الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس
عدم الاغترار بالكثرة وعدم الزهد في القلة
إن في قول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ، دلالة على أن الأكثر من الناس يضلون عن الحق، وهذا مطابق لما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأن الكثرة هم أهل الضلال والكفر وأن القلة هم أهل الحق والإيمان، وأن الكثرة من الناس إذا قالوا أو فعلوا شيئًا فلا يدل ذلك على أنه هو الحق، فالاحتجاج بذلك وحده ضرب من ضروب الباطل، وهو من صفات المشركين، ومن أمور الجاهلية، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بيان مسائل الجاهلية:" الخامسة: أن من أكبر قواعدهم الاغترار بالأكثر، ويحتجون به على صحة الشيء، ويستدلون على بطلان الشيء بغربته وقلة أهله، فأتاهم بضد ذلك وأوضحه في غير موضع من القرآن "(1)
(1) مسائل الجاهلية، ضمن مجموع رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، (1/ 337).
وهذه بعض الأدلة من القرآن على هذا الأمر العظيم:
1 -
أكثر أهل الأرض يضلون عن سبيل الله قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} ،
وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} . وقال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} .
2 -
أكثر الناس لا يؤمنون: قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} ، وقال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} .
3 -
أكثر الناس كفروا بالحق وكرهوه: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} ، وقال تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} . وقال جل وعلا: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} .
4 -
أكثر الناس لا يشكرون: قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} . وقال جل وعلا في سورة الشعراء بعد ذكر قصص الأنبياء بعد قصة كل نبي: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
وقال تعالى في بيان قلة أهل الإيمان في مقابل أهل الكفر: {قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} ، {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} ، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} .
وحكى الله تعالى قول إبليس: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} ، وقال في سورة الإسراء:{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا} .
وهذا من إبليس قول على سبيل الظن، وقال الله تعالى في سورة سبأ:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
5 -
الكثير من الناس غفلوا عن آيات الله وكفروا بلقائه: قال الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} ، وقال تعالى:
وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى فهي كثيرة، ومنها:
1 -
الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان وقوع الافتراق في هذه الأمة: وفيه «فإن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قال: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي» (1).
2 -
حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا: قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور،
(1) أخرجه الترمذي في الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة (5/ 6). وابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص 85)، والحاكم في مستدركه (1/ 128)، وأصل الحديث جاء عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، منهم معاوية، وأبو هريرة، وأنس، رضي الله عنهم. وانظر: تخريج الإحياء للعراقي (3/ 199)، تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (1/ 447)، والسلسلة الصحيحة للألباني (1/ 358) رقم (204).
فإن كل بدعة ضلالة» (1)
قال ابن رجب رحمه الله: " وقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن يعش منكم بعدي، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ» (2). هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بما وقع في أمته بعده من كثرة الاختلاف في أصول الدين وفروعه، وفي الأقوال والأعمال والاعتقادات، وهذا موافقٌ لما روي عنه من افتراق أمته على بضع وسبعين فرقة، وأنها كلها في النار إلا فرقة واحدة، وهي من كان على ما هو عليه وأصحابه، وكذلك في هذا الحديث: أَمَرَ عند الافتراق والاختلاف بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، والسنة: هي الطريقة المسلوكة، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة، ولهذا كان السلف قديمًا لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله "(3)(4)
3 -
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في قُبَّة، فقال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم. قال:
(1) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، ورواه أيضًا أحمد 4/ 126 - 127، والدارمي 1/ 44، وابن ماجه (43) و (44).
(2)
سنن الترمذي العلم (2676)، سنن أبو داود السنة (4607)، سنن ابن ماجه المقدمة (44)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 126)، سنن الدارمي المقدمة (95).
(3)
شرح جامع العلوم والحكم، 120.
(4)
شرح جامع العلوم والحكم، 120. ') ">
أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر» (1).
4 -
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من يدعى يوم القيامة آدم فتراءى ذريته فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بَعْثَ جهنم من ذريتك، فيقول: يا رب، كم أُخرِجُ؟ فيقول: أخرج من كل مائةٍ تسعةً وتسعين. فقالوا: يا رسول الله، إذا أُخذ منَّا من كل مائة تسعة وتسعون، فماذا يبقى منا؟ قال: إن أمتي في الأمم هم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود» (2).
5 -
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إن مَثَلَكُمْ في الأمم كمَثَل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرَّقمة في ذراع الحمار» (3).
(1) أخرجه البخاري في الرقاق، باب الحشر: رقم (6528)، ومسلم في الإيمان، باب بيان كون هذه الأمة نصف أهل الجنة، رقم (221).
(2)
أخرجه البخاري في الرقاق، باب الحشر: رقم (6529).
(3)
أخرجه البخاري في الرقاق، باب الحشر: رقم (6530)، ومسلم في الإيمان، باب قوله يقول الله لآدم أخرج بعث النار. . رقم (222).
وهذه الأحاديث الصحيحة تدل على قلة أهل الحق، وكثرة أهل الباطل.
6 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «عُرضَت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرَّهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد» (1).
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب تعليقًا على هذا الحديث في المسائل: " الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة ".
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في شرحه لكتاب التوحيد: " الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة. . إلخ: فإنَّ الكثرة قد تكون ضلالاً، قال الله تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، وأيضًا الكثرة من جهة أخرى إذا اغترَّ الإنسان بكثرته وظنَّ أنه لن يغلب أو أنه مصور؛ فهذا أيضًا سبب للخذلان؛ فالكثرة إن نظرنا إلى أن أكثر أهل الأرض ضلال لا تغتر بهم، فلا تقل: إنَّ الناس على هذا، كيف أنفرد عنهم؟
(1) رواه البخاري، في الرقاق، باب: يدخل الجنة سبعون ألفًا رقم (6541) وفي مواضع أخرى، ومسلم في الإيمان باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب، رقم (220).