الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لهؤلاء الأقوام: إنما بعثت مبشرا ومنذرا، وليس لي أن أتحكّم على الله، ومأمور أن أنفي عن نفسي أمورا ثلاثة: ليس عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولست ملكا من الملائكة. والفائدة من نفي هذه الأحوال: إظهار الرّسول تواضعه لله وعبوديته له، ردّا على اعتقاد النصارى في عيسى عليه السلام، وإظهار عجزه عن الإتيان بالمعجزات المادية القاهرة القوية، فهذا من قدرة الله اللائقة به، ويعني ذلك أنه لا يدعي الألوهية ولا الملكية.
التفسير والبيان:
كان المشركون يطلبون من النّبي صلى الله عليه وسلم معجزات ماديّة قاهرة، جهلا منهم بمهمّة الرّسول ورسالته، فأنزل الله: قل أيها الرّسول لهؤلاء: لست أملك خزائن الله ولا أقدر على قسمتها وتوزيعها والتّصرّف فيها، فهذا لله وحده يعطي منها لعباده ما يشاء على وفق الحكمة وضمن قيد الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى النتائج والمسببات.
ولا أقول لكم: إني أعلم الغيب، فذاك لله عز وجل، ولا أطّلع منه إلا ما أطلعني عليه، كما قال:{عالِمُ الْغَيْبِ، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ} [الجن 26/ 72 - 27].
ولا أدّعي أني ملك من الملائكة، إنما أنا بشر من البشر، يوحى إليّ من الله عز وجل، فلا أستطيع أن آتي بما لا يقدر عليه البشر.
والمعنى في هذه الأمور الثلاثة: أني لست أدّعي الألوهية، ولا علم الغيب، ولا الملكيّة، حتى تطلبوا مني ما ليس في طاقتي وقدرتي، إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ القرآن وبيانه، ولست في هذا مبتدعا، إنما سبقني إلى الرّسالة رسل كثيرون قبلي.
ووظيفة الرّسول: اتّباع الوحي، وهذا معنى قوله تعالى:{إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ} أي لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه.
ثم وبّخهم الله على ضلالهم مبيّنا لهم أنه لا يستوي الضّال والمهتدي فقال:
{قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ} أي قل للمشركين المكذبين: هل يستوي من اتّبع الحق وهدي إليه، ومن ضلّ عنه وحاد عن الحقّ.
أفلا تتفكرون فتميّزوا بين ضلال الشّرك وهداية الإسلام، وتعقلوا ما في القرآن من أدلّة توحيد الله وإيجاب اتّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا مثل قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ} [الرعد 19/ 13].
وخلاصة ما سبق: إثبات قدرة الله المطلقة التي تنفي وجود مثلها لأحد، مما يدلّ على وجود الله ووحدانيته، وإثبات كون القرآن والمعجزات المؤيدة لصدق النّبي صلى الله عليه وسلم: هي من الله وحده؛ لأنه لا يستطيع الرّسول التّصرف في شيء خارج الحالات المعتادة، ولا الإتيان بشيء مثل القرآن أو تنزيل الآيات الغريبة، وإجراء المعجزات الخارقة للعادة.
هذه حقيقة الرّسالة، ثم أمر الله نبيّه بإنذار المؤمنين سوء الحساب والجزاء فقال:{وَأَنْذِرْ بِهِ.} . أي وأنذر يا محمد بالوحي أو بالقرآن الذين يؤمنون بالله ويخافون من الحشر وأهواله وشدّة الحساب يوم القيامة، وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال، عند لقاء الله، ويعتقدون بأنه ليس لهم فيه وليّ ولا شفيع ولا حميم ولا نصير:{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ} [الانفطار 19/ 82]، لعلهم يتقون أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله عز وجل، قال ابن عبّاس: معناه وأنذرهم لكي يخافوا في الدّنيا، وينتهوا عن الكفر والمعاصي.
فهؤلاء المؤمنون بالله وبالغيب وباليوم الآخر هم الذين ينتفعون بالقرآن.
أما المادّيون الذين لا يؤمنون بغير المادّة، فقد حجبوا عن أنفسهم نور الهداية الإلهية، فطبع الله على قلوبهم وأصمّهم وأعمى أبصارهم. وهذا مثل قوله تعالى:
ثم منع الله نبيّه من تقريب كفار قريش وأشرافهم المترفين، ومن تنحية المؤمنين المستضعفين وطرد الضّعفاء من الناس، فقال:{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ..} .
أي لا تبعد عنك هؤلاء المتّصفين بهذه الصفات، بل اجعلهم جلساءك وخلصاءك، وصفاتهم أنهم مؤمنون حقّ الإيمان، موحّدون ربّهم دون شائبة شرك، يدعون ربّهم بالغداة والعشي أي في الصّباح والمساء وجميع الأوقات، يخلصون في طاعتهم وعبادتهم، فلا يقصدون إلا إرضاء الله تعالى، ولا يريدون من عبادتهم إلا ذات الله وحقيقته؛ لأنه المستحق للعبادة. ونظير الآية قوله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا، وَاتَّبَعَ هَواهُ، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف 28/ 18].
وموقف هؤلاء المشركين له شبيه بموقف قوم نوح حين قال أشرافهم له:
{وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ} [هود 27/ 11]، وقوله لهم:{وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} [هود 29/ 11].
ثم حصر اللّّه تعالى حساب هؤلاء بربّهم، كما قال تعالى:{إِنْ حِسابُهُمْ إِلاّ عَلى رَبِّي} [الشعراء 113/ 26]، وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم، فقال تعالى:{ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} بعد أن شهد الله لهم بالإخلاص
وبإرادة وجه الله في أعمالهم. وإن كان الأمر كما يقولون عند الله، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر، وإن كان لهم باطن غير مرض بأن كانوا غير مخلصين، فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعدّاهم إليك، كما أن حسابك عليك، لا يتعدّاك إليهم
(1)
، كما قال تعالى:{كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور 21/ 52]، وقال:{كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدّثر 38/ 74]، وقال:{وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الأنعام 164/ 6، الإسراء 15/ 17، فاطر 18/ 35، الزمر 7/ 39].
والجملتان وهما {ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} بمنزلة جملة واحدة، ومؤدّاهما واحد، ولا بدّ منهما جميعا، كأنه قيل:
لا تؤاخذ أنت، ولا هم بحساب صاحبه.
فلماذا تطردهم؟ لأن الطّرد جزاء، والجزاء بعد الحساب والمحاكمة، والحساب على الله، وما عليك إلا البلاغ:{فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية 21/ 88 - 22].
فإن طردتهم والحالة هذه، فتكون بطردهم من زمرة الظالمين أنفسهم، لأن الطّرد-كما ذكرت-لا يكون إلا بذنب، والحساب على الذّنب إلى الله، لا إليك.
والخلاصة: ذكر الله غير المتقين من المسلمين، وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم، وأمر الله نبيّه بتقريبهم وإكرامهم، وألا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك.
ثم أوضح الله تعالى أن مقال المشركين في شأن الضعفاء ابتلاء من الله واختبار فقال: {وَكَذلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي ابتلينا واختبرنا وامتحنّا بعضهم ببعض، لتكون العاقبة أن يقول الأقوياء من الكفار في حقّ الضعفاء من المؤمنين: أهؤلاء الصّعاليك من العبيد والموالي والفقراء خصّهم الله بهذه النّعمة
(1)
الكشّاف: 507/ 1