الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهم يجمعون بين الخوف والرجاء، وقال – جل وعلا -:{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ولا بد معهما من المحبة لله، فلا بد من هذه الأمور الثلاثة: المحبة لله، والخوف منه سبحانه وتعالى، والرجاء لفضله ".
المبحث الرابع: أسباب القنوط من رحمة الله تعالى
للقنوط أسباب كثيرة ومتعددة، لعل من أهمها:
1.
إسراف العبد على نفسه في المعاصي، والإفراط فيها، والاستكثار منها، فإن ذلك من أعظم ما يسبب القنوط، وهذا السبب هو ما يلمح إليه قوله سبحانه وتعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} فكأن في ذلك إشارة إلى أنه بسبب إسرافهم في معاصي الله تعالى، وإفراطهم فيها، وعدم التحرز منها، والبعد عنها سيستولي عليهم القنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى (1)(2).
(1) ينظر: القول السديد ص 65، فتح القدير 4/ 469.
(2)
ينظر: القول السديد ص 65، فتح القدير 4/ 469. ') ">
2.
الجهل بسعة رحمة الله سبحانه وتعالى، وعدم العلم بها (1) وهذا هو صريح قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ» (2) فالغفلة عن مثل ذلك، وعدم النظر فيها، وقطع العلاقة بها وبأمثالها داع قوي من دواعي القنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى.
3.
الظن بأن الله تعالى لا يغفر له، ولا يرحمه، ولا يقبل توبته قال ابن كثير رحمه الله: " لا يقنطن عبد من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه وكثرت؛ فإن باب الرحمة والتوبة واسع: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} ، وقال تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} ، وقال – جل وعلا – في حق المنافقين:
(1) ينظر: التفسير الكبير للرازي 19/ 157. ') ">
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب الرجاء مع الخوف ح 5988.
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} ، وقال جل جلاله:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثم قال جلت عظمته: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وقال – تبارك وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} قال الحسن البصري – رحمة الله عليه -: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، والآيات في هذا كثيرة جدًّا (1).
4.
إغلاق باب الرجاء بالله تعالى بالكلية، والاقتصار على الخوف، واعتقاد أن هذا هو المطلوب، بل يظن أن هذه هي الخشية المطلوبة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية [ت 728 هـ]: " الخشية لا تكون ممن قطع بأنه معذب فإن هذا قطع بالعذاب يكون معه القنوط واليأس والإبلاس، ليس هذا خشية
(1) ينظر: تفسير القرآن العظيم 4/ 59. ') ">
وخوفًا، وإنما يكون الخشية والخوف مع رجاء السلامة ولهذا قال:{تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} فصاحب الخشية لله ينيب إلى الله كما قال: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} وهذا يكون مع تمام الخشية والخوف " (1).
5.
نسيان قدرة الله تعالى عليه (2) وإحاطته بكل ما يعمله، وأنه لو أراد لانتقم منه حال عصيانه وغفلته، وأن إمهاله إيّاه ليس عجزًا، بل هو فسحة في عمره ومد لحياته حتى يعود ويقلع من عصيانه، فإن استولت عليه الغفلة وطال به الرقاد ولم يسرع الرجوع خُشي عليه أن يلحق بركب من قال الله تعالى فيهم:{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} قال ابن سعدي رحمه الله [ت 1376 هـ]: " أي: أمددناهم
(1) مجموع الفتاوى 16/ 176. ') ">
(2)
ينظر: القول المفيد 2/ 682. ') ">
بالأموال والبنين، وأطلنا أعمارهم، فاشتغلوا بالتمتع بها، ولهوا بها، عما له خلقوا، وطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وعظم طغيانهم، وتغلظ كفرانهم، فلو لفتوا أنظارهم إلى من عن يمينهم، وعن يسارهم من الأرض، لم يجدوا إلا هالكًا، ولم يسمعوا إلا صوت ناعية، ولم يحسوا إلا بقرون متتابعة على الهلاك، وقد نصب الموت في كل طريق لاقتناص النفوس الأشراك، ولهذا قال:{أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي: بموت أهلها وفنائهم، شيئًا فشيئًا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. فلو رأوا هذه الحالة، لم يغتروا، ويستمروا على ما هم عليه {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} الذين بوسعهم الخروج عن قدر الله؟ وبطاقتهم الامتناع عن الموت؟ فهل هذا وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم، أذعنوا، وذلوا، ولم يظهر منهم أدنى ممانعة؟! " (1).
6.
الاستماع للمقنّطين من رحمة الله عز وجل، والإنصات لهم، والاستسلام لكلامهم، والركون إلى أقوالهم باعث
(1) تيسير الكريم الرحمن 1/ 524. ') ">
قوي على القنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " طائفة من الناس. إذا رأوا من عمل من هذه الفواحش شيئًا أيّسوه من رحمة الله حتى يقول أحدهم: من عمل من ذلك شيئًا ل يفلح أبدًا، ولا يرجون له قبول توبة، .... ويقولون: إن هذا لا يعود صالحًا ولو تاب، مع كونه مسلمًا مقرًّا بتحريم ما فعل، ويُدخلون في ذلك من استكره على فعل شيء من هذه الفواحش، ويقولون لو كان لهذا عند الله خير ما سلّط عليه من فعل به مثل هذا واستكرهه كما يفعل بكثير من المماليك طوعًا وكرهًا، وكما يفعل بأُجراء أهل الصناعات طوعًا وكرهًا، وكذلك من في معناهم من صبيان الكتاتيب وغيرهم ونسوا قوله تعالى:{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وهؤلاء قد لا يعلمون صورة التوبة، وقد يكون هذا حالاً وعملاً لأحدهم، وقد يكون اعتقادًا فهذا من أعظم الضلال والغي، فإن القنوط من رحمة الله بمنزلة الأمن من مكر الله – تعالى -،
وحالهم مقابل لحال مستحلي الفواحش فإن هذا أمن مكر الله بأهلها، وذاك قنّط أهلها من رحمة الله، والفقيه كل الفقيه هو الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله، ولا يجرئهم على معاصي الله " (1) وقال الشوكاني رحمه الله:" من ظنّ أن تقنيط عباد الله، وتأييسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به، فقد ركب أعظم الشطط، وغلط أقبح الغلط، فإن التبشير، وعدم التقنيط جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز، ومسلك سلكه رسوله، كما صح عنه من قوله: «بَشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا» (2) "(3) وفي الأثر «أن ابن مسعود رضي الله عنه مر على قاصٍّ وهو يذكّر الناس، فقال: يا مذكّر لم تقنّط الناس من رحمة الله؟ ثم قرأ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}» (4).
(1) مجموع الفتاوى: 15/ 405 – 406. ') ">
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/ 1358.
(3)
فتح القدير 4/ 469 بتصرف يسير. ') ">
(4)
أخرجه الطبري 24/ 16، وأورده ابن كثير في تفسيره 4/ 60، وعزاه لابن أبي حاتم ولم أجده في تفسيره المطبوع، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 7/ 237 لعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم.
7.
الجرأة على محارم الله عز وجل، والإصرار عليها، والتصميم على الإقامة على المعصية (1) فهو من أكبر البواعث على القنوط من رحمة الله عز وجل إذ به ينقطع الطمع في رحمة الله تعالى، وينعدم الرجاء به.
8.
عدم معرفة الكثير من الأسباب الجالبة لرحمة الله عز وجل، والوسائل الموصلة إلى فضله وإنعامه، والطرق المؤدية إلى بره وإحسانه (2) فمن أغفل معرفة ذلك، ولم يحرص على تعلمه والبحث عنه استولى عليه القنوط.
9.
الإقامة على الأسباب التي تمنع الرحمة، فلا يزال كذلك حتى يصير له هذا وصفًا وخلقًا لازمًا، وهذا غاية ما يريده الشيطان من العبد، ومتى وصل إلى هذا الحد لم يرج له خير إلا بتوبة نصوح وإقلاع قوي (3).
10.
ضعف الإرادة، وضعف النفس وعجزها ومهانتها فيخلد صاحبها إلى الكسل والدعة، ومن ثم لا يسعى إلى ما
(1) ينظر: القول السديد ص65. ') ">
(2)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن 1/ 432. ') ">
(3)
ينظر: القول السديد ص65. ') ">