الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين [أيوب (1)]. ثم اتفقوا (2) معه على أن سلمها إليهم، وأبقوا بيده حصن كيفا وقلعة الهيثم.
ولم يزل ذلك بيده إلى أن مات أبوه، وتوجه إلى الديار المصرية وملكها.
فترك بحصن كيفا ولده الموحد عبد الله. وجرى للملك المعظم بالديار المصرية ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
والملك الموحد باق إلى الآن مستول على حصن كيفا تحت حكم التتر، وله عدة أولاد على ما بلغنى. وكان عمره لما مضى إلى مصر والده وتركه بحصن كيفا، على ما حكاه لى الملك المعظم رحمه الله ونحن في خدمته بالمنصورة، نحو عشر سنين. وأقامت الخوارزمية ببلد الخليفة إلى أن خرجت هذه السنة.
ذكر ما آل إليه أمر الملك الجواد مظفر الدين يونس بن الملك العادل رحمه الله
(3)
قد ذكرنا (4) أن الملك الجواد بعد أن ملك سنجار أخذها منه بدر الدين صاحب الموصل، وأنه باع عانة للخليفة المستنصر بالله، وأنه انضم إلى الخوارزمية بعد ذلك، وحضر معهم حربهم التي كسروا فيها عسكر حلب. ثم إنه بعد ذلك مضى في البرية إلى غزة، وأرسل إلى ابن عمه الملك الصالح صاحب مصر يطلب
(1) ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(2)
اعتمدنا في تحقيق الصفحات التالية على نسخة ب وحدها لضياع هذه الصفحات من نسخة س، وقد قورنت هذه الصفحات بما ورد في المصادر التاريخية المعاصرة المعروفة خاصة كتاب زبدة الحلب لابن العديم الذى اعتمد عليه ابن واصل كثيرا، انظر مايلى ص 353.
(3)
انظر ترجمته في الكتبى: فوات الوفيات، ج 2 ص 643.
(4)
انظر ما سبق، ص 281.
المصير إلى خدمته، فلم يأذن له خوفا أن يفسد عليه عسكره، فأقام في الساحل متلددا (1) متحيرا. وآخر أمره أنه مضى إلى عكا، فأقام بها عند الفرنج، فكتب عمه الملك الصالح عماد الدين [إسماعيل صاحب دمشق (2)] وطلبه منهم فبعثوه إليه، فتسلمه منهم واعتقله، فكان آخر العهد به. وقد ذكر أنه بعث إليه من خنقه، والله أعلم.
وكان الملك الجواد جوادا شجاعا ذاهمة عالية إلا أنه كان فاسد التدبير ضعيف الرأى، لو أقام بدمشق ولم يسلمها للملك الصالح لم يقصده لا الملك الصالح ولا أخوه الملك العادل، لأن كلا منهما كان خائفا [34 ب] من الآخر. وكانت عنده عسكر جيده، وبيده مملكة واسعة، فكان مشى أمره بين ملكين مختلفين، أي منهما مال معه ترجح به على الآخر، لكن سوء الحظ أدركه.
وفى هذه السنة أعنى سنة ثمان وثلاثين وستمائة، سافر القاضى بدر الدين يوسف بن الحسن الزرزارى المعروف بقاضى سنجار، من حماه إلى الديار المصرية على الساحل (3). فلما وصل إلى مصر أكرمه الملك الصالح نجم الدين غاية الإكرام، وجازاه على يده عنده وهو ما تقدم ذكره من الإصلاح بينه وبين الخوارزمية والقدوم بهم عليه وهو محصور بسنجار. وقد كاد بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل أن يملكها ويقبض عليه، حتى كسروا بدر الدين، ونهبوا أثقاله وبددوا جموعه.
وانفرج عن الملك الصالح الحصار.
(1) تلدّد بمعنى تلفت يمينا وشمالا وتحير متبلدا، انظر ابن منظور لسان العرب، ج 4، ص 395.
(2)
ما بين الحاصرتين للتوضيح من أبى الفدا، المختصر، ج 3، ص 169.
(3)
نقل ابن أيبك الدوادارى عن ابن واصل هذا الحادث مع بعض التعديل والتغيير بادئا: «قال ابن واصل: وفيها قدم القاضى بدر الدين يوسف بن الحسن. . .» انظر الدر المطلوب، ص 345؛ وعن قدوم قاضى سنجار إلى مصر انظر أيضا، المقريزى، السلوك، ج 1، ص 307.
وكان القضاء بالديار المصرية كلها للقاضى شرف الدين المعروف بابن عين الدولة الإسكندرى (1). فعزل الملك الصالح شرف الدين عن مصر والوجه القبلى، وفوض قضاء ذلك إلى بدر الدين، وبقى شرف الدين قاضيا بالقاهرة والوجه البحرى.
وكان شرف الدين هذا قد طالت مدته في القضاء من أيام السلطان الملك الكامل وإلى هذه الغاية. وكان فاضلا في الفقه والأدب وعلم الشروط، عفيفا حزما، عديد الأحكام. وكان يحفظ شيئا كثيرا من الشعر والأدب. ونقل المصريون عنه شيئا كثيرا من النوادر التي يسمونها الزائد في اصطلاحهم.
وكان يقولها مع ناموس عظيم وسكينة.
فمما نقل عنه من ذلك أنه قال له يوما بعض العدول، والقاضى في بيت قليل الهواء كثير البق، وهم يسمون البق الناموس:«ما أقل الهواء في هذا البيت، وأكثر الناموس فيه» . فقال: «هكذا ينبغى أن تكون مجالس القضاة (2)» . وذكر أنه دخلت إليه امرأة محاكمة، فقال لها:«ما اسمك؟» ، فقالت:«ست من يراها» ، فوضع كمه على عينيه. ونقلوا عنه من هذا شيئا كثيرا.
(1) ذكر النويرى (نهاية الأرب، ج 27 ورقة 72 - 76) معلومات هامة عن قاضى القضاة شرف الدين بن عين الدولة وعن مكاتباته وأمثلة لها وأخباره وأوصافه. وذكر النويرى أيضا أن قاضى القضاة في ذلك الوقت كان «لا يستقل بعزل نائب من نوابه بالاعمال وإن صغرت جهة ولايته إلا بعد مراجعة السلطان واستئذانه» . كما ذكر أيضا أنه «كان جوادا كريما زاهدا لا يدخر شيئا ولا يملك إلا سجادة خضراء من الصوف وسجادة من آدم ومشطا وسبحة ومقراضا وعودا من أراك، وليس له إلا بدلة واحدة فاذا تغيرت غسلت له ليلا وبغلة واحدة. . . ما ملك عقارا ولا وجبت عليه زكاة في عمره، وكان مضبوط المجلس لا يشار أحدا في مجلسه ولا يضحك فيه. . .» .]
(2)
في ابن أيبك (الدر المطلوب، ص 345) الذى نقل عن ابن واصل «مجالس الحكام» .
وحكى لى الفقيه مخلص الدين بن الكنانى وكيل بيت المال (1) بمصر [35 ا]، رحمه الله، قال: كان القاضى شرف الدين ينشد، وكان قد بلغ ثمانين سنة:
إن الثمانين وبلّغتها
…
ما أحوجت سمعى إلى ترجمان
والرواية إنما هى: «قد أحوجت» ، وإنما قال ما أحوجت لئلا يعزل بالطرش (2). وهو قادح (3) في ولاية الحكم عند بعض العلماء. وأنشدنى مخلص الدين هذا، قال: أنشدنى القاضى شرف الدين رحمه الله لنفسه:
وليت القضاء وليت القضا
…
ء لم يك (4) شيئا توليته
فأوقعنى في القضاء القضا (5)
…
وما كنت قدما تمنيته
(1) لم تذكر المصادر المتداولة معلومات وافية عن وظيفة وكيل بيت المال رغم ذكرها ضمن وظائف العصر الأيوبى التي استمرت طيلة العصر المملوكى. وكان وكيل بيت المال، الذى لا يقل أهمية عن ناظر بيت المال، مسئولا عن بيع الممتلكات التابعة لبيت المال، انظر العمرى، التعريف بالمصطلح الشريف، ص 132 - 134
Rabie، The Financial System of Egypt، P. 148.
(2)
السلامة في السمع والبصر من شروط تقليد منصب القضاء «لكى يعرف القاضى المدعى من المنكر ولا يتحصل هذا للضرير والأطروش» ، انظر: أبو يعلى الفراء، الأحكام السلطانية، (ط القاهرة 1938) ص 44 - 45؛ الماوردى، الأحكام السلطانية (ط القاهرة 1966)، ص 66.
(3)
قدح فيه بمعنى طعن، انظر الفيروز آبادى، القاموس المحيط؛ الزبيدى، تاج العروس، مادة قدح.
(4)
في المتن وابن أيبك (الدر المطلوب ص 345)«يكن» وعليه يختل الوزن والصيغة الصحيحة المثبتة من النويرى، نهاية الأرب، ج 27 ق 75.
(5)
في النويرى (نهاية الأرب، ج 27 ق 75) رواية أخرى «وقد قادنى للقضاء القضا» وهى صحيحة.