الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يضع العلم والحكمة إلا في المحل اللائق بهما وهو أعلم بذلك المحل وبما ينبغي له.
ومن الأجر الذي أوتيه إبراهيم عليه السلام أن كان الأنبياء من بعده من ذريته وهو موضوع المبحث القادم.
المبحث الثاني: أسماء الرسل الذين وردوا في الآيات وأولي العزم منهم
من قواعد الإيمان بالرسل وجوب الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من رسله، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلا وأنبياء لا يعلم عددهم إلا الله تعالى الذي أرسلهم؛ فيؤمن بهم جملة؛ لأنه لم يأت في عددهم نص، قال الله تعالى:{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (1) وقال تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (2).
ومن الأحاديث التي ذكرت عددهم؛ حديث أبي ذر الطويل
(1) سورة النساء الآية 164
(2)
سورة غافر الآية 78
المتنازع في صحته والذي يحدد عدد الأنبياء بمائة ألف وأربعمائة وعشرين ألفا وعدد الرسل بثلاثمائة وثلاثة عشر أو خمسة عشر.
وأصح منه ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي أمامة أن رجلا قال: «يا رسول الله كم كانت الرسل؟ قال: ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا (1)» . وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي (2).
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/ 266).
(2)
المستدرك، الحاكم، وبذيله التلخيص للذهبي 2/ 262.
فلم يذكر في هذا الحديث عدد الأنبياء بل اقتصر على ذكر عدد الرسل.
وجزم بعض المؤلفين في الفرق بهذا العدد؛ منهم البغدادي الذي ذكر إجماع (أصحاب التواريخ من المسلمين على أن أعداد الأنبياء عليهم السلام مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، أولهم أبونا آدم عليه السلام، وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على أن الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر)(1). كذلك ابن القيم جزم بهذا العدد (2).
وفي المقابل هناك من يرى أنه لم يأت حديث صحيح في تعيين عددهم، منهم ابن كثير الذي ساق عند تفسيره لآية النساء أحاديث يذكر فيها أن عدد الأنبياء: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، وأحاديث أخرى تذكر أن عددهم ثمانية آلاف، وغيرها يذكر أن عددهم ألف نبيا؛ ثم بين أن الأحاديث الواردة لا تخلو من ضعف على كثرتها (3).
(1) أصول الدين، البغدادي 157.
(2)
زاد المعاد، ابن القيم 1/ 43.
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 601، 599.
وكذلك ابن تيمية الذي أشار إلى حديث أبي ذر بصيغة التضعيف فقال: (وقد روي في حديث أبي ذر أن عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر) وكأنه لم يصح عنده إذ لم يستدل به، بل استدل بما ورد في القرآن الكريم من الآيات الدالة على أن كل أمة قد بعث فيها رسول، مثل قوله تعالى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (1) ثم ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل (2)» وقال: وهذه السبعون سواء كانت هي التي هداها الله أو هي الجميع فإنه يدل على أكثرية الرسل (3).
وأشار في موضع آخر إلى كثرة أنبياء بني إسرائيل وأنهم أكثر الأمم أنبياء بعث إليهم موسى وبعث إليهم بعده أنبياء كثيرون حتى قيل إنهم ألف نبي (4).
كذلك الإمام أحمد بن حنبل مع أنه روى حديث
(1) سورة فاطر الآية 24
(2)
مسند أحمد 5/ 3 عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
(3)
الجواب الصحيح، ابن تيمية 2/ 169.
(4)
الجواب الصحيح، ابن تيمية 1/ 210.
أبي ذر، فإنه لم يصح عنده، ذلك أنه صرح بأنه لا يعرف عدد الأنبياء والرسل والكتب (1).
(1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية 7/ 409.
لذا كان من الأسلم - كما سبق ذكره - الإمساك عن تعيين عدد الأنبياء والإيمان بمن سمى الله منهم والإيمان بالبقية إجمالا (1).
وقد سمى الله تعالى في كتابه خمسة وعشرين نبيا ذكر منهم في سورة الأنعام على نسق واحد ثمانية عشر نبيا وهم الوارد ذكرهم في هذه الآيات {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (2){وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (3){وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (4){وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} (5)
فأول الأنبياء الوارد ذكرهم في هذه السورة هو: نبي الله إبراهيم الذي هو أكرم الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم على الله تعالى وهو خير البرية وأعزها، ومما أكرمه الله تعالى به أن جعل
(1) ينظر فتاوى اللجنة الدائمة 3/ 195، رقم الفتوى 5611.
(2)
سورة الأنعام الآية 83
(3)
سورة الأنعام الآية 84
(4)
سورة الأنعام الآية 85
(5)
سورة الأنعام الآية 86
أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وذريته، وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة وأعظم السرور علم المرء بأن يكون من عقبه الأنبياء والملوك وهذا من أجره الذي آتاه الله في الدنيا جزاء على طاعته لله وإخلاصه له ومفارقته دين قومه المشركين بالله (1).
وإبراهيم اسم أعجمي وجاء في التوراة أن اسمه كان إبرام، ثم لما سار ابن تسع وتسعين سنة قال له الله: فلا يدعى اسمك بعد إبرام بل يكون اسمك إبراهيم لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم.
وثاني الأنبياء الوارد ذكرهم: إسحاق وأمه سارة زوجة إبراهيم، وهو أبو يعقوب، فذكر والد إبراهيم وولد ولده، وابتدأ سبحانه بهما؛ لأن السياق للامتنان على الخليل عليه السلام، وهو أشد سرورا بابنه الذي متع به ولم يؤمر بفراقه وابن ابنه الذي أكثر الأنبياء الداعين إلى الله من نسله (2).
وكذلك البشارة بإسحاق ويعقوب معا، قال تعالى
(1) ينظر: تفسير الطبري 11/ 507، التفسير الكبير، الرازي 13/ 63، النبوات، ابن تيمية، ص 25.
(2)
نظم الدرر، البقيع، 2/ 664.
{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} (1)؛ ذلك أن سارة كانت امرأة عاقرا، فوهبت لإبراهيم جاريتها هاجر، فدخل عليها، وولدت له إسماعيل، ثم بشرت سارة بإسحاق بعد ذلك، فولدته وعمرها تسعون سنة وعمر إبراهيم مائة سنة كما ورد في التوراة (2).
وأما في القرآن فلم يرد تحديد العمر بل ورد قولها: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} (3)
وكانت البشارة قد وقعت بإسحاق وبابنه لأن ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه ولأن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب (4).
ويدعي أهل الكتاب أن إسحاق هو الذبيح وسيأتي مناقشة هذا عند ذكر إسماعيل عليه السلام.
وأما يعقوب فهو إسرائيل عليه السلام وسمي يعقوب؛ لأنه لما ولد كان ممسكا بعقب أخيه التوأم العيص كما ورد في التوراة، وأما ابن كثير فيقول: يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية (5).
وغير اسمه إلى إسرائيل بعد أن نبأه الله، وبنى هو مذبحا لله
(1) سورة هود الآية 71
(2)
سفر التكوين الإصحاح 17: 17.
(3)
سورة هود الآية 72
(4)
تفسير ابن كثير 2/ 159.
(5)
تفسير ابن كثير 2/ 159.
أسماه مذبح إيل، وإيل عندهم اسم لله، في التوراة أن الله قال له: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل يكون اسمك إسرائيل (1).
وقد ولد يعقوب في حياة إبراهيم وسارة؛ لأن البشارة وقعت بهما كما سبق، ولقوله تعالى في هذه الآية:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (2) فلو لم يوجد في حياتهما لما كان في تخصيصه من بين ذرية إسحاق فائدة، ولقوله تعالى:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} (3) أي أنه كان حاضرا موت إبراهيم، كذلك كان هو باني المسجد الأقصى وبين بنائه وبناء المسجد الحرام أربعون سنة كما روى البخاري سنده إلى أبي ذر رضي الله عنه أنه قال:«قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة (4)» .
(1) سفر التكوين الإصحاح 35: 9.
(2)
سورة الأنعام الآية 84
(3)
سورة البقرة الآية 132
(4)
صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب 10، ح 3366، الفتح 6/ 407.
ومعنى إسرائيل هو عبد الله كما قال ابن عباس: إسرائيل هو كقولك عبد الله (1).
(1) تفسير ابن كثير 11، وفي العبرية معناه: يجاهد مع الله، ينظر قاموس الكتاب المقدس ص 66.
ثم ذكر الله تعالى نوحا عليه السلام فهو رابع الأنبياء المذكورين في هذه السورة؛ فقال الله تعالى: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} (1) أي من قبل إبراهيم، وعد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد، فجعل إبراهيم في أشرف الأنساب؛ لأنه رزقه أولادا مثل إسحاق ويعقوب وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين مثل نوح وشيت عليهما السلام فالمقصود بيان كرامة إبراهيم عليه السلام بحسب الأولاد وبحسب الآباء (2).
ولكل من نوح وإبراهيم عليهما السلام خصوصية عظيمة؛ فأما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن
(1) سورة الأنعام الآية 84
(2)
ينظر التفسير الكبير، الرازي 13/ 63، تفسير البيضاوي 4/ 90، تفسير أبي السعود 3/ 157.
به وهم الذين صحبوه في السفينة جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذريته، وأما الخليل إبراهيم عليه السلام فلم يبعث الله عز وجل بعده نبيا إلا من ذريته كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} (1).
ونوح اسم أعجمي، وقيل إنه مشتق من النوح وسمي به لطول ما ناح على نفسه (2). وهو ابن لمك بن متوشلح بن خنوح وهو إدريس (3) على قول بعضهم - وسيأتي تحقيق هذا - وهو أول الرسل كما جاء في الحديث «إن الناس يوم القيامة يأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وسماك الله عبدا شكورا (4)».
وأورد ابن حجر عند شرحه للحديث أن كونه أول الرسل قد استشكل بأن آدم كان نبيا، وبالضرورة كان على شريعة من
(1) سورة الحديد الآية 26
(2)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2787.
(3)
ينظر: أعلام النبوة، الماوردي، 62، فتح الباري، ابن حجر 6/ 382.
(4)
صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب 3 ح 3340، الفتح 6/ 371.
العبادة، وأن أولاده أخذوا ذلك عنه فعلى هذا فهو رسول إليهم فهو أول رسول، وأجاب بأنه يحتمل أن تكون الأولوية في قول أهل الموقف لنوح مقيدة بقولهم إلى أهل الأرض، لأنه في زمن آدم لم يكن للأرض أهل، أو لأن رسالة آدم إلى بنيه كانت كالتربية للأولاد (1).
وذكر ابن تيمية أن القول الراجح في التفريق بين النبي والرسول: أن الرسول هو الذي يبعث إلى قوم كافرين به، وأما آدم عليه السلام فقد بعث إلى أبنائه وهم مؤمنون به فهو أول الأنبياء كما أن نوحا هو أول الرسل (2).
وقال ابن حجر: واستشكله بعضهم بإدريس، أي استشكل كون نوح أول الرسل، ثم أجاب بأنه لا يرد ثم أجاب بأنه لا يرد لأنه اختلف في كونه جد نوح (3).
فيرى فريق من العلماء أن أخنوخ أو خنوخ - على اختلاف في ضبطه - جد نوح هو إدريس عليه السلام منهم البخاري حيث قال في صحيحه: (باب ذكر إدريس عليه السلام وهو جد أبي نوح ويقال جد نوح عليهما السلام (4).
(1) فتح الباري، ابن حجر، 6/ 372.
(2)
ينظر: النبوات، ابن تيمية، 172، 173.
(3)
فتح الباري، ابن حجر، 6/ 372.
(4)
صحيح كتاب الأنبياء باب 5، الفتح 6/ 274.
وكذلك ابن كثير قال: فإدريس عليه السلام قد أثنى الله عليه ووصفه بالنبوة والصديقية وهو خنوخ، وهو في عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكره غير واحد من علماء النسب (1).
وجزم الماوردي بهذا فقال: أخنوج بن يارد وهو إدريس، وولد بعد مائة واثنتين وستين سنة من عمر يارد، وهو نبي على قول جميع أهل الملل (2).
كذلك ابن تيمية قال: وقد كان قبله - أي نوح - أنبياء كشيث وإدريس (3).
وأما تسميته بإدريس فقال بعضهم: لكثرة ما كان يدرس من كتب الله تعالى، فاشتقاقه من الدراسة، وهذا إذا قيل إنه عربي، وقد قيل إنه سرياني.
قال ابن حجر: ولا يمنع ذلك كون لفظ إدريس عربيا إذا
(1) البداية والنهاية، ابن كثير، 1/ 92.
(2)
أعلام النبوة، الماوردي، ص 62.
(3)
النبوات، ابن تيمية، ص 173.
ثبت بأن له اسمين (1).
ونسبت إلى إدريس أوليات منها: أنه أول من خط بالقلم، وأول من لبس الثياب - وكانوا يلبسون الجلد - وأول من اتخذ السلاح، وأول من وضع الأوزان والكيل (2).
وقد جاء ذكره في القرآن في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} (3){وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (4)
فقد اختلف في المكان العلي على أقوال منها: أنه الجنة، وقال بعضهم إنه رفع ولم يمت كما رفع عيسى، قال ابن حجر: وكون إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية (5).
وذكر آخرون أنه سأل خليلا له من الملائكة أن يسأل ملك الموت عن عمره فحمله إلى السماء الرابعة فتلقاه ملك الموت منحدرا، فكلمه الملك وسأله فقال له ملك الموت: وأين إدريس؟ فقال: هو ذا على ظهري، فقال ملك الموت: العجب بعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟ فنظر الملك إلى تحت
(1) فتح الباري، ابن حجر 6/ 373، وينظر أعلام النبوة، الماوردي ص 62، تفسير القرطبي 7/ 58.
(2)
أعلام النبوة الماوردي ص 62، البداية والنهاية، ابن كثير 1/ 92، فتح الباري، ابن حجر 6/ 375.
(3)
سورة مريم الآية 56
(4)
سورة مريم الآية 57
(5)
فتح الباري: ابن حجر 6/ 375.
جناحه فإذا إدريس قد قبض وهو لا يشعر.
قال ابن كثير بعد أن أورد الخبر: هذا من الإسرائيليات وفيه نكارة والله أعلم (1).
وفي المقابل يرى فريق آخر أن إدريس - المذكور في القرآن - ليس من أجداد نوح عليه السلام بل من أبنائه ويستدلون لذلك بحديث الإسراء والمعراج، وأنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم:«مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح (2)» ولم يقل له: (مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح)(3) كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام.
قالوا: فلو كان في عمود نسبه صلى الله عليه وسلم لقال له كما قالا عليهم الصلاة والسلام، وأجاب الأولون بأن هذا لا يدل ولا بد لأنه قد يكون الراوي لم يحفظه جيدا، أو لعله قاله له على سبيل الهضم والتواضع ولم ينتصب له في مقام الأبوة كما انتصب آدم الذي هو أبو البشر وإبراهيم الذي هو خليل الرحمن، فليس ذلك نصا فيما ذهبوا إليه (4).
وذكر بعض هؤلاء أن إدريس هو إلياس وبالتالي هو من ذرية نوح (5).
(1) تفسير ابن كثير ج 3 ص 133، ينظر البداية والنهاية، ابن كثير 1/ 93.
(2)
صحيح البخاري الصلاة (349)، صحيح مسلم الإيمان (163)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 144).
(3)
صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب 5 ح 3342، الفتح 6/ 374.
(4)
ينظر: البداية والنهاية، ابن كثير 1/ 93، فتح الباري، ابن حجر 6/ 373.
(5)
ينظر: صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب 4، الفتح 6/ 373.
ثم قد اختلف في الضمير في قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} (1) فقيل المراد من ذرية نوح؛ لأنه أقرب مذكور ولأن لوطا ليس من ذرية إبراهيم عليه السلام.
وقيل: بل الضمير يعود على إبراهيم عليه السلام؛ لأنه هو المقصود بالذكر في هذه الآيات، وإنما ذكر الله تعالى نوحا عليه السلام لأن كون إبراهيم عليه السلام؛ من أولاده إحدى موجبات رفعة إبراهيم عليه السلام.
وأما ذكر لوط عليه السلام؛ فلأنه ابن أخي إبراهيم عليه السلام، والعرب تجعل العم أبا للتغليب، أو لأنه من أتباعه عليه السلام وممن آمن على يديه.
(1) سورة الأنعام الآية 84
ما الخامس من الأنبياء المذكورين فهو داود (1) بن أيشار، من نسل يهوذا بن يعقوب، وهو الذي قتل جالوت، ثم صار الملك إليه فجمع الله له بين الملك والنبوة، وكان الملك يكون في سبط والنبوة في سبط آخر، واجتمع في داود هذا وهذا كما قال تعالى:
(1) داود: اسم عبري معناه: محبوب، قاموس الكتاب المقدس ص 391.
{وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} (1)
وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (2){أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3) فذكر الله تعالى أنه أعانه على عمل الدروع من الحديد ليحصن المقاتلة من الأعداء وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها.
وداود عليه الصلاة والسلام هو أب النبي السادس المذكور في هذه السورة، وهو سليمان عليه الصلاة والسلام، وقد ورثه في النبوة والملك، قال الله تعالى:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (4)
وسليمان (5) هو الذي جدد بناء بيت المقدس وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف سنة وقد أعطاه الله ملكا عظيما كما جاء في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (6){فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} (7){وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} (8){وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} (9){هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (10)
(1) سورة البقرة الآية 251
(2)
سورة سبأ الآية 10
(3)
سورة سبأ الآية 11
(4)
سورة النمل الآية 16
(5)
سليمان اسم عبري معناه رجل سلام، قاموس الكتاب المقدس 481.
(6)
سورة ص الآية 35
(7)
سورة ص الآية 36
(8)
سورة ص الآية 37
(9)
سورة ص الآية 38
(10)
سورة ص الآية 39
وجاء في صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: «إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظرون إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: فرددته خاسئا (2)» .
ومكث الجن في خدمته بعد موته مدة من الزمن، قال الله تعالى:{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (3)
وجاء في تحديد هذه المدة أنها حول كامل وذلك في الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب (4).
(1) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 40 ح 3423، الفتح 6/ 457.
(2)
سورة ص الآية 35 (1){قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}
(3)
سورة سبأ الآية 14
(4)
ينظر فيما سبق البداية والنهاية، ابن كثير 2/ 9، 29.
وسابع الأنبياء المذكورين في هذه السورة هو: أيوب عليه الصلاة والسلام وهو من ذرية العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام.
وقال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل ولم يصح في نسبه شيء.
وجاء ذكر ابتلائه في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (1){ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} (2){وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (3){وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (4)
وقوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (5){فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (6)
قال علماء التفسير والتاريخ: إن أيوب كان رجلا كثير المال والولد، فسلب منه ذلك جميعه وابتلي في جسده وهو صابر محتسب، وطال مرضه ولم يعد يحنو عليه أحد إلا زوجته وهي صابرة معه، وامتد ذلك به مدة من الزمن اختلف فيها فقيل: ثلاث عشرة سنة وقيل: ثلاث سنين وقيل: سبع سنين، ورجح ابن حجر أنها ثلاث عشرة سنة (7)، حتى دعا الله ففرج عنه وأبدله الله صحة ظاهرة وباطنة، وأخلف له أهله وآتاه مالا كثيرا حتى صب له من المال صبا مطرا
(1) سورة ص الآية 41
(2)
سورة ص الآية 42
(3)
سورة ص الآية 43
(4)
سورة ص الآية 44
(5)
سورة الأنبياء الآية 83
(6)
سورة الأنبياء الآية 84
(7)
فتح الباري، ابن حجر 6/ 422.
عظيما (1).
روى البخاري بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه رجل جراد من ذهب فجعل يحثي في ثوبه فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك (2)» .
(1) ينظر: البداية والنهاية، ابن كثير، 1/ 206 - 209.
(2)
صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 20 ح 3391، الفتح 6/ 420.
وثامن الأنبياء المذكورين هو يوسف (1) بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام أكرم الناس كما جاء في الحديث (2). وقصته مذكورة في القرآن في سورة يوسف.
أما تاسع الأنبياء وعاشرهم في هذه الآيات فهما: موسى (3) وهارون ابنا عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب، وقصتهما مع فرعون (أعظم قصص الأنبياء التي تذكر في القرآن ثناها الله أكثر من غيرها)(4).
وقال الإمام أحمد بن حنبل: أحسن أحاديث الأنبياء حديث تكليم
(1) يوسف اسم عبري معناه يزيد قاموس الكتاب المقدس ص 115.
(2)
صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 19، ح 3383، 3390.
(3)
اسم مصري معناه ولد ومعناه بالعبري منتشل، قاموس الكتاب المقدس ص 930.
(4)
مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 17/ 21.
الله لموسى (1).
ثم ذكر الله تعالى زكريا (2) وابنه يحيى وفي زكريا أربع لغات المد والقصر وحذف الألف مع تخفيف الياء وفي تشديدها وحذفها، وزكريا هو ابن أدن، ويقال ابن شبوى، ويقال ابن بارخيا، وهو من نسل سليمان بن داود عليهما السلام، وابنه يحيى لم يسم أحد قبله به، رزق به على الكبر كما جاء في سورة آل عمران وسورة مريم.
واختلفت الرواية في موته: هل مات موتا أو قتل قتلا؟
وأما يحيى فقد قتل واختلف في سبب قتله (3).
يحيى بن زكريا هو ابن خالة عيسى ابن مريم، وقد ذكر الله تعالى قصة مريم وحملها بولدها عيسى في سورة مريم، وأبوه عمران كان صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه، وأما زكريا نبي ذلك الزمان فكان زوج أختها، وقيل زوج خالتها.
وفي ذكر عيسى عليه السلام في سياق الآيات دليل بين على أن
(1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 32.
(2)
زكريا اسم عبري معناه يهوه قد زكر أي ذكر، قاموس الكتاب المقدس 427.
(3)
ينظر فتح الباري 6/ 468، البداية والنهاية 2/ 43 - 51.
الذرية تتناول أولاد البنات (1) ومريم بالسريانية الخادم (2).
ثم ذكر الله تعالى إلياس، وروي أنه إدريس، وقيل بل هو من أسباط هارون أخي موسى، وقيل من سبط يوشع بن نون، وقيل من ولد إسماعيل.
ورجح الطبري في تفسيره أن إلياس من ذرية هارون، وأن إدريس جد نوح، لأن الله تعالى نسب إلياس في الآيات إلى نوح وجعله من ذريته، ونوح - كما يقول - هو ابن إدريس عند أهل العلم، فمحال أن يكون جد أبيه منسوبا إلى أنه من ذريته (3).
كذلك ابن تيمية يقول: وإلياس المعروف بعد موسى من بني إسرائيل (4) وإلياس هو المذكور في سورة الصافات في قوله تعالى {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (5){إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ} (6){أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} (7){اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} (8){فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (9){إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} (10){وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} (11){سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} (12)
(1) ينظر البداية والنهاية 1/ 42 - 51، فتح الباري، ابن حجر 6/ 469.
(2)
تفسير أبي السعود 3/ 157، تفسير الجلالين 113.
(3)
تفسير الطبري 11/ 508 وينظر البداية والنهاية، ابن كثير 1/ 316.
(4)
النبوات، ابن تيمية ص 26.
(5)
سورة الصافات الآية 123
(6)
سورة الصافات الآية 124
(7)
سورة الصافات الآية 125
(8)
سورة الصافات الآية 126
(9)
سورة الصافات الآية 127
(10)
سورة الصافات الآية 128
(11)
سورة الصافات الآية 129
(12)
سورة الصافات الآية 130
وأضيفت إليه النون، لأن العرب تلحق النون في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها، وإرساله كان لأهل بعلبك فدعاهم إلى عبادة الله عز وجل وترك عبادة صنم لهم كانوا يسمونه بعلا، فكذبوه وخالفوه وأرادوا قتله، فهرب واختفى منهم.
وهناك أحاديث موضوعة وضعيفة تفيد حياة إلياس لم يصح منها شيء (1).
(1) شيء ينظر البداية والنهاية، ابن كثير 1/ 315، 314.
وأما النبي الخامس عشر المذكور: فهو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وأمه هاجر جارية سارة زوجة إبراهيم، وإسماعيل اسم أعجمي، وجاء في التوراة أن ملاك الرب بشر هاجر بإسماعيل وقال لها:(تكثيرا أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة. وقال لها ملاك الرب ها أنت حبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك)(1) وهو بكر إبراهيم عليه السلام وأفضل بنيه لقول
(1) سفر التكوين الإصحاح 16، 10/ 11 وفي قاموس الكتاب المقدس: إسماعيل اسم عبري ومعناه يسمع الله ص 73.
رسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل (1)» . ووصفه الله تعالى بأنه صادق الوعد فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (2){وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (3)
ومن أعظم صدقه للوعد صدقه فيما وعد أباه من صبره للذبح وبذلك، قال الله تعالى:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (4){فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (5){فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (6){وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} (7){قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (8)
ويدعي أهل الكتاب أن الذبيح هو إسحاق وعندهم أن الله أمره أن يذبح ابنه وحيده وأقحموا إسحاق لأنه؛ أبوهم ففي التوراة: (خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق)(9).
وهذا تحريف باطل؛ لأنه لا يقال وحيد إلا لمن ليس له غيره، وبنص التوراة إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، ثم إن
(1) جامع الترمذي، كتاب المناقب باب 1 رقم الحديث 3605، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح 5/ 544.
(2)
سورة مريم الآية 54
(3)
سورة مريم الآية 55
(4)
سورة الصافات الآية 101
(5)
سورة الصافات الآية 102
(6)
سورة الصافات الآية 103
(7)
سورة الصافات الآية 104
(8)
سورة الصافات الآية 105
(9)
سفر التكوين، الإصحاح الثاني والعشرون 20.
أول من يولد له معزة ليست لمن بعده، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء، كذلك المناسك والذبائح إنما محلها بمنى من أرض مكة حيث إسماعيل لا إسحاق (1).
وقد بشر إبراهيم بإسحاق بعد الفراغ من قصة الذبح، قال تعالى:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (2){وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} (3){سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (4){كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (5){إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (6){وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (7)
وكما سبق فإن البشارة بإسحاق شملت يعقوب أي أنه يكون من ذريته عقب ونسل فلا يجوز أن يؤمر بذبحه وهو بعد صغير وقد وصف إسماعيل بالحلم وهو المناسب في هذا المقام لذلك أن الذبيح هو إسماعيل (8).
ثم ذكر الله تعالى: أليسع، واختلفت القراءة فيه فقرأ بلام مخففة، وقرأ بلام مشدودة (الليسع)، والذين قرءوا بالتشديد ردوا القراءة الأولى وقالوا: لأنه لا يقال اليفعل مثل اليحيى، وأجيبوا بأن هذا الرد لا يلزم، لأن الاسم أعجمي، والعجمة لا تؤخذ بالقياس إنما تؤخذ سماعا، والعرب تغيرها بتقويم حرف من غير حذف ولا زيادة فيها ولا نقصان؛ وعلى هذا فلا يمتنع أن يأتي الاسم بلغتين (9).
(1) ينظر تفسير ابن كثير ج 4/ 18، 17.
(2)
سورة الصافات الآية 107
(3)
سورة الصافات الآية 108
(4)
سورة الصافات الآية 109
(5)
سورة الصافات الآية 110
(6)
سورة الصافات الآية 111
(7)
سورة الصافات الآية 112
(8)
ينظر: تفسير ابن كثير 4/ 17، 18.
(9)
تفسير الطبري 11/ 510، تفسير القرطبي 7/ 32.
وكما اختلف في لفظه اختلف في تحديد المراد به؛ فقيل: هو ابن أخطوب بن العجوز خليفة إلياس وابن عمه، وكانا قبل زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام. وقيل اليسع: هو الخضر، وقيل هو يوشع بن نون.
وجزم الطبري بأنه اليسع بن أخطوب بن العجوز خليفة إلياس.
وقيل: إنه الأسباط، والصحيح أن الأسباط هم حفدة يعقوب وذرية أبنائه الاثني عشر وليس من أبنائه الاثني عشر نبي إلا يوسف عليه السلام.
وأما النبي المذكور بعده فهو يونس عليه الصلاة والسلام، وهو بالاتفاق يونس بن متى، قال الله تعالى في سورة يونس:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (1)
(1) سورة يونس الآية 98
(2)
سورة الأنبياء الآية 87
وقال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (1){إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (2){فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (3){فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} (4){فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (5){لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (6){فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} (7){وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} (8){وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (9){فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (10)
قال المفسرون: بعث يونس إلى أهل نينوى (11) من أرض الموصل فدعاهم إلى الله، فكذبوه وتمردوا، فتوعدهم بالعذاب بعد ثلاث ليال وخرج من بين أظهرهم، ثم قذف الله في قلوبهم التوبة وتضرعوا وجأروا إليه، فكشف الله عنهم برحمته العذاب الذي اتصل بهم، واختلفوا هل كان إرساله إليهم قبل الحوت أو بعده، أو هما أمتنان على ثلاثة أقوال.
ولما ذهب مغاضبا بسبب قومه - على قول من قال إن إرساله إليهم كان قبل الحوت - ركب سفينة فاضطربت وماجت، فاستهموا على إلقاء واحد منهم في البحر، فألقي يونس والتقمه
(1) سورة الصافات الآية 139
(2)
سورة الصافات الآية 140
(3)
سورة الصافات الآية 141
(4)
سورة الصافات الآية 142
(5)
سورة الصافات الآية 143
(6)
سورة الصافات الآية 144
(7)
سورة الصافات الآية 145
(8)
سورة الصافات الآية 146
(9)
سورة الصافات الآية 147
(10)
سورة الصافات الآية 148
(11)
بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح النون والواو وهي قرية يونس عليه السلام بالموصل، معجم البلدان 5/ 339.
الحوت واختلف في مدة مكثه، فقيل: التقمه ضحى ولفظه عشية، وقيل: ثلاث ليال، وقيل: أربعين يوما والله أعلم (1). وهو من بني إسرائيل (2).
وأما النبي الثامن عشر والأخير فهو لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليهما الصلاة والسلام وقد أرسل إلى أهل سادوم (3) وكانوا يستحلون الفاحشة، قال ابن تيمية:(ولم يذكروا بالتوحيد بخلاف سائر الأمم وهذا يدل على أنهم لم يكونوا مشركين، وإنما ذنوبهم استحلال الفاحشة وتوابع ذلك، وكانت عقوبتهم أشد إذ ليس في ذلك تدين بل شر يعلمون أنه شر)(4).
ولوط عليه الصلاة والسلام بعث في زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ كان ممن آمن معه وهاجر معه وذكره كان في آخر الأنبياء مما يدل على أن الترتيب الزماني لم يكن مقصودا، فلذلك حاول بعض المفسرين استنباط الحكم في الترتيب المذكور، إضافة إلى أنه لم يراع فيه الفضل والدرجة، مع أنه من المتفق عليه أن الواو لا توجب الترتيب.
فكان مما قالوا: أن الله خص كل طائفة من طوائف الأنبياء
(1) ينظر البداية والنهاية، ابن كثير، 1/ 216 - 219.
(2)
الطبقات الكبرى، ابن سعد 1/ 55.
(3)
سدوم مدينة تقع في جنوب البحر الميت، قاموس الكتاب المقدس 461.
(4)
النبوات: ابن تيمية ص 27.
بنوع من الإكرام والفضل، فمن ذلك الملك والسلطان والقدرة وقد أعطي داود وسليمان من هذا نصيبا عظيما، ثم من شابههما من ذلك فصبر واغتنى فشكر، ثم ذكر من سلطهما على الملوك وهما موسى وهارون، ثم من سلط الملوك عليهما وهما زكريا ويحيى، ثم من عاندهما الملوك ولم يسلطوا عليهما وهما عيسى وإلياس، ثم أتبعهم بمن لم يكن بينهم وبين الملوك أمر وهم إسماعيل وإليسع وهما ممن هدى الله بهما قومهما من غير عذاب، ثم من هدى الله قومه بالعذاب وأنجاهم بعد إتيان مخايله، ثم لما انقضت ذرية إبراهيم ختمهم بابن أخيه لوط الذي أهلك الله قومه.
وقيل غير ذلك، فكل من المفسرين يشير إلى حكمة لا يذكرها الآخر (1).
وبغض النظر عن الحكمة في ترتيبهم فإنه لا شك أن هؤلاء الرسل هم من أفضل الرسل على الإطلاق ذلك أن الرسل الذين قصهم الله في كتابه أفضل ممن لم يقصص علينا نبأهم (2).
وفي قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} (3)
(1) ينظر: التفسير الكبير، الرازي 13/ 64، نظم الدرر، البقاعي 2/ 644.
(2)
تيسير الكريم الرحمن، السعدي 2/ 430.
(3)
سورة الأنعام الآية 89
تصريح بكفر مشركي قريش بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه قد وكل بالإيمان بها قوما آخرين اختلف فيهم؛ فقيل: إنهم المهاجرون والأنصار، وقيل بأنهم الملائكة، وقيل: إنهم الأنبياء الذين سماهم الله في الآيات قبل هذه الآية (1).
وإذ ورد لفظ الكفر فيحسن ذكر العلاقة بينه وبين الشرك؛ فإن نظر إلى المعنى اللغوي لكل منهما فلا شك في اختلافه، ذلك أن أصل الكفر في اللغة الستر والتغطية (2). وأما الشرك فأصله في اللغة من الشركة وهي المخالطة (3).
وأما في الشرع فإن الكفر والشرك يعدان من الألفاظ المترادفة، فالشرك إذا أطلق فإنه يراد به الكفر، فهو وإن كان أصله من الشرك الذي هو تشريك غير الله مع الله في العبادة فإنه يطلق أيضا على من عبد غير الله عبادة كاملة فيسمى مشركا، وكذلك من ترك عبادة الله بالكلية وجعل عبادته لغير الله فهو مشرك وإن كان أعظم كفرا وأشد شركا، وهكذا من ينكر وجود الله ويقول ليس هناك إله والحياة مادة، فهو أكفر الناس وأضلهم وأعظمهم شركا فيطلق على جميع هذه الاعتقادات شركا ويطلق عليها كفرا بالله عز وجل (4).
(1) ينظر تفسير الطبري 11/ 514، فتح القدير، الشوكاني 2/ 136.
(2)
لسان العرب، ابن منظور مادة كفر، 5/ 114.
(3)
لسان العرب، ابن منظور مادة شرك 1/ 448.
(4)
ينظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، ابن باز 4/ 33.
وأما إذا اقترن هذان اللفظان فيكون الكفر (عدم الإيمان بالله ورسله؛ سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب، بل شك وريب، أو إعراض عن هذا كله، حسدا أو كبرا أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة)(1).
وأما الشرك فكما يقول ابن تيمية (وأصل الشرك أن تعدل بالله مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده، فإنه لم يعدل أحد بالله شيئا من المخلوقات في جميع الأمور، فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك به)(2).
فهؤلاء الثمانية عشر نبيا المذكورون في هذه الآيات وبقي سبعة ممن سماهم الله تعالى في كتابه هم:
آدم عليه السلام، إدريس عليه السلام، هود عليه السلام، صالح عليه السلام، شعيب عليه السلام، ذو الكفل عليه السلام، محمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بعد ذكر الأنبياء الثمانية عشر بالاقتداء بهم، فقال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (3) وقد قال له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (4)
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 12/ 335.
(2)
الاستقامة: ابن تيمية 1/ 344.
(3)
سورة الأنعام الآية 90
(4)
سورة الأحقاف الآية 35
فلذلك اختلف فيهم وهل هم أولو العزم أم لا؟ على أقوال:
فقال قوم: أولو العزم هم نجباء الرسل وهم المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر، لقوله تعالى بعد ذكرهم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (1). وقال بعضهم: الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس عليه السلام لعجلة كانت منه؛ ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (2)
وقال ابن زيد: كل الرسل كانوا أولي عزم، ولم يبعث الله نبيا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل، وإنما دخلت من للتجنيس لا للتبعيض، كما يقال: اشتريت أكيسة من الخز وأردية من البز.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو المشهور.
فأولو العزم من الرسل هم أفضل الرسل، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم:
(1) سورة الأنعام الآية 90
(2)
سورة القلم الآية 48
«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة (1)» .
وقد استدل بعض العلماء بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (2) على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقتدى بهم بأسرهم، أي: بأن يجمع خصال العبودية والطاعة التي كانت متفرقة فيهم، فاجتمع فيه ما كان متفرقا بأسرهم، قالوا: فوجب أن يقال: إنه أفضل منهم بكليتهم (3).
فحال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل أحوال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذلك أنه (كان عبدا رسولا مؤيدا مطاعا فأعطي فائدة كونه مطاعا متبوعا ليكون له مثل أجر من اتبعه ولينتفع به الخلق ويرحموا ويرحم بهم، ولم يختر أن يكون ملكا لئلا ينقص لما في ذلك من الاستمتاع بالرياسة والمال عن نصيبه في الآخرة فإن العبد الرسول أفضل عند الله من النبي الملك).
ويلي محمد صلى الله عليه وسلم في الفضيلة إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم فهما خير الرسل.
(1) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق، شرح النووي 15/ 37، وفي البخاري بلفظ " أنا سيد الناس يوم القيامة " كتاب الأنبياء باب 3 ح 3340، الفتح 6/ 371.
(2)
سورة الأنعام الآية 90
(3)
ينظر: التفسير الكبير، الرازي 13/ 70.