الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس
تقريرات أئمة الإسلام والسنة في بيان إقرار المشركين بالربوبية وشركهم في الألوهية
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: تقريرات علماء السنة على أن توحيد الاعتقاد (الربوبية) قد أقر به المشركون.
المطلب الثاني: تقريرات علماء السنة في بيان خطأ المتكلمين في هذه المسألة وأسباب خفاء ذلك عليهم.
صرح أئمة الإسلام بأن المشركين من كفار قريش وغيرهم كانوا يقرون بالربوبية إجمالاً وأنهم مع ذلك كفار، لكونهم عبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه في الألوهية آلهة أخرى وإليك نماذج من كلامهم:
أولاً: قال الإمام أبو عبد الله ابن بطة العكبري رحمه الله في الإبانة: ". . . وذلك أن أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء: أن يعتقد العبد ربانيته ليكون بذلك مباينًا لمذهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعا.
والثاني: أن يعتقد وحدانيته ليكون مباينًا بذلك مذاهب أهل الشرك الذين أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره.
والثالث: أن يعتقده موصوفًا بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفًا بها من العلم والقدرة والحكمة وسائر ما وصف به نفسه في كتابه.
إذ قد علمنا أن كثيرًا ممن يقر به ويوحده بالقول المطلق قد يلحد في صفاته فيكون إلحاده في صفاته قادحًا في توحيده.
ولأنّا نجد الله تعالى قد خاطب عباده بدعائهم إلى اعتقاد كل واحدة من هذه الثلاث، والإيمان بها " (1)
ثانيًا: وقال الشيخ أبو محمد ابن عبد البصري أحد علماء المالكية في كتابه أصول السنة والتوحيد: " وقد أخبر عن الكفار أنهم يعرفونه مع ردهم على رسله. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، وقال [سبحانه]:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} مع آيات كثيرة، وذلك موجود منهم ضرورة، وهم في الجاهلية يعرفونه ولا ينكرونه، ويقولون: إلهنا القديم والعتيق، وإله الآلهة، ورب الأرباب، وغير ذلك، مع كفرهم.
فدل [ذلك] على أن تلك ضرورة ألزموها، وهو قوله تعالى:
(1) الإبانة (المخطوط، ص 693 - 694)، وقد نقلت نص كلامه بواسطة كتاب القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد، د. عبد الرزاق البدر، ص 29.
{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} ، وقوله:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ، يعني: معرفة ربوبيته.
وقد جاء في الأثر: يقول الله تعالى: " خلقت خلقي حنفاء مقرّين " يعني عرفاء عرفوه بوحدانيته، وأقروا له بمعرفة ربوبيته، وإنما جحدوا معرفة التوحيد الذي تعبَّدهم بها على ألسنة السفراء، وهو قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} .
وقول صاحب الشرع: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» (1)، لم يقل: حتى يقولوا: إن لهم ربًّا، إذ هم عارفون بذلك. وإنما أمرتهم الرسل أن يصلوا معرفة التوحيد بمعرفة الربوبية والوحدانية فأبوا، وقَبِل ذلك الموحدون، فقال في حال المؤمنين:{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} ، وقال في حال الكفار:{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} .
ثم قال: " فهذه المعرفة ضرورة للعارف موجودة فيه، كوجود ضرورة المقعد وقعوده موجود فيه، فهو سبحانه المعروف الذي لا
(1) صحيح البخاري الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (7285)، صحيح مسلم الْإِيمَانِ (20)، سنن الترمذي الْإِيمَانِ (2607)، سنن النسائي تَحْرِيمِ الدَّمِ (3975)، سنن أبي داود الزَّكَاةِ (1556)، مسند أحمد (2/ 529).
ينكره شيء، والمعلوم الذي لا يجهله شيء، فمن كانت معه معرفتان فهو كافر، وبالمعرفة الثالثة يصح الإيمان، وهو الفصل الثالث: وهي معرفة التوحيد التي دعت الرسل إليها، وبعثوا بها، وكُلفنا قبولها، وهي قوله:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، وهو قوله:{لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، وأخبرنا أنه ما كان معذبا قبل بعثتهم، فكانوا يعرفون أن لهم ربًّا وإلهًا، ولكنهم ينكرون توحيد الإله وبعث رسله وشرائع دينه، وبه وقع منهم الكفر.
فوجود ذلك منهم يزيل عنهم معرفة التوحيد، ولا يزيل ضرورتهم، وهذه المعرفة وجبت بالتوقيف، وهي ما وقفتنا الرسل عليه، ودلنا عليه سبحانه، ووفقنا لذلك، وبها يجب الخلود في الجنة، وبعدمها يجب الخلود في النار " (1)
وقال أيضًا: " ألا ترى أنه لم يقع من الكفار التعجب والإنكار من
(1) أصول السنة والتوحيد، للشيخ أبو محمد ابن عبد البصري، وهو كتاب مفقود وقد نقلت نص عبارته بواسطة كتاب درء تعارض العقل والنقل:(8/ 509 - 512)، وقد وصفه ابن تيمية بأن طريقته طريقة أبي الحسن ابن سالم، وأبي طالب المكي وأمثالهما من المنتسبين إلى السنة والمعرفة والتصوف واتباع السلف وأئمة السنة والحديث.
أنه سبحانه رب وإله؟ وإنما تعجبت وأنكرت التوحيد بالإلهية فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (1)
ثالثًا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ت 728هـ): " بل المشركون الذين سمَّاهم الله ورسوله مشركين، وأخبرت الرسل أن الله لا يغفر لهم، كانوا مقرِّين بأن الله خالق كل شيء.
فهذا أصل عظيم يجب على كل أحد أن يعرفه، فإنه به يُعرف التوحيد، الذي هو رأس الدين وأصله " (2)(3)
وقال أيضًا: " ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بُعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولاً - لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا مقرين بالقدر أيضًا، وهم مع هذا مشركون ".
رابعًا: قال تقي الدين أحمد بن عل المقريزي الشافعي (ت 845 هـ): " ولا ريب أن توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقرُّوا بأنه سبحانه وحده خالقهم وخالق السماوات والأرض، والقائمُ
(1) أصول السنة والتوحيد، للشيخ أبو محمد ابن عبد البصري، وهو كتاب مفقود وقد نقلت نص عبارته بواسطة كتاب درء تعارض العقل والنقل:(8/ 509 - 512)، وقد وصفه ابن تيمية بأن طريقته طريقة أبي الحسن ابن سالم، وأبي طالب المكي وأمثالهما من المنتسبين إلى السنة والمعرفة والتصوف واتباع السلف وأئمة السنة والحديث.
(2)
درء تعارض العقل والنقل (9/ 378).
(3)
درء تعارض العقل والنقل (9/ 378). ') ">
بمصالح العالم كلِّه، وإنما أنكروا توحيد الإلهية والمحبة، كما قد حكى الله تعالى عنهم في قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} ، فلما سوَّوا غيره به في هذا التوحيد كانوا مشركين كما قال الله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .
وقد علَّمَ الله سبحانه وتعالى عباده كيفيَّة مُبايَنَةِ الشرك في توحيد الإلهية، وأنه تعالى حقيق بإفراده ولِيًّا وحَكَمًا وربًّا، فقال تعالى:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} ، وقال:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} ، وقال:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} .
فلا وليَّ ولا حَكَمَ ولا ربَّ إلا الله الذي من عَدَل به غيره فقد أشرك في ألوهيته ولو وحَّد ربوبيَّتَهُ.
فتوحيدُ الربوبية هو الذي اجتمعت فيه الخلائق مؤمنها وكافرها، وتوحيد الإلهيَّة مفرَقُ الطرق بينَ المؤمنينَ والمشركينَ، ولهذا كانت كلمة الإسلام: لا إله إلا الله، ولو قال: لا رب إلا الله لما أجزأه عند