الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر وفاة الخليفة المستنصر بالله أمير المؤمنين
رحمه الله
وفى هذه السنة توفى الخليفة المستنصر بالله أبو جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله أبى نصر أحمد بن الناصر لدين الله أبى العباس أحمد. وتمام النسب إلى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تقدم ذكره، وذلك بكرة يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة من هذه السنة، أعنى سنة أربعين وستمائة.
وقد ذكرنا أنه ولى الخلافة لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة (1)، فكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة إلا شهرا واحدا. وكان سبب موته [40 ا] على ما حكاه لى وجيه الدين بن سويد التكريتى، وكان خبيرا بأحوالهم، أنه فصد بمبضع مسموم، وقد تقدم ذكر ذلك، فإن صح هذا كانت القاعدة التي اتفقت، أن كل سادس من بنى العباس يخلع أو يقتل، غير منتقضة (2).
ذكر سيرته رحمه (3) الله
كانت سيرته رحمه الله من أحسن السير في العدل، والإحسان إلى الرعية والعطف عليهم، والحنوبهم. وكان سالكا في ذلك كله سيرة أبيه الإمام الظاهر بأمر الله، وكذلك سلك مسلكه في اعتقاد مذهب أهل السنة والجماعة، والكراهية
(1) انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 196.
(2)
انظر ما سبق، ابن واصل، ج 4، ص 162
(3)
انظر أيضا، سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ص 489؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 311 - 312؛ الذهبى، شذرات الذهب، ج 5، ص 209؛ ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 345 - 346.
لمذهب الروافض، ومخالفا في كل ما ذكرنا لطريقة جده الناصر لدين الله (1). وسلك ولده المستعصم بالله في اتباع مذهب أهل السنة مسلكه، لكن لم يسلك مسلكه في حسن التدبير والنظر في مصالح المملكة.
وعمرت البلاد في أيام المستنصر بالله رحمه الله عمارة عظيمة. وأثر فيها الآثار الجميلة الحسنة؛ من ذلك أنه بنى على شط دجلة من الجانب الشرقى مما يلى دار الخلافة (2)، مدرسة سميت المستنصرية (3). لم يبن على وجه الأرض مدرسة أحسن منها، ولا أكثر وقفا. وجعل فيها أربعة مدرسين على المذاهب الأربعة، كل مدرس منهم له سدة عالية، ومسند يستند إليه. ورتب في المدرسة دار كتب، فيها من الكتب النفيسة في سائر أنواع العلوم شيئا كثيرا جدا. وجعلها برسم من يطالع ويستنسخ من الفقهاء. ورتب فيها الورق والأقلام لمن يريد النسخ.
ورتب بيمارستانا للمدرسة، للمرضى فيه جميع صنوف الأدوية والعقاقير والأشربة. ورتب به من الأطباء من يقوم بمعالجة الفقهاء، ويصرف إليهم مما في البيمارستان ما يشير الأطباء باستعماله من الأشربة والأدوية والسكر والفراريج وغير ذلك.
ورتب أيضا في المدرسة مطبخا للفقهاء يطبخ فيه الطعام [ق 40 ب] ويحمل إلى كل منهم كفايته منه، ومن الخبز الجيد. ورتب ما يشترى به الحصر لبيوت
(1) انظر ما سبق، ابن واصل، مفرج الكروب، ج 4، ص 166.
(2)
عن طوبغرافية بغداد، انظر:
Lassner، J، The Topography of Baghdad in the early Middle ages، (Detroit، 1970).
(3)
ذكر سبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8، ص 489) عن هذه المدرسة، «وليس في الدنيا مثل هذه المدرسة ولا بنى مثلها في سالف الأعوام فهمى بالعراق كجا مع دمشق وقبة الصخرة بالشام» ، انظر أيضا، العينى، عقد الجمان، حوادث 564 هـ؛ أبو الفدا، المختصر ج 3، ص 171.
الفقهاء، والسرج والزيت. ورتب مزملة (1) يبرد فيها الماء في الصيف لهم، وجعل لكل فقيه مع هذه الرواتب كلها دينارا إماميا في كل شهر. ورتب للمدرسين والمعيدين ما يليق بهم من الرواتب. ورتب حماما يدخلون إليها متى احتاجوا، وفيها من يقوم بخدمتهم. وهذا لم يعمل مثله أحد من الخلفاء الماضين ولا الملوك المتقدمين.
ولهذه المدرسة طاقات مطلة على دجلة يشاهدون فيه المراكب المقلعة والمنحدرة.
وأعظم مدرسة كانت ببغداد المدرسة النظامية المنسوبة إلى نظام الملك وزير السلطانين ألب أرسلان وولده ملكشاه، ولا نسبة لها إلى هذه المدرسة، لا في الصورة، ولا في المعلوم، ولا في الحسن والنزاهة. وللخليفة منظرة (2) مطلة على هذه المدرسة، يرى الفقهاء منها إذا حضروا، ويسمع مناظراتهم ولا يرونه.
ورتب في جامع القصر، وهو الجامع الذى يصلى فيه الخليفة أربع دكك برسم مدرسى المدرسة المستنصرية، وفقهائهم يصلون على هذه الدكك. وفقهاء كل طائفة على دكة منها. وهذه الدكك كلها عن يمين المنبر. وكانت العادة إذا فرغت الصلاة أن يجلسوا للمناظرة، وذكر مسائل الخلاف والبحث فيها. ومن أراد من الفقهاء مدح الخليفة بقصيدة قام وأنشدها قبل ذكر المسألة.
وكانت له رحمه الله صلات وصدقات إلى من يرد من العلماء والزهاد والأدباء وسائر الطبقات. واستخدم عساكر عظيمة لم يستخدم مثلها أبوه وجده.
وكانت عدتهم، على ما بلغنى، يزيد على مائة ألف. وكان ذا همة عالية وشجاعة وافرة، وإقدام عظيم.
(1) هى جرة في وسطها ثقب مركب فيه قصبة من الفضة أو الرصاص يشرب منها، سميت مزملة لأنها تلف بشىء من الخيش أو غيره ويجعل بينه وبين خزفها التين ليبقى الماء باردا، انظر: محيط المحيط.
(2)
في المخطوطة «منظر» .
وقصدت التتر بلاد العراق، فلقيهم عسكره، وانتصف منهم وهزمهم.
وكان له أخ يعرف بالخفاجى كان يزيد عليه في الشهامة والشجاعة. [41 ا] وبلغنى أنه كان يقول: «إن ملكنى الله تعالى أمر الأمة، لأعبرن بالعساكر نهر جيحون، وانتزع البلاد من أيدى التتر، واستأصلهم قتلا وسبيا» . فلما توفى المستنصر بالله، لم ير الدوادار (1) والشرابى (2) - وكانا غالبين على الأمر - تقليده الخلافة خوفا منه، وآثروا أن يليها أبو أحمد عبد الله بن المستنصر لما يعلمونه من لينه وانقياده، وضعف رأيه، ليكون الأمر كله إليهما، ويستبدا به لما يريده الله تعالى ويقدره، لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه.
ولما بلغت الملك الناصر داود، صاحب الكرك، وفاة الخليفة المستنصر بالله، رثاه ومدح ولده المستعصم بالله بقصيدة مطلعها:
أيا رنّة الناعى عبثت بمسمعى
…
فأجّجت نار الحزن ما بين أضلعى
وأخرست منى مقولا ذا براعة
…
يصوغ أفانين القريض الموشّع
نعيت إلىّ البأس والجود (3) والحجى
…
فأوقفت آمالى وأجريت أدمعى
(1) الدوادار: كلمة مركبة من لفظين أحدهما عربى وهو الدواة والثانى فارسى وهو دار ومعناه ممسك الدواة، والوظيفة اسمها الدوادارية وصاحبها كما يذكر القلقشندى (صبح الأعشى، ج 5، ص 462) هو الذى كان «يحمل دواة السلطان أو الأمير أو غيرهما، ويتولى أمرها مع ما ينضم إلى ذلك من الأمور اللازمة لهذا المعنى من حكم وتنقيذ أمور وغير ذلك بحسب ما يقتضيه الحال» .
(2)
الشرابى هو الذى كان يصنع الأشربة والأدوية، وكان أحد رجال الشراب خاناة، ويقابل ذلك في مصطلح دولة المماليك كلمة الساقى، انظر: المقريزى، السلوك، ج 1، ص 458 حاشية 3؛ انظر أيضا القلقشندى، صبح الأعشى، ج 4 ص 10، ج 5 ص 469؛ Dozy، Supp. Dict. Ar.
(3)
في العينى (عقد الجمان، حوادث 640 هـ) الذى يبدو أنه نقل عن ابن واصل هذه الأبيات: «الجود والبأس» .
رويدا فقد فاجأتنى (1) بفظيعة
…
يضيق بها صدر الفضاء الموسّع
أبا جعفر يا بانى المجد بعد ما
…
تهدّم ركن المجد من كل موضع
ويا كافل الإسلام في كل موطن
…
وراعى رعاة الدين في كل مجمع
ومن كنت أرجو أننى في زمانه
…
أبادر أيام الزمان المضيّع
فاستدرك الماضى بفضل تضرّع
…
واستقبل الآتى بدرع تورّع
أحقا طوتك الحادثات كما طوت
…
قرونا مضت من عهد كسرى وتبّع
وغالك ريب الدهر والدهر جائر
…
إذا صال لا يبقى وإن جال لا يعى
فأيأس آمالا تدانى غناؤها
…
فراحت بفقر من رجائك مدقع
دعا باسمك الناعى على حين غفلة
…
فأصمى سويداء الفؤاد المصدّع (2)
فقلت - وإنى في الفصاحة قسّها (3)
…
مقالة مسلوب الروية ألكع:
أيا دهر قد آمنتنى كل خيفة
…
فلست بميت بعده بمفجّع
فغل كلّ مأمور وكلّ مؤمّر
…
وخذ بعده يادهر من شئت أو دع
ولو كان خطب الموت يقبل فدية
…
ويدفعه سعى الكمىّ المدرّع
فديتك بالنفس النفيسة طائعا
…
ودافعت بالجيش اللهام الممنّع (4)
بضرب طليق الكف حران ثائر
…
وطعن ربيط الجأش في الروع أروع
ببيض تقد البيض من حرّ وقعها
…
وسمر تردّ القرن قانى المقنع
وكلّ فتى يلقى المنايا بصدره
…
وقلب ثبوت لا بقلب مزعزع
(1) في العينى «فاجاءت» وعليها يختل الوزن.
(2)
سقطت الأبيات الثلاثة التالية لهذا البيت من مخطوطة العينى، عقد الجمان، حوادث 640 هـ.
(3)
المقصود قس بن ساعدة الإيادى من خطباء العرب في الجاهلية.
(4)
سقطت الأبيات الخمسة التالية لهذا البيت من العينى، عقد الجمان، حوادث 640 هـ.
يفضّون بنيان المقانب في الوغى
…
بلبّات آساد مشائل جزّع
ولكنه من لا ينافى ويتقى
…
ببذل فداء أو بأطراف شرّع
لقد كنت لى حصنا حصينا من العدى
…
إليه التفاتى في الخطوب ومفزعى
وعارض جود منه أستنزل الندى
…
فأسقى بغيث من عطاياه ممرع
فأضحى ومن حر المكارم مشربى
…
وأمسى وفى رفض المواهب مرتعى (1)
سأبكيه أيام الحياة وإن أمت
…
بكته عظامى في قرارة مضجعى
وأشكره شكر الثرى لسمائه
…
بدر من اللفظ البديع المرصّع (2)
وما كلف بالشىء مثل مكلّف
…
ولا داعيات الطبع مثل التطبع
وما كلّ من يولى جميلا بشاكر
…
وما كل من يدعى خطيبا بمصقع
هو المرء أدنانى وأبعد غايتى
…
ووسّع لى ذرعى وطوّل أذرعى
فتى بدأ الاحسان حيا وميتا
…
بفرط اصطناع لا بفرط تصنع
بإسداء معروف وإلغاء منكر
…
وتسكين مسلوب الجنان (3) مروّع
وتسليمه تاج الخلافة بعده
…
إلى خير مودوع وأوثق مودع
هوى قمر العلياء من برج سعده
…
فاطلع شمس المجد من خير مطلع
بفرع نمى من دوحة ظاهرية
…
نمى عرفها عن طيبها المتضوع
بمستعصم (4) بالله منتصر له
…
بحزم التأنى لا بحزم التسرع
أقام منار العدل بعد إعوجاجه
…
وشيد واهى الدين بعد التضعضع
بإقدام منصور وعزمة قادر
…
وسيرة مهدى وإخبات طيع
(1) البيت التالى ساقط من العينى.
(2)
الأبيات الثلاثة التالية ساقطة من العينى.
(3)
في العينى (عقد الجمان)«الفؤاد» .
(4)
في المتن «بمعتصم» وهو تحريف، والصيغة الصحيحة المثبتة من العينى (عقد الجمان).