الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان عن يعلى بن مسلم قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية.. قال: اقرأ ما قبلها فقرأت: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ.} . إلى قوله: {لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ} .
المناسبة:
هذه متعلّقة بما قبلها؛ لأن الله تعالى بعد أن نهى عن تحريم الطّيّبات بسبب قوم أرادوا الزّهد والتّقشّف والتّرهّب في الحياة تقرّبا إلى الله، سألوا النّبي صلى الله عليه وسلم عمّا يصنعون بأيمانهم التي حلفوها، فأجابهم الله عز وجل بإنزال حكم كفارة الأيمان.
التفسير والبيان:
لا مؤاخذة بالأيمان التي تحلف بلا قصد، ولا يتعلّق بها حكم، وهي اليمين اللغو: وهي التي تسبق على لسان الحالف من غير قصد،
قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هو كلام الرحل في بيته: لا والله، وبلى والله» . وهذا مذهب الشافعي، وقال باقي الأئمة (الجمهور): هي أن يخبر عن الماضي أو عن الحال على الظّنّ أن المخبر به كما أخبر، وهو بخلافه، في النّفي والإثبات. بدليل ما روي عن ابن عباس في لغو اليمين: أن تحلف على الأمر أنه كذلك وليس كذلك، وهو مروي أيضا عن مجاهد: هو الرجل يحلف على الشيء أنه كذلك، وليس كما ظنّ.
ولكن يؤاخذكم باليمين المنعقدة: وهي التي يحدث الحلف فيها على أمر في المستقبل بتصميم وقصد أن يفعله أو لا يفعله. وهناك نوع ثالث هي اليمين الغموس: وهي في رأي الحنفية: اليمين الكاذبة قصدا في الماضي أو في الحال. فتصير الأيمان ثلاثة أنواع: يمين لغو، ويمين منعقدة، ويمين غموس. أخرج الطبري عن أبي مالك قال: الأيمان ثلاث: يمين تكفر، ويمين لا تكفر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحبها، فأما اليمين التي تكفر: فالرجل يحلف على الأمر لا يفعله ثم يفعله، فعليه
الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفر: فالرجل يحلف على الأمر يتعمد فيه الكذب، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها: فالرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة، وهو اللغو
(1)
.
واليمين المنعقدة: هي التي يكون الحلف فيها بالله أو بصفة من صفاته،
لقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن عمر:
«من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» ولا تنعقد اليمين بالحلف بغير الله من المخلوقات كنبيّ أو وليّ، بل إنه حرام.
وقد اختلف الفقهاء في اليمين الغموس على رأيين، فقال الحنفية والمالكية:
لا كفارة فيها؛ لأن جزاء الغموس الغمس في جهنم. وقال الشافعية وجماعة:
تجب الكفارة فيها؛ لأن الله يقول: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ومن تعمد الكذب في يمينه فقد كسب بقلبه إثما، وهو مؤاخذ به؛ لأنه عقد قلبه على الكذب في اليمين، وقد قال الله:{فَكَفّارَتُهُ} .
ورأى الحنفية والمالكية أن المؤاخذة بما كسبت القلوب هو عقاب الآخرة، بدليل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران 77/ 3]، فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة.
وروى البيهقي والحاكم عن جابر عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة، تبوّأ مقعده من النار» ، ولم يذكر الكفارة.
وروى البخاري ومسلم وغيرهما (الجماعة) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين صبر
(2)
، وهو فيها فاجر، يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله، وهو عليه غضبان».
(1)
تفسير الطبري: 11/ 7.
(2)
اليمين الصبر: التي ألزم بها وأكره عليها، والصبّر: الإكراه.
ثمّ بيّن الله تعالى نوع المؤاخذة على اليمين المنعقدة فقال: {فَكَفّارَتُهُ} الضمير إما عائد على الحنث المفهوم من السياق، أو على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف، أي فكفارته نكثه. والحانث عليه الكفارة سواء أكان عامدا أم ساهيا وناسيا أم مخطئا، أم نائما ومغمى عليه ومجنونا أم مكرها.
والكفارة على الموسر مخيّر فيها بين ثلاث خصال: إطعام عشرة مساكين لكلّ مسكين في رأي الجمهور مدّ طعام (قمح) والمدّ (675 غم) من النوع المتوسط الغالب أكله على أهل البلد، ليس بالأجود الأعلى، ولا بالأردإ الأدنى، وهو أكلة واحدة خبز ولحم، لقول الحسن البصري ومحمد بن سيرين: يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا ولحما. وقدّره الحنفية بما يجب في صدقة الفطر وهو نصف صاع من برّ، أو صاع من تمر أو شعير أو دقيق، أو قيمة هذه الأشياء (والصاع 2751 غم). وهو أكلتان مشبعتان: غداء وعشاء، لقول علي رضي الله عنه: يغديهم ويعشيهم.
{أَوْ كِسْوَتُهُمْ} أي بحسب اختلاف البلاد والأزمنة كالطعام، يعطي لكلّ فقير رداء متوسطا مثل «الجلابية» أو قميصا؛ أو سروالا أو عمامة في رأي الشافعية، ولم يجز الحنفية الكسوة بالسروال والعمامة، لأن أدنى الكسوة عندهم:
ما يستر عامة البدن.
{أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي عتق نفس، إذ كان الرقيق موجودا، بشرط أن تكون في رأي الجمهور مؤمنة، مثل كفارة القتل الخطأ والظهار، حملا للمطلق على المقيد. ولم يشترط الحنفية كونها مؤمنة فيجزئ إعتاق الكافرة، عملا بإطلاق النّصّ الوارد هنا، ويجب إبقاء موجب اللفظ في كفارة اليمين على إطلاقه، ويعمل بكلّ نصّ على حدة؛ لأن شرط الإيمان في كفارة القتل غير معقول المعنى، فيقتصر على مورد النّص.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ} أي من لم يستطع إطعاما أو كسوة أو عتق رقبة، أو من لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة، فعليه صيام ثلاثة أيام، متتابعة في رأي الحنفية والحنابلة، ولا يشترط التتابع في مذهب المالكية والشافعية.
ودليل الرأي الأول: ما أخرج الحاكم وابن جرير الطبري وغيرهم من طريق صحيح أن أبي بن كعب كان يقرأ هكذا «ثلاثة أيام متتابعات» ، وروي هذا أيضا عن ابن مسعود، وهو ثابت في مصحف الربيع، كما قال سفيان الثوري.
ورواه ابن مردويه عن ابن عباس: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات» .
ورأى الفريق الثاني أن هذه قراءة شاذّة لا يحتجّ بها، وإنما يحتجّ بالمتواتر.
والاستطاعة: أن يكون مالكا ما يزيد على إطعام أهله يوما وليلة، وهذا ما اختاره ابن جرير: أنه الذي يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين.
وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا: من وجد ثلاثة دراهم، لزمه الإطعام وإلا صام.
ولا وقت للكفارة، وإنما يستحبّ تعجيلها، فإن مرض صام عند القدرة، فإن استمرّ العجز يرجى له عفو الله ورحمته. وللوارث أن يتبرع بالكفارة.
{ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ} أي هذه كفارة اليمين الشرعية إذا حلفتم بالله أو بأحد أسمائه أو صفاته وحنثتم. وترك ذكر الحنث المعروف بأن الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف، لا بالحلف نفسه، والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند الحنفية، ويجوز بالمال إذا لم يعص الحانث عند الشافعي.
{وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ} أي فبرّوا بها ولا تحنثوا. وقيل: وهو ما اختاره القرطبي: احفظوها بأن تكفّروها إذا حنثتم، قال ابن جرير: معناه لا تتركوها