهم على المحافظة على هذا الكتاب، الذي تعهد الله بحفظه، وصيانته عن التبديل والأهواء، كما حصل مع أهل الكتاب الذين عدلوا وبدلوا فيما بين أيديهم وقالوا على الله الكذب، يقول سبحانه عنهم:{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1)
فكان من حرص الخلفاء الراشدين، الذين قال عنهم محمد صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من
(1) سورة آل عمران الآية 78
بعدي، عضوا عليها بالنواجذ (1)»، الاهتمام بالقرآن وجمعه بعد أن قتل أو مات كثير من القراء؛ لأنه المصدر الأول لشرع الله، في العبادة والمعاملات والعقيدة، ولذا لن تختلف الأحكام في حياة المسلمين، منذ عهد الرسول الكريم: محمد عليه الصلاة والسلام، حتى اليوم ما داموا متمسكين بهذا الكتاب العزيز، الذي قال عنه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2)
وأختتم حديثي، مع هذا الكاتب وغيره بطلب الهداية للطريق المستقيم، والحرص على أخذ المعارف عن الإسلام والقرآن، من مصادرها الموثوقة، وأن يقرأ من كتاب الغرب المنصفين، الذين درسوا وكتبوا عن الإسلام، بتجرد من التقليد والتعصب، رغبة في العلم وإزالة الشبهة، ومعرفة بعض أسرار التشريع في الإسلام، مثل الكاتب الألماني كيتاني في كتابه: سنن الإسلام وهذا اسمه:
GAETNI CANNALI DELL ISLAM 11. P 429 T. W AMOLD PREACHING OF ISLAM LONDON.
حيث يقول: ولقد كان هؤلاء الصحابة الكرام، ممثلين صادقين لتراث محمد رسول الله الخلقي، ودعاة الإسلام في المستقبل، وحملة تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم، التي بلغها إلى أهل التقوى والورع، لقد رفع بهم اتصالهم المستمر برسول الله، وحبهم الخالص
(1) جزء من خطبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته لأمته من بعده.
(2)
سورة الحجر الآية 9
له، إلى عالم من الفكر والعواطف، لم يشهد محيط أسمى منه وأرقى مدنية واجتماعا.
والواقع أن هؤلاء الصحابة، قد حدثت فيهم تحولات، ذات قيمة كبيرة، من كل زاوية، وأثبتوا فيما بعد في أصعب مناسبات الحروب، أن مبادئ محمد، إنما بذرت في أخصب أرض، فأنبتت نباتا حسنا. وذلك عن طريق رجال ذوي كفاءات عالية جدا، كانوا حفظة الصحيفة المقدسة وأمناءها، وكانوا محافظين على كل ما تلقوه من رسول الله من كلام وأوامر، لقد كان هؤلاء قادة الإسلام، السابقين الكرام، الذين أنجبوا فقهاء المجتمع الإسلامي، وعلماءه ومحدثيه الأولين. ا. هـ.
ومثل هذا القول قد جاء في كثير من الدراسات الإسلامية الخالية من الأهواء أو الجهل، أو التقليد، مما ينبغي مراعاة مثله، حتى لا يكتب كاتب عن تقليد - إذا أحسنا الظن - فيقع في مزالق تثير حفيظة المسلمين على دينهم، ويصل الأمر إلى المحذور الذي نهى الله عنه بقوله عز وجل:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1)
ونسأل الله للجميع الهداية ومعرفة الحق والذي أمر به الله سبحانه، وأن يعلي كلمته، وينصر دينه فهو الهادي إلى سواء السبيل.
(1) سورة الأنعام الآية 108