الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
هذه الآيات تصوّر مناقشة وسؤالا يتضمّن تهديد النّصارى وتوبيخهم وتقريعهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. والخطاب في ذلك للنّبي صلى الله عليه وسلم.
اذكر يا محمد للناس يوم الحشر الذي يوجّه الله فيه السؤال لعيسى قائلا له:
أأنت قلت للناس: اتّخذوني مع أمي إلهين من دون الله، أي متجاوزين بذلك توحيد الله إلى القول بالشرك: وهو اتّخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى، سواء اعتقد المشرك أن الشريك يضرّ وينفع مستقلاّ بذلك، أو بإقدار الله إيّاه وتفويضه الأمر إليه، أو بالوساطة عند الله بماله من التّأثير والكرامة، كما قال تعالى حاكيا فعلهم:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ، وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ} [يونس 18/ 10]، وقال:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى} [الزّمر 3/ 39].
وهذا السؤال ليس استفهاما وإن خرج مخرج الاستفهام، وإنما هو توبيخ لمن ادّعى ألوهيّة عيسى، ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التّكذيب، وأشدّ في التوبيخ والتّقريع، أو لتعريفه أن قومه غيّروا بعده، وادّعوا عليه ما لم يقله.
والآية ترشد إلى أنهم اتّخذوا مريم وابنها إلهين، لعبادتهم لها، وتقديسهم إيّاها، ولقولهم: إنها لم تلد بشرا، وإنما ولدت إلها، فلأجل البعضية صارت بمثابة من ولدته، ويجعلها بعضهم أحد الأقانيم الثلاثة: الأب والابن والرّوح القدس.
فأجاب عيسى بتلقي الحجة من الله: {سُبْحانَكَ} أي أنزهك عما لا يليق بك، وعن أن يكون معك إله آخر، فأثبت له التّنزيه عن المشاركة في الذّات والصّفات وعما أضيف إليه، وأبان أنه خاضع لعزّته، خائف من سطوته.
ثم برّأ نفسه عن القول الباطل فقال: ليس من شأني ولا مما يصحّ أن يقع منّي أن أقول قولا لا حقّ لي بقوله، ثم أكّد النّفي القاطع بأن ذلك القول إن كان قد
صدر منّي فقد علمته؛ لأن علمك محيط بكلّ شيء، فأنت تعلم سرّي وما أخفي في نفسي، ولا أعلم ما تخفيه من علومك الذّاتية في نفسك، إنك أنت المحيط بالغيبيات، ما كان منها وما هو كائن وما سيكون.
هذا جواب عيسى، لم يقل: بأني قلته أو ما قلته، وإنّما فوّض ذلك إلى علم الله المحيط بكلّ شيء، وإن قلته فأنت عالم به، وهذا مبالغة في الأدب، وفي إظهار الذّلّ والخضوع لله.
ثم حكى الله قول عيسى: ما قلت لهم في شأن الاعتقاد والعبادة إلا ما أمرتني به بأن يعبدوا الله ربّي وربّكم، وأني عبد من عبادك مثلهم، وكنت المراقب على أحوالهم أشهد على ما يفعلون وأمنعهم من القول الباطل وأطالبهم بقول الحق، فلما توفيتني، أي قبضتني إليك، كنت أنت المراقب لأعمالهم وأقوالهم، الحافظ عليهم، وأنت الشهيد على كل شيء، فتشهد لي حين كنت فيهم. وفي هذا تعريف له بأفعال أتباعه وأقوالهم واعتقادهم.
وأغلب المفسرين على أن المراد بقوله: {فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي} وفاة الرّفع إلى السماء، لقوله تعالى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ} قال الحسن البصري: الوفاة في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أوجه:
وفاة الموت، وذلك قوله تعالى:{اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} [المائدة 117/ 5] يعني وقت انقضاء أجلها.
ووفاة النوم؛ قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام 60/ 6] يعني الذي ينيمكم.
ووفاة الرّفع؛ قال الله تعالى: {يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران 55/ 3].
ثم فوض عيسى الأمر كله إلى الله فقال: إن تعذب المسيء عدلت، وإن تغفر
له مع كفره، فالملك ملكك ولا اعتراض لأحد عليك، وأنت القوي القادر على الثواب والعقاب، الحكيم الذي لا تجازي إلا بحكمة وصواب.
وهنا تساؤل: كيف جاز لعيسى عليه السلام أن يقول: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} والله لا يغفر الشرك؟ والجواب: أن المقصود من قوله تفويض الأمور كلها إلى الله، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، وترك التّعرّض والاعتراض بالكليّة.
وأما قوله: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} فهو تقرير للواقع الذي دل عليه الدليل السمعي شرعا، وإن كان يجوز عقلا في رأي أهل السنة المغفرة للمسيء وتعذيب الطائع، بحسب الإرادة والمشيئة المطلقة. وأما المعتزلة فيقولون: إن العقاب حق الله على المذنب، وليس في إسقاطه مضرة على الله.
ودل كلام عيسى على أنه لا يتضمن شيئا من الشفاعة لأتباعه؛ لأن الشفاعة لا ينالها أحد يشرك بالله شيئا.
وختم الله تعالى السورة وهذا النقاش بقوله: {قالَ اللهُ: هذا يَوْمُ} أي إن هذا وهو يوم القيامة هو اليوم الذي ينفع فيه صدق الصادقين في إيمانهم وشهاداتهم وسائر أقوالهم وأفعالهم في الدنيا.
وجزاء الصادقين جنات تجري من تحتها الأنهار أي من تحت غرفها وأشجارها، خالدين وماكثين فيها أبدا، ثوابا من عند الله، وأنه راض عنهم رضا لا يغضب بعده أبدا، وهم راضون عن الجزاء الذي أثابهم به، ذلك الظفر هو الظفر العظيم الذي عظم خيره وكثر، وارتفعت منزلة صاحبه وشرف.
ثم ذكر تعالى ما يناسب دعوى النصارى أن عيسى إله، فأخبر تعالى أن