الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} أي أنشأ كل ظلمة ونور، وجمع الظلمات وأفرد النور لكثرة أسبابها، والنور واحد وإن تعددت مصادره. وقدمت الظلمات على النور، لأنها أسبق في الوجود، فقد وجدت مادة الكون المظلمة أولا. أما السبب في جمع السموات وإفراد الأرض مع أن الأرضين كثيرة وهي سبع كالسماوات لقوله تعالى:{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق 12/ 65] فهو أن السماء فاعل مؤثر، والأرض قابل متأثر، والمؤثر متعدد يحصل بسببه الفصول الأربعة وسائر الأحوال المختلفة، فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر، واختلت مصالح العالم، أما الأرض فهي قابلة للأثر، والقابل الواحد كاف في القبول
(1)
. وهذا الخلق والإبداع، والإنشاء من دلائل وحدانية الله.
{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} مع قيام هذا الدليل. {يَعْدِلُونَ} يعدلون به غيره أي يجعلون له عدلا مساويا له في العبادة والدعاء. {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} بخلق أبيكم آدم منه. {ثُمَّ قَضى أَجَلاً} أي حكم به، وحدّد لكم أمدا تموتون عند انتهائه، والأجل: المدة المضروبة للشيء.
{ثُمَّ أَنْتُمْ} أيها الكفار. {تَمْتَرُونَ} تشكّون في البعث، بعد قيام الدلائل والعلم أنه ابتدأ خلقكم، ومن قدر على الابتداء، فهو أقدر على الإعادة.
{وَهُوَ اللهُ} مستحق للعبادة. {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} ما تسرون وما تجهرون به بينكم.
{وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ} تعملون من خير وشر.
التفسير والبيان:
كل أنواع الحمد والثناء والشكر والمدح لله تعالى خالق السموات والأرض، فهو المستحق للحمد بما أنعم على العباد في خلقه السموات التي تشتمل على المصابيح الليلية من نجوم وكواكب وشمس وقمر، وعلى الفضاء سواء أكان فيه هواء أم لا، وعلى الأثير الذي ينقل الصوت، وعلى الأرض قرار المخلوقات ومصدر الخير والرزق والثروة وبيئة الحياة، فكل ذلك لخير البشر وما يتبعهم من الكائنات الحية. وحمد الله تعالى نفسه الكريمة تعليما للإيمان والثناء. وعبر بالحمد لله ولم يقل: أحمد الله، لإفادة الثبوت والدوام، ولبيان أن ماهية الحمد وحقيقته ثابتة
(1)
تفسير الرازي: 148/ 12
لله تعالى، سواء استحضر ذلك بقلبه أم لا، أما إن قال: أحمد الله مع غفلة القلب عن استحضار المعنى كان كاذبا.
والمراد بالسموات: العوالم العلوية التي نراها فوقنا، والمراد بالأرض:
الكوكب الذي نعيش فيه. والأرض هنا: اسم للجنس، فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها، وكذلك النور، ومثله:{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر 67/ 40].
وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في الليل والنهار، وجمع الظلمات وأفرد لفظ النور، لكثرة أسبابها كالعتمة والشرك والكفر، أما النور فهو واحد متعدد المصدر، ولكون النور أشرف، كقوله تعالى:{عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ} . وجعل هنا: بمعنى خلق، لا يجوز غيره. والمراد بالظلمة كما قال السدي وجمهور المفسرين: ظلمة الليل، وبالنور: نور النهار، وفي ذلك ردّ على المجوس (الثّنوية) القائلين بإلهين اثنين: هما النور وهو الخالق للخير، والظلمة وهو الخالق للشر. وقال الحسن البصري: المراد منهما الكفر والإيمان
(1)
.
وقال قتادة عن سبب التقديم: إنه تعالى خلق السموات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار. أما الظلمات الحسية فجنسها وجد قبل النور، فقد وجدت مادة الكون أولا، وكانت دخانا مظلما أو سديما (نظرية السديم) كما يقول الفلكيون، ثم تكونت الشموس. وكذلك الظلمات المعنوية كالجهل والكفر والشرك أسبق وجودا من النور، فإن نور العلم والإيمان والتوحيد يحدث بعدئذ، كما قال تعالى:{وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل 78/ 16].
ثم الذين كفروا وجحدوا نعمة الله الصانع بعد هذا كله يعدلون بالله غيره، أي يجعلون له عديلا مساويا له في العبادة وهو الشريك، مع أنه غير خالق
(1)
تفسير القرطبي: 386/ 6
ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.
ثم خاطب الله المشركين الذين عدلوا به غيره مذكرا لهم بدلائل التوحيد والبعث فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.} . أي خلق أباكم آدم الذي هو أصلكم من طين، ثم تكاثرت ذريته في المشارق والمغارب، كما خلق سائر أحياء الأرض، وهي بعد الحياة بحاجة إلى النبات؛ لأن الدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات، فالمرجع إلى نبات الطين.
ثم حدّد تعالى أجل وجود الإنسان بدءا من الولادة إلى الممات، وهناك أجل آخر له يبدأ بالإعادة من القبور، فصار قضاء الله أجلين: الأول: ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ، وهو رأي الحسن.
وفسر ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله: {ثُمَّ قَضى أَجَلاً} أجل الموت، والأجل المسمى هو أجل القيامة.
وكل أجل مسمى عند الله، أي له بداية ونهاية محدودة لا تزيد ولا تنقص، ولا يعلمه غيره، ولو كان نبيا مرسلا أو ملكا مقرّبا، فالمقصود من الأجلين:
أجل الدنيا والإنسان، وأجل القيامة. قال تعالى عن الأول:{فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل 61/ 16].
{ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} أي بالرغم من قيام الدلائل على التوحيد والبعث.
تشكّون أيها الكفار في خلقكم مرة ثانية أي في البعث وأمر الساعة، علما بأنه تعالى ابتدأ خلقكم من طين، وتكاثرت الذرية، فجعل أصل الإنسان نطفة من ماء مهين وأودعه في قرار مكين، وهيأ له فيه ظروف الحياة، وجعله يتنفس ويتغذى بدم الحيض، ولو تنفس بالهواء العادي أو أكل غير الدم لمات. ومن قدر على الابتداء، فهو على الإعادة أقدر.