الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإبراهيم فهذا بمنزلة ما يبتدئه الله من الأمور، فهذا يكون أكمل من غيره من جهة تأييد الله له بالعلم والهدى وبالنصر والقهر، فلذلك يضيف الله الأمر إلى نوح وإبراهيم عليهما السلام كما في قوله:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} (1) الآية. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (2) وذلك أن نوحا وإبراهيم أرسلا إلى كفار لا نبوة لهم (3).
(1) سورة الحديد الآية 26
(2)
سورة آل عمران الآية 33
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية ج 15 ص 30، ج 4 ص 86، النبوات، ابن تيمية ص 14 - 19.
المبحث الرابع: عموم دعوته صلى الله عليه وسلم
جاءت الإشارة إلى عموم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (1) وأم القرى هي مكة ومن حولها أي أهل المشرق والمغرب بل وأهل الأرض كلها.
وذكرت مكة (باسمها المنبئ عن كونها أعظم القرى شأنا
(1) سورة الأنعام الآية 92
وقبلة لأهلها قاطبة إيذانا بأن إنذار أهلها أصل مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة) (1). وروى الطبري بسنده إلى ابن عباس قوله: يعني بأم القرى مكة ومن حولها الأرض كلها (2).
ومما جاء في السنة ويؤكد على ما سبق قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (3)» .
قال النووي: أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة، فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته، وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيها على من سواهما؛ وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا، فغيرهم ممن لا كتاب له أولى (4).
(1) تفسير أبي السعود 3/ 162.
(2)
تفسير الطبري 11/ 531.
(3)
صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، شرح النووي 2/ 186.
(4)
شرح مسلم للنووي، 2/ 188.
وعموم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مما اختص به صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الحديث: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي (1)» وذكر منها «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (2)» .
وذكر ابن حجر عند شرحه للحديث أنه لا يعارض هذا بأن نوحا عليه السلام كان مبعوثا إلى أهل الأرض بعد الطوفان؛ لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه وقد كان مرسلا إليهم، وأجاب بعدة أجوبة منها:
أن العموم لم يكن في أصل بعثته وإنما اتفق بالحادث الذي وقع وهو انحصار الخلق في الموجودين معه المؤمنين به بعد هلاك سائر الناس، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل البعثة فثبت اختصاصه بذلك.
أو أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح فبعثته خاصة؛ لكونها إلى قومه فقط وهي عامة في الصورة لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثا إليهم (3).
قال: (ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره بصدد أن
(1) صحيح البخاري التيمم (335)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521)، سنن النسائي الغسل والتيمم (432)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 304)، سنن الدارمي الصلاة (1389).
(2)
صحيح البخاري، كتاب التيمم (ج 335)، الفتح 1/ 436.
(3)
ينظر فتح الباري، ابن حجر، 1/ 436.
يبعث نبي في زمانه أو بعده فينسخ بعض شريعته) (1).
فعموم دعوته دليل على ختم النبوة به وإن كان ختم النبوة به قد جاء في أدلة أخرى منها قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (2)
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (3)» .
ومن العلامات التي كان أهل الكتاب يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بها، خاتم النبوة وهو بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم (4)، وكان أهل الكتاب يسألون عنه ويطلبون الوقوف عليه.
قال العلماء في حكمة وجوده بين كتفيه أو على نصف كتفه الأيسر: هو على جهة الاعتبار أنه صلى الله عليه وسلم لما ملئ قلبه من الإيمان والأنوار وجمع له أجزاء النبوة وحواشيها، ختم عليه كما
(1) ينظر فتح الباري، ابن حجر، 1/ 436.
(2)
سورة الأحزاب الآية 40
(3)
صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب 18 ح 3535، صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين شرح النووي 15/ 51.
(4)
ينظر في صفته: بشرح مسلم، النووي، 15/ 97، عارضة الأحوذي 13/ 106، فتح الباري 6/ 561.
يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا، فلم تجد نفسه ولا عدوه سبيلا إليه من أجل ذلك الختم؛ لأن الشيء المختوم محروس، كما بين لنا أنا إذا وجدنا الشيء بختمه زال الشك وانقطع الخصم فيما بين الآدميين، فلذلك ختم رب العالمين في قلبه ختما يطمئن له القلب (1).
ومعنى ختم النبوة بنبوته صلى الله عليه وسلم أنه لا تبدأ نبوة ولا تشرع شريعة بعد نبوته وشريعته، وأما نزول عيسى عليه السلام وكونه متصفا بنبوته السابقة فلا ينافي ذلك أن عيسى عليه السلام إذا نزل إنما يتعبد بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم دون شريعته المتقدمة؛ لأنها منسوخة (2).
وقد سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسماء دلت على عموم رسالته وختم النبوة به، فمن تلك الأسماء ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم:«لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب (3)» .
فأول الأسماء الدالة على ذلك: الماحي، وفسر بالحديث بأنه
(1) لوامع الأنوار، السفاريني 2/ 269.
(2)
لوامع الأنوار، السفاريني 2/ 277، وينظر أصول الدين، البغدادي، ص 159.
(3)
صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب 17، ح 3532، الفتح 6/ 554، صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب أسمائه صلى الله عليه وسلم، شرح النووي 15/ 104.
الذي محا الله به الكفر (ولم يمح الكفر بأحد من الخلق كما محي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه بعث وأهل الأرض كلهم كفار إلا بقايا من أهل الكتاب، وهم ما بين: عباد أوثان، ويهود ومغضوب عليهم، ونصارى ضالين، وصائبة دهرية لا يعرفون ربا ولا معادا، وبين عباد الكواكب، وعباد النار، وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء ولا يقرون بها، فمحا الله سبحانه برسوله صلى الله عليه وسلم ذلك حتى ظهر دين الله على كل دين (1).
وذكر القاضي عياض وغيره أنه يراد بالمحو: إما محو الكفر من مكة وبلاد العرب وما زوي له من الأرض، ووعد أنه يبلغه ملك أمته، أو يكون المحو عاما بمعنى الظهور والغلبة كما قال الله تعالى:{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (2) أو كما ورد تفسيره في الحديث (أنه الذي محيت به سيئات من اتبعه) وإذا محي الكفر به فلا يحتاج بعده إلى رسول.
كذلك من أسمائه الدالة على ختمه صلى الله عليه وسلم للنبوة: الحاشر الذي يحشر الناس على عقبه وقدمه قال العلماء: معناه
(1) زاد المعاد، ابن القيم 1/ 86، وينظر دلائل النبوة، البيهقي 1/ 151.
(2)
سورة التوبة الآية 33
يحشرون على أثري وزمان نبوتي ورسالتي وليس بعدي نبي (1).
ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم: العاقب الذي ليس بعده نبي، كما جاء تفسيره في الحديث السابق فالعاقب:(هو الآخر فهو. بمنزلة الخاتم، ولهذا سمي العاقب على الإطلاق، أي عقب الأنبياء جاء بعقبهم)(2).
وقال البيهقي: العاقب يعني الخاتم (3).
والمخالفون في هذا الباب هم: أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مع معرفتهم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن ما جاء به هو الحق ولكنهم خسروا أنفسهم وأهلكوها وألقوها في نار جهنم بإنكارهم محمدا صلى الله عليه وسلم أنه لله رسول وهم بحقيقة ذلك عارفون فوقعوا بما وقعوا فيه بسبب بعدهم عن الحق وعدم العمل بالمعرفة التي ثبتت لهم.
وهم بفعلهم هذا كانوا أظلم الخلق؛ لذلك قال الله تعالى:
(1) الشفا القاضي عياض، 1/ 447، شرح مسلم النووي، 15/ 105.
(2)
زاد المعاد، ابن القيم 1/ 86.
(3)
دلائل النبوة، البيهقي 1/ 154.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} (1) كما فعل أهل الكتاب {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (2) أي لا يفلح القائلون على الله الباطل، والمفترون عليه الكذب، والجاحدون بنبوة أنبيائه (3).
وأهل الكتاب في إنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم على أقسام، فمنهم من ينكر نبوته أصلا ومنهم من يثبتها ويزعم أنه رسول إلى العرب خاصة، وأما هم فلهم شريعتهم الخاصة بهم.
وقد ذكر ابن تيمية أنه بنفي رسالته صلى الله عليه وسلم وإنكارها يلزم نفي جميع الرسالات السابقة، فيمتنع الإقرار بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام، مع التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ذلك أن (الدلائل الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وأكثر من الدلائل الدالة على صدق موسى وعيسى عليهما السلام، ومعجزاته أعظم وأكثر من معجزات غيره، والكتاب الذي أرسل به أشرف من الكتاب الذي بعث به غيره، والشريعة التي جاءت به أكمل من شريعة موسى وعيسى عليهما السلام، وأمته أكمل في جميع الفضائل)(4).
فالطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى عليهم السلام
(1) سورة الأنعام الآية 21
(2)
سورة الأنعام الآية 21
(3)
تفسير الطبري 11/ 294، فتح القدير، 2/ 105، نظم الدرر، البقاعي، 2/ 618.
(4)
الجواب الصحيح، ابن تيمية 1/ 168، وينظر أصول الدين، البغدادي، 160.