الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بجملة: {كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} ، لبيان أنهما مشتركان في الجريمة، ولئلا يفهم أن الحدَّ يقع بينهما، وإنما لم يكتف بذكر الزاني، بل ذكر معه الزانية وذلك لئلا يظن ظان أن الحد عليه دون المرأة لأنه الواطئ، فدفع هذا الظن، ولأنه أبلغ في التنفير والزجر، وقدمت الزانية على الزاني لأن الزنى من المرأة أقبح، ولأنها هي الباعثة ولولا تمكينها لم يُزن بها (1)، ثم حث الله تعالى أولي الأمر من المسلمين على تنفيذ هذا الحدّ في الزناة والزواني جلدًا أو رجمًا، وأن يكونوا جادين في تنفيذ العقوبة، حازمين فيها غير متساهلين في إقامة حد الله الذي شرعه، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدود الله، ودين الله شرعه وحكمه، والتصريح به لإفادة أن الرأفة المذكورة رأفة غير محمودة لأنها تعطل أحكامه (2).
ثم قُيِّد هذا بالشرط الذي يفيد التهييج والإلهاب وتحريك حميتهم للجد في الطاعة وإجراء حكم الله في المجرمين، {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، وذكر اليوم الآخر للتخويف بما فيه من العقاب في مقابلة الرأفة (3)، وإنما أمر بحضور جماعة من المؤمنين عند إقامة الحد عليهما، تشهيرًا بهما وزيادة في التنكيل، فإن التشهير
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/ 107). ') ">
(2)
انظر: الكشاف للزمخشري (3/ 209)، التحرير والتنوير (18/ 150). ') ">
(3)
انظر: الكشاف (3/ 209) روح المعاني للآلوسي (18/ 83). ') ">
، لصفحة رقم: 253
قد ينكل أكثر مما ينكل التعذيب، فيكون ذلك رادعًا لهما عن العودة إلى الجريمة، ولتحصل العبرة والموعظة لغيرهما فلا يتجرؤون على ارتكاب الجرائم (1).
فتحصل مما تقدم ما يلي:
- أن من الوسائل الواقية من الوقوع في الفاحشة تطهيرَ الزواني والزناة بإقامة الحد عليهما جلدًا أو رجمًا، لأنه بتطهيرهم يطهر المجتمع المسلم من هذه الجريمة.
- كان هذا الحد صارمًا وبالغ القسوة ليرتدع كل من وقع في هذه الفاحشة، أو أراد الإقدام عليها، إذ هو كفيل بقطع دابر هذه الجريمة وتطهير المجتمع المسلم منها.
- تنفيذ العقوبة في الزناة جلدًا أو رجمًا ينبغي أن يقع بحزم من غير تساهل، وأن يحضره جمع من المؤمنين ردعًا لمرتكبي الفاحشة، وقطعًا لدابرها من نفوس ضعاف الإيمان، وإنما كان إقامة الحد بهذه الصورة المذكورة لما لها من أضرار بالغة على الفرد والجماعة.
(1) انظر: التفسير الكبير للرازي (23/ 149)، التحرير والتنوير (18/ 151). ') ">
الوسيلة الثانية: التطهر باجتناب نكاح الزواني وإنكاح الزناة:
تعد هذه الآية من الآيات المعضلة عند كثير من المفسرين:
قال أبو بكر بن العربي: " هذه الآية من مشكلات القرآن
…
ولهذا أخذ العلماء فيها مآخذ متباينة " اهـ (1).
وقال الشنقيطي: " هذه الآية من أصعب الآيات تحقيقًا " اهـ (2).
وإشكالها يكمن في وجهين:
أولهما: أنها جاءت بصيغة الخبر، قال ابن العربي:" ذلك أن الله أخبر أن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، ونحن نرى أن الزاني ينكح العفيفة، ونرى الزانية ينكحها العفيف، فكيف يوجد خلاف ما أخبر الله به عنه؟ " اهـ (3)(4).
والجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: " أن اللفظ وإن كان عامًّا لكن المراد منه الأعم
(1) أحكام القرآن (3/ 1329)، وابن العربي: أبو بكر محمد بن عبد الله الأندلسي من فقهاء المالكية ومن علماء الأندلس، توفي سنة (543 هـ)، انظر: طبقات المفسرين للسيوطي ص 90، طبقات المفسرين للداودي (2/ 167).
(2)
أضواء البيان (6/ 81)، والشنقيطي: محمد الأمين بن محمد المختار، من علماء شنقيط، قدم السعودية للحج ثم استقر بها، توفي سنه (1393 هـ)، انظر: مشاهير علماء نجد لعبد الرحمن آل الشيخ ص 517، معجم المفسرين لعادل نويهض (2/ 496).
(3)
أحكام القرآن (3/ 1329)، بتصرف يسير.
(4)
أحكام القرآن (3/ 1329)، بتصرف يسير. ') ">
الأغلب، وذلك لأن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والفسق لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة مثله أو في مشركة، وكذا الفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، فهذا على الأعم الأغلب كما يقال لا يفعل الخير إلا الرجل التقي، وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقي فكذا هاهنا " (1).
الوجه الثاني: أن الآية ظاهرها الخبر ومفادها النهي، فإن النهي بصيغة الخبر أبلغ وآكد، فقولهم: يرحمك، أبلغ من ليرحمك (2).
ثانيهما: ظاهر الآية أنه يجوز للمشرك أن يتزوج الزانية المسلمة، وللزاني المسلم أن يتزوج المشركة، وهو بعيد جدًّا لقوله تعالى:{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} .
والجواب عنه:
أن هذا كان في أول الأمر ثم إنه حرم بعد ذلك أن يتزوج المشرك بالزانية المسلمة، والزاني المسلم بالمشركة، قال ابن القيم: " تحرِيم
(1) التفسير الكبير (23/ 150). ') ">
(2)
انظر: الكشاف (3/ 213). ') ">
المسلمات على المشركين إنما نزل بعد صلح الحديبية لا قبل ذلك ". (1)
وقال الآلوسي: " إن نكاح الكافر للمسلمة كان حلالاً قبل الهجرة وبعدها إلى سنة الست وفيها بعد الحديبية نزلت آية التحريم "(2)، وآية التحريم هي قوله تعالى:{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، وقوله تعالى:{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} .
وبعدُ، فإن أقوال المفسرين قد تعددت في مفهوم الآية إلا أن أظهرها أن يقال: إن هذه الآية فيها التنفير من الزنى، وبيان رذيلته، وأنه يدنس عرض صاحبه وعرض من قارنه، وأن من اتصف بالزنى ولم يتب منه رجلاً كان أو امرأة، لا يقدم على نكاحه والتزوج به إلا من كان مثله زانيًا ممارسًا للزنى أو مشركًا لا يراعي أحكام الله وحدوده، وذلك لأن الفاسق الزاني لا يرغب في نكاح الصالحات
(1) زاد المعاد (5/ 124)، وابن القيم: محمد بن أبي بكر الدمشقي، من كبار فقهاء الحنابلة، وأبرز تلاميذ شيخ الإسلام بن تيمية، له مؤلفات عديدة، توفي سنة (691 هـ)، انظر: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب (2/ 245)، طبقات المفسرين للداودي (2/ 93).
(2)
روح المعاني (18/ 87) والآلوسي: محمود بن عبد الله الحسيني، من علماء العراق مفسر محدث، توفي سنة (1270هـ)، انظر: التفسير والمفسرون للذهبي (1/ 352)، الأعلام للزركلي (7/ 176).
العفيفات، وإنما يرغب فيمن مثله، وكذلك الفاسقة. والآية وإن كان ظاهرها الخبر إلا أن مفادها النهي والتحريم (1).
فإن قيل: لم قدمت الزانية في الآية السابقة، وقدم الزاني عليها هنا؟
فقد أجاب الزمخشري بقوله: " سيقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية؛ لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلاً وأولاً في ذلك بدئ بذكرها، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح، والرجل أصل فيه، لأنه هو الراغب والخاطب، ومنه يبدأ الطلب " اهـ (2).
وتأمل كيف كانت هذه الآية سببًا واقيًا من الوقوع في الفاحشة؟ وذلك لأنها تطهِّر المجتمع المسلم من هذه الجريمة المنكرة باجتناب الزناة إن لم يتوبوا، وتحريم الزواج منهم، وعزلهم وإبعادهم فلا يجوز أن يرتبط المؤمن العفيف مع الفاسقة الخبيثة، ولا المؤمنة العفيفة بالفاسق، فتبين أن هذه الآية أشد عقوبة من سابقتها لأن
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/ 112)، إرشاد العقل السليم لأبي السعود (4/ 92)، تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي (ص 561).
(2)
الكشاف (3/ 212)، والزمخشري: محمود بن عمر، برع في اللغة والنحو والبيان، من كبار المعتزلة، توفي عام (538 هـ)، انظر: البداية والنهاية لابن كثير (12/ 235)، طبقات المفسرين للسيوطي (ص 104).