الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
التحذير من القنوط من رحمة الله في القرآن الكريم والسنة النبوية
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التحذير من القنوط من رحمة الله في القرآن الكريم:
حذّر القرآن الكريم من القنوط بصور متعددة وأساليب متنوعة، وذلك من أجل بعث الأمل والرجاء وبث روح الأمل والتفاؤل عند من يحصل له أي نوع من أنواع اليأس والقنوط، ومن تلك الصور والأساليب التي جاءت في القرآن الكريم محذرة من القنوط ما يلي:
1.
نهيُ العبادِ جميعًا عن القنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، قال ابن عطية رحمه الله [ت 546 هـ]:" هذه الآية عامة في جميع الناس إلى يوم القيامة في كافر ومؤمن أي: إن توبة الكافر تمحو ذنوبه، وتوبة العاصي تمحو ذنبه "(1)(2) وقال ابن كثير رحمه الله [ت 774 هـ]: " هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة وإخبار بأن الله
(1) المحرر الوجيز 4/ 536.
(2)
المحرر الوجيز 4/ 536. ') ">
- تبارك وتعالى – يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه " (1) وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية (2) فقيل: نزلت في وحشي قاتل حمزة [ت 3 هـ] رضي الله عنه لما أراد أن يسلم وخاف أن لا يغفر له ما وقع فيه من قتل حمزة رضي الله عنه، وقيل: نزلت في قوم آمنوا ولم يهاجروا ففتنوا فافتتنوا ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم، وقيل: نزلت في قوم من أهل الجاهلية قالوا: ما ينفعنا الإسلام لأننا قد زنينا وقتلنا النفوس فنزلت الآية فيهم، وأيًّا كان سبب نزولها فإن العبرة إنما هي بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال الشوكاني [ت 1250 هـ]: " هب أنها في هؤلاء القوم، فكان ماذا؟، فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم لا بخصوص السبب كما هو متفق عليه بين أهل العلم، ولو كانت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية مقيدة بأسبابها غير متجاوزة لها لارتفعت أكثر التكاليف عن الأمة إن لم ترتفع كلها، واللازم
(1) تفسير القرآن العظيم 4/ 59. ') ">
(2)
ينظر: أسباب النزول للواحدي ص 276 – 277. ') ">
باطل بالإجماع، فالملزوم مثله " (1) وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}» (2) كما نقل عن علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما أن هذه أرجى آية في كتاب الله (3) وقد اشتملت هذه الآية على معان عظيمة في الرجاء، والنظر إلى سعة رحمة الله تعالى وذكر بعض المفسرين في الآية سبعة عشر أمرًا كلها تؤكد سعة رحمة الله سبحانه وتعالى، وعظيم فضله وإنعامه، وتلك المؤكدات هي (4):
- الأول: نداؤهم بعنوان العبودية فإنها تقتضي المذلة، واقتضاؤها للترحم ظاهر.
- الثاني: الاختصاص الذي تشعر به الإضافة إلى ضميره – تعالى – فإن السيد من شأنه أن يرحم عبده ويشفق عليه.
- الثالث: تخصيص ضرر الإسراف المشعر به {عَلَى أَنْفُسِهِمْ} فكأنه قيل: ضرر الذنوب عائد عليهم لا علي،
(1) فتح القدير 4/ 470. ') ">
(2)
رواه الطبراني في الأوسط 1/ 62، وفي سنده ابن لهيعة وقد تُكلم في حفظه.
(3)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن 20/ 96، والتسهيل لعلوم التنزيل 3/ 197. ') ">
(4)
ينظر: روح المعاني 24/ 14. ') ">
فيكفي ذلك من غير ضرر آخر.
- الرابع: النهي عن القنوط مطلقًا عن الرحمة، فضلاً عن المغفرة وإطلاقها.
- الخامس: إضافة الرحمة إلى الاسم الجليل المحتوي على جميع معاني الأسماء على طريق الالتفات فإن ذلك ظاهر في سعتها.
- السادس: التعليل بقوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ} إلخ فإن التعليل يحسن مع الاستبعاد وترك القنوط من الرحمة.
- السابع: وضع الاسم الجليل فيه موضع الضمير لإشعاره بأن المغفرة من مقتضيات ذاته.
- الثامن: تعريف الذنوب فإنه في مقام التمدح ظاهر في الاستغراق.
- التاسع: التأكيد بالجميع.
- العاشر: التعليل بأنه {هُوَ}
…
إلخ.
- الحادي عشر: التعبير بالغفور فإنه صيغة مبالغة.
- الثاني عشر: حذف معمول {الْغَفُورُ} فإن حذف المعمول يفيد العموم.
- الثالث عشر: إفادة الجملة الحصر فإن من المعلوم أن الغفران قد يوصف به غيره – تعالى -، فالمحصور فيه
- سبحانه – إنما هو الكامل العظيم.
- الرابع عشر: المبالغة في ذلك الحصر.
- الخامس عشر: الوعد بالرحمة بعد المغفرة فإنه مشعر بأن العبد غير مستحق للمغفرة لولا رحمته.
- السادس عشر: التعبير بصيغة المبالغة فيها.
- السابع عشر: إطلاقها.
1.
وصْفُ القانطين بالضلال حيث قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} فلا ييأس من رحمة الله إلا القوم الذين قد أخطؤوا سبيل الصواب وتركوا قصد السبيل في تركهم رجاء الله لأنهم لا علم لهم بربهم، وكمال اقتداره فضلّوا بذلك عن دين الله، وأما من أنعم الله عليه بالهداية والعلم العظيم، فلا سبيل للقنوط إليه؛ لأنه يعرف من كثرة الأسباب والوسائل والطرق لرحمة الله شيئًا كثيرًا (1).
2.
بيان أن القنوط إنما يصيب أهل الغفلة عن نعم الله وآلائه، المعرضين عن تذكر منن الله على عباده كما قال تعالى:{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} ،
(1) ينظر: جامع البيان 14/ 20، تيسير الكريم الرحمن 1/ 432. ') ">
فأهل القنوط هم من إذا أصابهم خصب ورخاء وعافية في الأبدان والأموال فرحوا بذلك، وإن تصبهم شدة من جدب وقحط وبلاء في الأموال والأبدان بما قدمت أيديهم، وبما أسلفوا من سيئ الأعمال بينهم وبين الله، وركبوا من المعاصي إذا هم ييأسون من الفرج (1).
3.
القنوط حالة من الحالات التي تعتري الكفار ومن سلك مسلكهم الذين يريدون استمرار الخير لهم، وعدم انقطاعه عنهم فهم يطلبون الصحة والمال والسلطان والعزة والسعة في النعمة وأسباب المعيشة، وإن تغيّرت حالتهم من السعة إلى الضيق، ومن اليسر إلى العسر، ومن الغنى إلى الفقر أصابهم اليأس والقنوط، وهذه الحالة هي المذكورة في قوله تعالى:{لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} ، ففي هذين الوصفين مبالغة من جهة البناء، ومن جهة التكرير، ومن جهة أن القنوط عبارة عن يأس مفرط يظهر أثره في الشخص فيتضاءل وينكسر، أي: مبالغ في قطع الرجاء من فضل الله وهذا وصف للجنس
(1) ينظر: جامع البيان 21/ 44. ') ">