الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عائقًا من الابتعاد عن هذا المسلك الخاطئ.
المبحث السادس: علاج القنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى
جاءت العقيدة الإسلامية بعلاج شامل وواف لمثل هذه الانحرافات العقدية والسلوكية، وبيّنت الواجب على الإنسان أن يتبعه في حياته عقيدة وعبادة وسلوكًا، وحذرته من الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير، ومما يعالج به القنوط من رحمة الله عز وجل ما يلي:
1.
الإقلاع عن المعصية، والمبادرة في التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والإسراع إليها، وعدم التسويف فيها، ويدل لذلك الأمر أن الله عز وجل أمر به بعد النهي عن القنوط فقال تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} ، فالمبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ولا يجوز تأخيرها فمتى أخرها عصى بالتأخير (1) (2) وقد قال تعالى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}
(1) ينظر: مدارج السالكين 1/ 272.
(2)
ينظر: مدارج السالكين 1/ 272. ') ">
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: " من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب، وأناب إلى الله، وندم عليه فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنبه، وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفات راسخة، فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة. والغالب أنه لا يوفق للتوبة، ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم قائم ويقين، متهاونًا بنظر الله إليه، فإنه يسد على نفسه باب الرحمة. نعم قد يوفق الله عبده المصرّ على الذنوب على عمد ويقين للتوبة النافعة التي يمحو بها ما سلف من سيئاته، وما تقدم من جناياته، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب "(1) وينبغي أن يعلم أن التوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله وإلى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الجهال، لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح كالفواحش والمظالم، بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها؛ فأكثر الخلق يتركون كثيرًا مما أمرهم الله به من أقوال القلوب وأعمالها وأقوال البدن وأعماله وقد لا
(1) تيسير الكريم الرحمن ص 172. ') ">
يعلمون أن ذلك مما أمروا به أو يعلمون الحق ولا يتبعونه فيكونون إما ضالين بعدم العلم النافع، وإما مغضوبًا عليهم بمعاندة الحق بعد معرفته (1)
2.
حُسن الظن بالله عز وجل من أقوى ما يُدفع به القنوط من رحمته، وقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم، على حسن الظن بالله حيث قال:«لا يَمُوتَنَّ أحدكم إلا وهو يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ» (2). ومعنى حسن الظن بالله - تعالى -: أن يظن أن الله تعالى يرحمه، ويرجو ذلك، ويتدبر الآيات والأحاديث الواردة في كرم الله سبحانه وتعالى، وعفوه ورحمته وما وعد به أهل التوحيد، وما ينشره من الرحمة لهم يوم القيامة (3)، مع الأخذ بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه وقدره وثوابه وكرامته، فيأتي العبد بها ثم يحسن ظنه بربه، ويرجوه ألاّ يكله إليها وأن يجعلها موصلة إلى ما ينفعه ويصرف عنه ما يعرضها للحبوط ويبطل أثرها، فحسن الظن إن حمل على العمل وحثّ عليه وساعده وساق إليه فهو صحيح،
(1) ينظر: جامع الرسائل 1/ 228. ') ">
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، ح 2877.
(3)
ينظر: المجموع شرح المهذب 5/ 98. ') ">
وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور (1)، ومن مواطن حسن الظن بالله – تعالى – التي لا ينبغي للعبد أن يفارقه فيها أوقات الشدائد والمحن، وحلول المصائب في الأهل والمال والبدن؛ لئلا يقع بسبب عدم ذلك في الجزع والسخط (2)، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " فالقنوط من رحمة الله، واستبعاد الرحمة: من كبائر الذنوب، والواجب على الإنسان أن يحسن الظن بربه، إن دعاه أحسن الظن به بأنه سيجيبه، وإن تعبد له بمقتضى شرعه فليحسن الظن بأن الله سوف يقبل منه، وإن وقعت به شدة؛ فليحسن الظن بأن الله سوف يزيلها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«وَاعْلَمْ أن النَّصْرَ مع الصَّبْرِ، وأن الْفَرَجَ مع الْكَرْبِ، وأن مع الْعُسْرِ يُسْرًا» (3).
3.
النظر إلى سعة رحمة الله عز وجل ومغفرته، وعظيم فضله وبره، وكريم جوده وإحسانه مما يعين على البعد عن
(1) ينظر: الجواب الكافي ص 34 – 35. ') ">
(2)
ينظر: مرقاة المفاتيح 5/ 129. ') ">
(3)
أخرجه الإمام أحمد 1/ 307، وصحح إسناده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 1/ 497.
القنوط، فكيف يقنط من علم أن رحمة الله عز وجل وسعت كل شيء حيث قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} فالعلم العلوي والسفلي، والبر والفاجر، المؤمن والكافر بل كل مخلوق قد وصلت إليه رحمة الله العامة، وغمره فضله وإحسانه، والرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة، هي للذين تابوا وأنابوا (1)، وقال تعالى:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} ؟! قال ابن كثير رحمه الله: " أي: رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم "(2)، وقوله تعالى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فالخلق كله تحت ملكه وتدبيره، قد بسط عليهم رحمته وإحسانه، وتغمدهم برحمته وامتنانه، وكتب على نفسه أن رحمته تسبق غضبه (3)، وأن
(1) ينظر: تيسير الكريم الرحمن ص 305. ') ">
(2)
تفسير القرآن العظيم 4/ 73. ') ">
(3)
لحديث: " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قبل أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي " أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله "بل هو قرآن مجيد ""في لوح محفوظ"، ومسلم في كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله – تعالى –، وأنها سبقت غضبه ح 2751.
العطاء أحب إليه من المنع، وأن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة إن لم يغلقوا عليهم أبوابها بذنوبهم، ودعاهم إليها، إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم (1)، بل كيف يسري القنوط إلى قلب إنسان حياته وعيشه وسكنه إنما هو في كنف رحمة الله عز وجل إذ يقول سبحانه وتعالى:{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} ؟! فهذا دليل واضح وبرهان قوي على سعة رحمة الله، وجزيل فضله، ووجوب شكره، وكمال قدرته، وعظيم سلطانه، وسعة ملكه سبحانه وتعالى (2).
4.
أخذ النفس بالرجاء المحمود الذي يحثّ على العمل، ويقود إليه، سبيل من السبل العظيمة في منع الاستسلام للقنوط، وقد ذكر ابن القيم، فوائد كثيرة لعبادة الرجاء منها (3):
- إظهار العبودية والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه من ربه، ويستشرفه من إحسانه، وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين.
(1) ينظر: تيسير الكريم الرحمن ص 251. ') ">
(2)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن ص 741. ') ">
(3)
ينظر: مدارج السالكين 2/ 50 – 51. ') ">
- أنه سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يؤمّلوه ويرجوه ويسألوه من فضله.
- أن الرجاء حادٍ يحدو به في سيره إلى الله، ويطيب له المسير، ويحثه عليه، ويبعثه على ملازمته، فلولا الرجاء لما سار أحد؛ فإن الخوف وحده لا يحرك العبد وإنما يحركه الحب ويزعجه الخوف ويحدوه الرجاء.
- كلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه ازداد حبًّا لله - تعالى -، وشكرًا له، ورضى به وعنه.
- أنه يبعثه على أعلى المقامات وهو مقام الشكر الذي هو خلاصة العبودية.
- يوجب له المزيد من معرفة الله وأسمائه ومعانيها والتعلق بها.
- أن الخوف مستلزم للرجاء والرجاء مستلزم للخوف، فكل راج خائف وكل خائف راج، ولأجل هذا حسن وقوع الرجاء في موضع يحسن فيه وقوع الخوف قال تعالى:{مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} أي: ما لكم لا تخافون لله عظمة.
- في الرجاء من الانتظار والترقب والتوقع لفضل الله ما يوجب تعلق القلب بذكره، ودوام الالتفات إليه.
قال النووي رحمه الله: " تتبعت الأحاديث الصحيحة في الخوف والرجاء، فوجدت أحاديث الرجاء أضعاف أحاديث الخوف مع ظهور الرجاء فيها "(1).
5 – تأخر الغيث واحتباس المطر له ضرر على البلاد والعباد، ولكن النظر في المصالح المتحققة من وراء ذلك يدفع القنوط، ويبعد اليأس، ويحل الأمل والرجاء بدلاً عنهما، ومن تلك المصالح صدق اللجوء إلى الله، والعودة إليه، والتوبة الصادقة، والبعد عن الذنوب والمعاصي، ولزوم الاستغفار، والتحلل من المظالم، والإكثار من الصدقات، والعطف على الأرامل والأيتام وغير ذلك من المصالح التي لولا احتباس المطر لما حصل كثير منها، بل هي من أعظم الأسباب التي تستجلب بها رحمة الله عز وجل، قال الشيخ محمد خليل هراس رحمه الله: " كيف يقنطون ورحمته وسعت كلَّ شيء، والأسباب لحصولها قد توفَّرت؟! فإن حاجة العباد وضرورتهم من أسباب رحمته، وكذا الدعاء بحصول الغيث والرجاء في الله من أسبابها، وقد جرت
(1) لم أقف عليه فيما لدي من كتب الإمام النووي، ونقله عنه الشيخ ملا علي قاري في مرقاة المفاتيح 5/ 129. ') ">
عادته سبحانه في خلقه أن الفرج مع الكرب، وأن اليسر مع العسر، وأن الشدة لا تدوم، فإذا انضمَّ إلى ذلك قوّة التجاء وطمع في فضل الله، وتضرع إليه ودعاء؛ فتح الله عليهم من خزائن رحمته ما لا يخطر على البال " (1).
6 – تأخر إجابة الدعاء، وعدم حصول عين المطلوب في الدعاء لا يستلزم القنوط، بل قد يكون في تأخر الإجابة أو عدم حصول المطلوب من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة ما يتمنى الداعي أنه لم يتحقق دعاؤه حتى تستمر له هذه المكاسب، فمن ذلك: التذلل لله عز وجل، والانطراح والانكسار بين يديه، والتلذذ بمناجاته، والأنس به، والإلحاح في الدعاء، وإظهار المسكنة والافتقار والحاجة لرحمته ومنته ولطفه وإحسانه، وتعويد النفس على الصبر، والأمل، والرجاء، والرضا عن الله سبحانه وتعالى، والتسليم لقضائه وقدره وغير ذلك مما يصعب حصره، أو يمكن وصفه، فمن يملُّ من الدعاء يُخشى ألاّ يقبل دعاؤه، لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل، وتأخيرُ الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها، وإما لأنه لم يقدّر في الأزل قبول
(1) شرح العقيدة الواسطية ص 170. ') ">
دعائه في الدنيا ليعطى عوضه في الآخرة، وإما أن يؤخر القبول ليلحّ ويبالغ في ذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء، ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له، ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له (1)، فدعاء المؤمن لا يرد، غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة، أو يعوّض بما هو أولى له عاجلاً أو آجلاً، فينبغي للمؤمن ألاّ يترك الطلب من ربه فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض (2).
7 – الرغبة في الولد، وتمني حصوله زينة دنيوية، وحاجة إنسانية كما قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} ، وتأخر مجيئه لا ينبغي أن يكون باعثًا على القنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى، فقد أنكر خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام على من كان هذا مسلكه حيث قال بعد أن بشّرته الملائكة عليهم السلام بالولد على كِبَرٍ منه، وعُقم في زوجته:{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} ، بل إن زكريا عليه السلام كان ظاهر حاله
(1) ينظر: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 2/ 48. ') ">
(2)
ينظر: فتح الباري 11/ 141. ') ">
قد يُستبعد معه حصول الولد، إذ كان كبيرًا في السن، بدت عليه علامات الضعف والوهن، وزوجته عاقر إلا أن ذلك لم يمنعه من سؤال الله أن يرزقه ولدًا صالحًا، جامعًا لمكارم الأخلاق، ومحامد الشيم، مرضيًّا عند الله وعند خلقه، وهذا أفضل ما يكون من الأولاد (1) كما قال تعالى:{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} ، فلما كان دعاؤه وهو على تلك الحال دعاء موقن بالإجابة، غير مستبعد شيئًا عن قدرة الله عز وجل، بشّره الله سبحانه وتعالى بأكثر مما طلب، ومنحه أكثر مما أمّل ورغب فقال سبحانه وتعالى:{فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} فالواجب – أيضًا – على أتباع الرسل عليهم السلام أن يسلكوا طريقهم، وينهجوا نهجهم، ويقتدوا بهم فيعلموا أن الله لا يعجزه شيء، فقدرته تامة كاملة، وإنما
(1) ينظر: تيسير الكريم الرحمن ص 490. ') ">
أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون.
8 – ما يصيب المسلم في دنياه من عجز ومرض، وبلاء ومحنة، وكرب وشدة يستلزم منه اللجوء إلى الله لكشف كربته، وزوال محنته، لا أن يكون ذلك سببًا لقنوطه، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:" لا ينبغي للإنسان إذا وقع في كربة أن يستبعد حصول مطلوبه أو كشف مكروبه، وكم من إنسان وقع في كربة وظن أن لا نجاة منها، فنجاه الله – سبحانه – إما: بعمل صالح سابق مثل ما وقع ليونس عليه السلام قال تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، أو بعمل لاحق، وذلك كدعاء الرسول، يوم بدر (1)، وليلة الأحزاب (2)، وكذلك أصحاب الغار (3) ". (4)
9 -
اليقين بنصر الله لأوليائه وحزبه في الدنيا والآخرة معًا،
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قوله "إذ تستغيثون ربكم"، ومسلم في كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر 4/ 1383.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الخندق ح4096، ومسلم في كتاب الجهاد، باب استحباب الدعاء بالنصر 3/ 1363.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب حديث الغار ح3464، ومسلم في كتاب الرقاق، باب قصة أصحاب الغار 4/ 2099.
(4)
القول المفيد 2/ 683. ') ">
وليس في الآخرة فقط هو ما يستوجبه صريح القرآن وشواهد السنة، كما قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} قال ابن كثير رحمه الله: " نصر الله نبيه محمدًا، وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصارًا وأعوانًا، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم وخذلهم وقتل صناديدهم، وأسر سراتهم فاستاقهم مقرنين في الأصفاد، ثم منّ عليهم بأخذه الفداء منهم، ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة فقرت عينه ببلده وهو البلد المحرم الحرام المشرّف المعظم فأنقذه الله - تعالى - به مما كان فيه من الكفر والشرك، وفتح له اليمن ودانت له جزيرة العرب بكمالها، ودخل الناس في دين الله أفواجًا "(1)، بل قد وبّخ الله عز وجل من ظن مثل هذا الظن فقال تعالى:{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}
(1) تفسير القرآن العظيم 4/ 85. ') ">
فهذه الآية الكريمة فيها من الوعد والبشارة بنصر الله لدينه، ولرسوله، وعباده المؤمنين ما لا يخفى، ومن تأييس الكافرين، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره، ولو كره الكافرون (1)، وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية، المقدمات التي بُني عليها هذا الاعتقاد الفاسد فقال:" هذه الأقوال مبينة على مقدمتين: إحداهما: حسن ظنه بدين نفسه نوعًا أو شخصًا، واعتقاد أنه قائم بما يجب عليه، وتارك ما نهي عنه في الدين الحق، واعتقاده في خصمه ونظيره خلاف ذلك أن دينه باطل نوعًا أو شخصًا لأنه ترك الأمور وفعل المحظور، والمقدمة الثانية: أن الله قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا "(2)، ثم بيّن فساد تلك المقدمتين فقال: " المقدمتان اللتان بنيت عليهما هذه البلية مبناهما على الجهل بأمر الله ونهيه، وبوعده ووعيده، فإن صاحبهما إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق فقد اعتقد أنه فاعل للمأمور تارك للمحظور وهو على العكس من ذلك،
(1) تيسير الكريم الرحمن ص525. ') ">
(2)
جمع الرسائل 2/ 325. ') ">
وهذا يكون من جهله بالدين الحق وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله في الدنيا بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار على المؤمنين ولأهل الفجور على أهل البر فهذا من جهله بوعد الله تعالى، أما الأول: فما أكثر من يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها، وما أكثر من يفعل محرمات لا يعلم بتحريمهما، بل ما أكثر من يعبد الله بما حرّم ويترك ما أوجب، وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، وأن خصمه هو الظالم المبطل من كل وجه ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوع من الباطل والظلم ومع خصمه نوع من الحق والعدل .... ، وأما الثاني فما أكثر من يظن أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء معذبين بما فيه، بخلاف من فارقهم إلى طاعة أخرى وسبيل آخر، ويكذّب بوعد الله بنصرهم " (1)، ثم ساق الشيخ، أكثر من خمسين آية تدل على نصر الله للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وقال بعد ذلك مستكملاً الرد على تلك المقدمات الباطلة " هذا يتبين بأصلين أحدهما: أن حصول النصر وغيره من أنواع النعيم لطائفة أو شخص لا ينافي ما يقع في خلال ذلك من قتل بعضهم وجرحه، ومن أنواع الأذى، وذلك أن
(1) المصدر السابق 2/ 327 – 328. ') ">
الخلق كلهم يموتون فليس في قتل الشهداء مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم .... ، وأما الأصل الثاني: فإن التنعيم إما بالأمور الدنيوية، وإما بالأمور الدينية. فأما الدنيوية فهي الحسية مثل الأكل، والشرب، والنكاح واللباس .... فالمؤمن والكافر والمنافق مشتركون في جنسها .... ، وأما الدين: فجماعه شيئان تصديق الخبر، وطاعة الأمر، ومعلوم أن التنعم بالخبر بحسب شرفه وصدقه، والمؤمن معه من الخبر الصادق عن الله وعن مخلوقاته ما ليس مع غيره فهو من أعظم الناس نعيمًا بذلك، بخلاف من يَكْثُر في أخبارهم الكذب، وأما طاعة الأمر فإن من كان ما يؤمر به صلاحًا وعدلاً ونافعًا يكون تنعمه به أعظم من تنعم من يؤمر بما ليس بصلاح ولا عدل ولا نافع. وهذا من الفرق بين الحق والباطل فإن الله سبحانه يقول في كتابه:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} . (1)
(1) جامع الرسائل 2/ 335 – 341. ') ">
10 – عدم اهتداء من ضل عن الصراط المستقيم ليسم مانعًا من الاستمرار في دعوته إلى الخير، وبذل النصح له، وتوجيهه إلى البر والصلاح، وإذا كان هذا الضال عن سواء الصراط قريبًا كَابنٍ ونحوه كانت المسؤولية أعظم، والمهمة أكبر، وترك مثل ذلك قنوطًا ويأسًا من هدايته بُعْدٌ عن هدي سيد المرسلين وإمام المتقين عليه الصلاة والسلام، فإنه استمر في دعوة عمه، ومحاولة أن يهتدي حتى قبيل وفاته، فلم ييأس أو يقنط من إيمانه، ونزل عليه قوله تعالى:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ليخبره " أنك وغيرك من باب أولى لا تقدر على هداية أحد، ولو كان من أحب الناس إليك، فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية التوفيق، وخلق الإيمان في القلب، وإنما ذلك بيد الله - تعالى -، يهدي من يشاء، وهو أعلم بمن يصلح لها، فيبقيه على ضلاله. وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فتلك هداية البيان والإرشاد، فالرسول يبيّن الصراط
المستقيم، ويرغّب فيه، ويبذل جهده في سلوك الخلق له. وأما كونه يخلق في قلوبهم الإيمان، ويوفقهم بالفعل، فحاشا وكلا. ولهذا لو كان قادرًا عليها لهدى من وصل إليه إحسانه، ونصره، ومنعه من قومه عمه أبا طالب، ولكنه أوصل إليه من الإحسان بالدعوة له للدين والنصح التام ما هو أعظم مما فعله معه عمه، ولكن الهداية بيد الله " (1)، قال الشيخ سليمان بن عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب [ت 1233هـ] " رسول الله، أفضل الخلق، وأقربهم من الله، وأعظمهم جاهًا عنده ومع ذلك حرص واجتهد على هداية عمه أبي طالب في حياة أبي طالب وعند موته فلم يتيسر ذلك، ولم يقدر عليه " (2).
11 – فقرُ بعض المسلمين في الدنيا، وقلة ذات اليد عندهم، وشدة حاجتهم، ورؤية النعيم على أهل الكفر لا يجرُّ ذلك إلى التسخط من قضاء الله، والاعتراض على قدره، والقنوط من غناه وفضله ورزقه، فإن هذا اعتقاد فاسد، ويكفي في فساده أنه يقود إلى الظن بأن الله عز وجل يؤيد
(1) ينظر: تيسير الكريم الرحمن ص620. ') ">
(2)
تيسير العزيز الحميد ص 298. ') ">
غير الصادق، ويلبس الحق بالباطل، بل مع هذا الاعتقاد الرديء لا يبقى ثقة في الشريعة (1)، لذا فالواجب هو تمام اليقين والعلم بحكمة الله سبحانه وتعالى البالغة، وكمال عدله، وتمام فضله ومنته، قال ابن عقيل رحمه الله: " إذا تأمل المتدين أفعال الخلق في مقابلة إنعام الحق استكثر لهم شم الهواء، واستقل لهم من الله سبحانه أكثر البلاء، إذا رأى هذه الدار المزخرفة بأنواع الزخاريف المعدة لجميع التصاريف، واصطباغًا وأشربة وأدوية وأقواتًا وإدامًا وفاكهة إلى غير ذلك من العقاقير، ثم إرخاء السحاب بالغيوث في زمن الحاجات، ثم تطييب الأمزجة وإحياء النبات، وخلق هذه الأبنية على أحسن إتقان، وتسخير الرياح والنسيم المعد للأنفاس إلى غير ذلك من النعم، ثم نعمة العقل والذهن، ثم سائر الآيات الدالة على الصانع، ثم إنزال الكتب التي تحث على الطاعات وتردع عن المخالفة، ثم اللطف بالمكلف وإباحة الشرك مع الإكراه، وأمر بالجمعة فضايقوه في ساعة السعي بنفس ما نهى عنه من البيع في أبواب العبادات، وعظّموا كل ما
(1) ينظر: الآداب الشرعية 2/ 196. ') ">
هونه، وارتكبوا كل ما هوّله، حتى استخفوا بحرمة كتابه فأنا أستقل لهم كل محنة " (1). كما أن الله عز وجل أخبرنا في كتابه أن متاع الدنيا زائل، وأن تمتع الكفار فيها قليل، وهو تمتع كتمتع بهيمة الأنعام، وأن عاقبتهم النار فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} قال ابن كثير رحمه الله، في معنى الآية: " لا تنظر إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور فعما قليل يزول هذا كله عنهم ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة، فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجًا وجميع ما هم فيه {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} ، وهذه الآية كقوله تعالى:{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} ، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} ، وقال تعالى:{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} ،
(1) الآداب الشرعية 2/ 196 – 197. ') ">