الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
وبعد، فهذا هو الجزء الخامس من كتاب مفرج الكروب لابن واصل، نتشرف بتقديمه اليوم للباحثين والمشتغلين في حقل تاريخ الشرق الأدنى في العصور الوسطى، وذلك بعد أن أتم تحقيقه الدكتور حسنين محمد ربيع.
ويعالج المؤرخ ابن واصل في هذا الجزء الفترة الزمنية الواقعة بين سنتى 629 هـ، 645 هـ، وهى فترة مليئة بالأحداث المحلية، تشابكت فيها العلاقات بين أبناء البيت الأيوبى في المنطقة من ناحية، وتداخلت مع القوى الأخرى المجاورة من ناحية أخرى. وحسب هذه الحلقة في تاريخ الشرق الأدنى أنها شهدت الإحساس بتزايد خطر التتار يوما بعد يوم، وتطرق الخوارزمية إلى قلب الوطن العربى، في الوقت الذى دخلت العلاقات بين أمراء بنى أيوب وسلاجقة الروم دورا عاصفا في أطراف بلاد الشام والجزيرة. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الكيان الصليبى كان لا يزال قائما في بلاد الشام يؤثر في الأحداث الدائرة في المنطقة وفى سياسة الحكام والأمراء من بنى أيوب بوجه خاص، أدركنا مدى أهمية هذه الفترة التي تعرض لعلاجها ابن واصل في هذا الجزء الخامس من كتابه مفرج الكروب.
وإذا كان ابن واصل قد استهدف من كتابه مفرج الكروب أن يكون قبل أي اعتبار آخر سجلا لأخبار بنى أيوب؛ فإننا نلمس في هذا الجزء عنايته الخاصة باستقصاء وتسجيل أخبار المعاصرين من أمراء الأيوبيين، وما كان بينهم وبين بعض من صلات وروابط تفاوتت بين الزواج والمصاهرة والتحالف والمودة حينا وبين الخلاف والوحشة والعداء والحرب أحيانا. والحق إن ابن واصل نجح في أن يجعل كتابه مفرج الكروب المصدر الأول لأخبار بنى أيوب في تلك الفترة القلقة من تاريخ الشرق الأدنى، وهو المصدر الذى اعتمد عليه ونقل منه معظم من أرخوا لتلك الحلقة من تاريخ الشرق الأدنى من المؤرخين اللاحقين. وساعد ابن واصل فيما حققه من نجاح الصلات القوية التي ربطته بكثير من أمراء البيت الأيوبى، حتى أن بعضهم - كما يقول ابن واصل نفسه في حوادث سنة 634 هـ - كان"يؤثر كثيرا مقامى عنده". وقد أدى ذلك إلى اختيار ابن واصل عضوا في بعض السفارات مثل السفارة التي أرسلها المظفر الأيوبى صاحب حماة إلى الخليفة المستعصم بالله العباسى، والتي أشار إليها ابن واصل في أحداث سنة 641 هـ.
وإذا ذكرنا أن هذا الجزء الخامس يعالج أخبار الفترة الواقعة بين سنتى 629 هـ، 645 هـ، فإنه علينا أن نشير إلى أن هذه الفترة تمثل مرحلة الشباب والطموح والوعى في حياة ابن واصل، إذ تراوح عمره فيها بين الخامسة والعشرين والحادية والأربعين، مما أهله لأن يكون جليسا للرجال، صديقا للكبار، ندا لأرباب المسئولية. وهكذا نراه يشير إلى أن بعض الأحداث التي رواها في هذا الجزء شاهدها بنفسه، والبعض الآخر استقاه من كبار الملوك والأمراء وصانعى التاريخ الذين جالسهم في ذلك الدور مثل السلطان الملك المنصور ابراهيم صاحب
حمص؛ في حين استمد بعض معلوماته مما حكاه له مباشرة رجال مسئولون ممن يحتلون مكانة خاصة في العصر الأيوبى مثل كاتب الإنشاء بهاء الدين زهير والأمير حسام الدين أبى على الهذبانى. هذا فضلا عن كبار القضاة والعلماء المعاصرين الذين جالسهم ابن واصل ورووا له كثيرا من الأحداث مثل القاضى شهاب الدين ابن أبى الدم الحموى والقاضى كمال الدين بن العديم.
وهكذا تهيأت لابن واصل في تلك المرحلة كافة أسباب النجاح لكتابة تاريخ محكم البنيان صادق الرواية، جمع بين الدقة في رواية أحداث الفترة التي تعرض لها بالعلاج، وبين العناية بذكر الكثير عن مشاهير المعاصرين من سلاطين وملوك وأمراء وعلماء وشعراء وغيرهم.
أما عن الخطة التي اتبعها المحقق الدكتور حسنين محمد ربيع في تحقيق هذا الجزء فهى تتفق مع الإطار العام الذى رسمناه معا لإتمام كتاب مفرج الكروب والذى يسير في نفس الاتجاه الذى سبق أن حدده المرحوم الأستاذ الدكتور جمال الدين الشيال، محقق الأجزاء الثلاثة الأولى من هذا الكتاب. هذا مع ملاحظة أن تحقيق الجزء الرابع الذى ينتهى بسنة 628 هـ، اعتمد في المقام الأول على كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير، وهو المصدر الذى استقى منه ابن واصل وأخذ عنه الكثير، حيث أن ابن واصل لم يع أحداث ذلك الدور. وقد اخترنا أن ننهى الجزء الرابع من كتاب مفرج الكروب بحوادث سنة 628 هـ وهى نفس السنة التي انتهى بها كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير.
أما الجزء الخامس من كتاب مفرج الكروب، وهو الجزء الذى نقدمه اليوم للباحثين، فإن ابن واصل اعتمد فيما سرده فيه من معلومات على ما شاهده بنفسه
وما سمعه من الثقات، كما سبق أن أشرنا. وبعبارة أخرى فإنه لم يعتمد فيما كتبه اعتبارا من سنة 629 هـ على كتاب بعينه ينقل عنه بقدر ما اعتمد على بصره وسمعه وحسه.
وفى الفترة بين سنتى 629 هـ، 635 هـ اتخذ المحقق نسخة مللا جلبى أصلا للتحقيق، ورمز لها بحرف [م]، مع مقابلتها بنسخة باريس رقم 1702 التي رمز لها في التحقيق بحرف [س]. ولما كانت نسخة مللا جلبى تنتهى وسط حوادث سنة 635 هـ، فإن المحقق في تحقيقه بقية الجزء الخامس اتخذ نسخة باريس رقم 1703 أصلا للنشر ورمز إليها بحرف [ب] مع مقابلتها بنسخة باريس رقم 1702 التي احتفظت لنفسها برمز [س].
…
وأخيرا، فلعلنا لسنا في حاجة إلى الإشارة إلى الجهد الكبير الذى بذله الدكتور حسنين محمد ربيع في تحقيق هذا الجزء. فكل صفحة بل كل سطر في هذا المجلد هو في حقيقة أمره ثمرة ساعات طويلة متصلة قضاها الدكتور حسنين ربيع في عمل شاق في مركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية. ولا يسعنى سوى أن أهنأه على هذا العمل من ناحية، ثم أدعو له بمزيد من الصبر والمثابرة حتى يتم إنجاز الجزء السادس والأخير من كتاب مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب لابن واصل، وبذلك نكون قد أتممنا صرحا آخر في حركة إحياء تراثنا العربى.
رمضان 1395 هـ دكتور سعيد عبد الفتاح عاشور
سبتمبر 1975 م أستاذ تاريخ العصور الوسطى
كلية الآداب - جامعة القاهرة