الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقالوا لهما: هذا كتابه بيده، قالوا: ما كتمنا له شيئا، فترافعوا إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ.} . إلى قوله: {إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ} .
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر: بالله الذي لا إله إلا هو، ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموّه بالذهب، فقال أهله: هذا من متاعه، قالا: نعم، ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا، فكرهنا أن نكذب نفوسنا، فترافعوا إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية:{فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً} فأمر النّبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيّبا ويستحقانه.
ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النّبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول: صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء
(1)
.
والخلاصة: اتفق المفسرون على أن سبب نزول هذه الآية هو تميم الداري وأخوه عدي النصرانيان حين خرجا إلى الشام للتجارة ومعهما بديل بن أبي مريم من بني سهم مولى عمرو بن العاص، وكان مسلما مهاجرا.
المناسبة:
حكم سبحانه في الآية السابقة أن المرجع والمصير إليه بعد الموت، وأنه يحاسب الناس ويجازيهم على أعمالهم يوم القيامة، فناسب أن يذكر ما تتطلبه الوصية قبل الموت من إشهاد، حفاظا عليها وإثباتا لها لتنفيذها.
التفسير والبيان:
يا من صدقتم بالله ورسوله، ليشهد المحتضر على وصيته اثنين عدلين من
(1)
تفسير الطبري: 75/ 7
الرجال المسلمين، فقوله {مِنْكُمْ} أي من المؤمنين وقوله:{إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي اقترب منه وظهرت أمارات الموت، أو يشهد للضرورة اثنين آخرين من غير المؤمنين في حال السفر، وذلك يدل على تأكيد الوصية والإشهاد عليها.
وهناك في الكلام حذف تقديره: إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم، ودفعتم إليهما ما معكم من المال، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة، فارتابوا في أمرهما، وادعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما بعد الصلاة.
ووقت الشهادة: بعد صلاة العصر؛ لأنها كانت معهودة للتحليف عندها وكان ذلك وقت القضاء وفصل الدعاوي، وكونها عقب الصلاة للتغليظ والتهويل؛ لقوله تعالى:{تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} أي تقفونهما وتستوثقون منهما وتقدمونهما للحلف بعد العصر، كما فعل النّبي صلى الله عليه وسلم مع تميم وأخيه. وروي عن ابن عباس أن الشاهدين إذا كانا غير مسلمين، فالمراد بالصلاة: صلاة أهل دينهما. ورجح الطبري أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين؛ لأن الله تعالى عرّف هذه الصلاة بالألف واللام، ولا يكون ذلك عند العرب إلا في معروف إما في جنسه أو عينه، وأما اليهود والنصارى فلهم صلوات عديدة غير واحدة، فيكون معلوما أنها المعنية بذلك في عرف القضاء والناس.
وإن شككتم في صدق الشاهدين وإقرارهما فيحلفان بقولهما: لا نشتري بيمين الله عوضا نأخذه من الدنيا بأن نحلف به كذبا، والمراد بالثمن عند الأكثرين:
المثمون وضمير {مُصِيبَةُ} يعود إلى القسم المفهوم من {فَيُقْسِمانِ} والمعنى:
لا نستبدل بصدق القسم بالله وصحته عرضا من الدنيا، ولو كان المقسم له أو المشهود له من أقاربنا، أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريبا منا، على معنى أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا، وأنهم داخلون
تحت قوله تعالى: {كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}
(1)
. أما الأمين فيصدق بلا يمين.
والخلاصة: أن يحلف الشاهد بأن يقول الحق، ويشهد بالعدل، ولا يتأثر بعوض مالي يأخذه عوضا عن يمينه، ولا بمراعاة قريب له إن كانت الشهادة له.
{وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ.} . أي ويقولون في يمينهما أيضا: لا نكتم الشهادة التي أوجبها الله وأمر بحفظها وإظهارها من وقت التحمل إلى الأداء، كما قال:
{وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ} فإنا إن فعلنا ذلك، واشترينا بالقسم ثمنا أي عوضا أو راعينا به قريبا، أو كتمنا شهادة الله، كنّا من العاصين المتحملين إثما كبيرا نعاقب عليه.
{فَإِنْ عُثِرَ} أي اطلع على أمارة كذبهما أو خيانتهما وكتمانهما وأنهما فعلا ما أوجب الإثم، فترد اليمين إلى الورثة، فيحلف رجلان يقومان مقام الشاهدين، الأوليان بالميت أي من أقاربه الذين هم أحق بالإرث إن لم يوجد مانع شرعي، فيحلفان بالله لشهادتنا أي يميننا أحق وأصدق من أيمانهما، وما اعتدينا في طلب هذا المال وفي الحكم على الشاهدين بالخيانة، إنا إذا اعتدينا أو خوناهما وهما ليسا بخائنين لمن الظالمين، أي المبطلين الكاذبين. فالمراد بقوله:
{لَشَهادَتُنا} اليمين، كما قال تعالى:{فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ} [النور 6/ 24]، والمراد بقوله:{مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أي من الذين استحقت عليهم الوصية أو استحق عليهم الإيصاء، والأوليان بالميت: الأقربان منه.
وتخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها.
(1)
الكشاف: 488/ 1