الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقه الحياة أو الأحكام:
1 -
حدث تحريم الخمر في سنة ثلاث بعد الهجرة بعد وقعة أحد التي حدثت في شوال سنة ثلاث من الهجرة، واستظهر ابن حجر أنها حرمت سنة ثمان من الهجرة. وأما حد الخمر فثبت بالسنة النبوية، إما أربعون جلدة وهو رأي الشافعية، وإما ثمانون جلدة وهو رأي الجمهور،
روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النّبي صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين»
وروى مسلم عن علي رضي الله عنه قال: «جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلّ سنّة، وهذا أحب إلي» .
2 -
تضمنت الآية تحريم الخمر وكل مسكر، والميسر وهو القمار بأنواعه، والأنصاب وهي الأصنام أو النرد والشطرنج، والأزلام وهي قداح الاستقسام، يقال: كانت في البيت-أي البيت الحرام-عند سدنة البيت وخدّام الأصنام؛ يأتي الرجل إذا أراد حاجة، فيقبض منها شيئا، فإن كان عليه «أمرني ربي» خرج إلى حاجته، على ما أحب أو كره. قال ابن عطية: ومن هذا القبيل:
هوى الزجر بالطير، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم.
3 -
تم تحريم الخمر على التدرج، كما عرفنا؛ فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها:{وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل 67/ 16]. ثم نزل {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ} [البقرة 219/ 2] والمنافع:
هي في تجارتهم، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس، وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها، فنزلت هذه الآية {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى} [النساء 43/ 4] فتركها بعض
الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة، حتى نزلت:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئا أشد من الخمر.
وبه يتبين مع ما ذكر في أسباب النزول المتقدمة والأحاديث الواردة: أن شرب الخمر قبل هذه الآية كان مباحا معمولا به معروفا عندهم، بحيث لا ينكر ولا يغيّر، وأن النّبي صلى الله عليه وسلم أقر عليه، وهذا مالا خلاف فيه.
4 -
فهم الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرّجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها.
وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين، فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها. وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة، قال: ولو كانت نجسة، لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، كما
نهى عن التخلي في الطرق.
وأجاب القرطبي: بأن الصحابة فعلت ذلك؛ لأنه لم يكن لهم سروب
(1)
ولا آبان يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم.
وأيضا فإنه يمكن التحرز منها، فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها.
وقوله تعالى: {رِجْسٌ} يدل على نجاستها؛ فإن الرجس في اللسان العربي: النجاسة، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم حتى نجد فيه نصا لتعطلت
(1)
السرب: حفيرة تحت الأرض.
الشريعة؛ فإن النصوص فيها قليلة؛ فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة
(1)
.
5 -
دل قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} على الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه، لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك.
بدليل الأحاديث الواردة، منها
ما رواه مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الذي حرم شربها حرّم بيعها» .
ومنها ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في التداوي بالخمر: «إنه ليس بدواء ولكنه داء» ردا على طارق بن سويد الجعفي الذي قال: «إنما أصنعها للدواء» . وهذا رأي الأطباء.
لكن أجاز الحنفية التداوي بالخمر والنجاسات والسموم إذا تعينت، وعلم يقينا أن فيها شفاء للضرورة لقوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام 119/ 6].
والحقيقة أنه ما أكثر الأدوية وشركات الدواء ومصانعه في عالم اليوم، فإنهم صنعوا لأكثر الأمراض علاجا، فلم يعد الشخص بحاجة أو ضرورة للتداوي بالخمر وغيرها مما حرم الله الانتفاع به وجعله نجسا،
روى البخاري وغيره عن ابن مسعود أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» .
ولا يجوز لمسلم تملك الخمر ولا تمليكها من أحد؛ لأن الشرع نهى عن الانتفاع بها، وأمر باجتنابها.
6 -
أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم، وفي ذلك دليل على تحريم بيع
(1)
تفسير القرطبي: 288/ 7 - 289
العذرات وسائر النجاسات، وما لا يحل أكله، لذا كره مالك والشافعي وغيرهما بيع زبل الدواب.
7 -
إن تخللت الخمر بنفسها طهرت وجاز أكل الخل باتفاق الفقهاء، أما تخليل الخمر فلم يجزه جمهور الفقهاء؛ لأن النّبي صلى الله عليه وسلم استؤذن في تخليل خمر ليتيم، فقال:«لا» ونهى عن ذلك، فأراقها وليه عثمان بن أبي العاص. وأباح الحنفية تخليلها وأكل ما تخلل منها بمعالجة، أي بإلقاء شيء فيها، كملح أو غيره؛ لأن التخليل يزيل الوصف المفسد، ويجعل في الخمر صفة الصلاح، والإصلاح مباح.
8 -
قال القرطبي: هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنّرد والشطرنج، قمارا أو غير قمار، لقوله تعالى:{إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} فكل لهو دعا قليلة إلى كثيرة، وأوقع بينكم العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراما مثله. وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستوليد على القلب مكان السكر. سئل القاسم بن محمد عن الشطرنج أهي ميسر؟ وعن النرد أهو ميسر؟ فقال: كل ما صدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر
(1)
.
9 -
حيثيات التحريم واضحة في الآية: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ..} . أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره، فحذرنا منها ونهانا عنها. وسبب النزول المتقدم في عبث القبيلتين من الأنصار اللتين شربتا الخمر يؤكد هذا.
10 -
قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، وامتثال الأمر، وكفّ عن المنهي عنه. فإن
(1)
تفسير القرطبي: 291/ 6 - 292
خالفتم فما على الرسول إلا البلاغ في تحريم ما أمر بتحريمه، وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يعصى أو يطاع.
11 -
دلت آية {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} على أن من فعل ما أبيح له حتى مات على فعله، لم يكن له ولا عليه شيء، لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح؛ لأن المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع، فلا حاجة للتخوف ولا للسؤال عن حال من مات، والخمر في بطنه وقت إباحتها. وهذه الآية نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى، فنزلت:
{وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} .
12 -
دل حديث البخاري المتقدم عن أنس في سبب نزول هذه الآية المتضمن أن الخمر كان من الفضيخ (المتخذ من البسر): على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر، وهو نص ولا يجوز الاعتراض عليه؛ لأن الصحابة رحمهم الله هم أهل اللسان، وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر؛ إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره.
13 -
ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم إلى أن كل ما يسكر نوعه، حرم شربه، قليلا كان أو كثيرا، نيئا كان أو مطبوخا، ولا فرق بين المستخرج من العنب أو غيره، وأن من شرب شيئا من ذلك حدّ. فأما المستخرج من العنب، المسكر النيء: فهو الذي انعقد الإجماع على تحريم قليله وكثيره، ولو نقطة منه. وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه. وخالف أبو حنيفة وأبو يوسف في القليل مما عدا ما ذكر، وهو الذي لا يبلغ الإسكار، وفي المطبوخ المستخرج من العنب، فأباحا القليل غير المسكر. والمعتمد في الفتوى هو رأي محمد رحمه الله بتحريم القليل والكثير من كل مسكر،
للحديث المتقدم الذي رواه النسائي وابن ماجه وغيرهما عن ابن عمرو: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . واتفق الحنفية على أن الحد في غير الخمر لا يجب إلا بالإسكار.