الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحكمة تشريع هذه الشهادة وهذه الأيمان: هي مطابقة الشهادة واليمين للواقع، لقوله تعالى:{ذلِكَ أَدْنى..} . أي أقرب أن يؤدي الشهداء الشهادة على وجهها الحقيقي بلا تبديل ولا تغيير، خوفا من عذاب الله، وهذه حكمة تغليظ الشهادة بكونها بعد العصر، أو خوفا من ردّ اليمين على الورثة، وفي ذلك الخزي والفضيحة بين الناس، فيظهر كذبهم بين الناس، فيكون الخوف من عذاب الله أو من ردّ اليمين مدعاة الصدق والبعد عن الخيانة.
ثم طوّق الله هذا التشديد على صدق الشهادة بباعث ذاتي دائم وهو تقوى الله: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا.} . أي راقبوا الله واحذروا عقابه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة وأن تأخذوا مالا عليها وأن تخونوا من ائتمنكم، واسمعوا سماع تدبر وقبول لهذه الأحكام واعملوا بها، وإلا كنتم من الفاسقين: المتمردين الخارجين عن دائرة حكم الله وشرعه، المطرودين من هدايته، المستحقين لعقابه، والله لا يوفق من فسق عن أمر ربه فخالفه وأطاع الشيطان.
فقه الحياة أو الأحكام:
أكثر المفسرين-كما قال الطبري-على أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، ومن ادعى النسخ فعليه البيان، ثم صوّب الطبري القول بالنسخ، لأن المعمول به بين أهل الإسلام قديما منذ بعثة النّبي محمد صلى الله عليه وسلم وما بعد ذلك: أن إثبات الحق يكون إما ببينة المدعي أو بيمين المدعى عليه إذا لم يكن للمدعي بينة تصحح دعواه، وأن من ادعى سلعة في يده أنها له اشتراها من المدعي: القول قول المدعي بيمينه، إذا لم يكن لمن هي في يده بيّنة تثبت مدعاه
(1)
.
وقد استنبط العلماء من هذه الآيات الثلاث ما يأتي من الأحكام:
(1)
تفسير الطبري: 81/ 7
1 -
الحض على الوصية والاهتمام بأمرها في السفر والحضر.
2 -
الإشهاد عليها لإثباتها وتنفيذها.
3 -
الأصل كون الشاهدين مسلمين عدلين.
4 -
جواز شهادة غير المسلم على المسلم للضرورة أو الحاجة. وقد اختلف العلماء في هذا الحكم، فقال الجمهور من الفقهاء: قوله سبحانه: {أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} منسوخ؛ لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ} [البقرة 282/ 2]، وقوله:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي من المؤمنين كما هو الظاهر [الطلاق 2/ 65] وآية الدين التي فيها: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ.} . من آخر ما نزل، فهي ناسخة لما ذكر هنا، ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة، فجازت في الماضي شهادة أهل الكتاب، أما اليوم فوجد المسلمون في كل مكان، فسقطت شهادة الكفار، وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفسّاق لا تجوز، والكفار فسّاق فلا تجوز شهادتهم، فلا تجوز شهادة الكفار على المسلمين، ولا على بعضهم بعضا، للأدلة السابقة.
وقال أبو حنيفة: تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض، ولا تجوز على المسلمين: لأن آيات الشهادة بحسب السياق في كلها هي في الكلام عن المسلمين، وأما فيما بينهم فتقبل شهادتهم لقوله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران 75/ 3] فأخبر أن منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال، فيكون أمينا على قرابته وأهل ملته بالأولى. ولقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} [الأنفال 73/ 8] فأثبت لهم الولاية بعضهم على بعض، وهي أعلى رتبة من الشهادة.
وما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ائتوني بأربعة منكم يشهدون» .
ثم إن أهل الذمة يتعاملون فيما بينهم بالبيع والإجارة والمداينة، وتقع بينهم
الجنايات والاعتداءات، ولا يكون لهم شهداء إلا من أنفسهم، ويتخاصمون إلى قضاة المسلمين، فإذا لم يحكم بينهم بشهودهم المرضيين عندهم، ضاعت حقوقهم، ووقع الظلم والفساد، فالحاجة ماسة إلى قبول شهادتهم بعضهم على بعض.
هذا هو الأرجح والمقبول عمليا. وكذلك في شهادة الكفار على المسلمين يؤخذ بقول الإمام أحمد: تجوز للضرورة حيث لا يوجد مسلم كالسفر؛ لقوله تعالى: {أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} قال ابن تيمية: وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضوع: هو ضرورة، يقتضي قبولها في كل ضرورة، حضرا وسفرا. ولو قيل: تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون، لكان له وجه؛ إذ قد يقرب أجل المسلم في الغربة، ولا يجد مسلما يشهده على نفسه، وربما وجبت عليه زكوات وكفارات، وربما كان عنده وودائع أو ديون في ذمته، فإذا لم يشهد غير المسلمين ضاعت عليه مهماته ومصالحه.
5 -
وآية {تَحْبِسُونَهُما} أصل في حبس من وجب عليه حق؛ لأن التوثق للحقوق المالية إما بالرهن وإما بالكفالة، فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بالحبس حتى يحمله السجن على الوفاء بالحق، أو يتبين أنه معسر.
أما التوثق للحق البدني الذي لا يقبل البدل كالحدود والقصاص، فلا يمكن إلا بالسجن، روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النّبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة.
وروى أبو داود عن عمرو بن الشّريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» عرضه:
يعزر بالتوبيخ، وعقوبته: حبسه.
6 -
دل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} على مشروعية اختيار الوقت الذي يؤثر في نفوس الشهود حالفي الأيمان رجاء أن يصدقوا في كلامهم. قال أكثر العلماء: يريد بالآية بعد صلاة العصر؛ لأن أهل الأديان يعظمون ذلك
الوقت، ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة. جاء
في الحديث الصحيح «من حلف على يمين كاذبة بعد العصر، لقي الله، وهو عليه غضبان» .
7 -
الآية أصل في التغليظ في الأيمان، بأن يقول الحالف ما يرجى ان يكون رادعا له عن الكذب.
والتغليظ يكون بأربعة أشياء:
أ-الزمان كما هو مذكور في الآية.
ب-المكان: كالمسجد والمنبر، خلافا للبخاري والحنفية حيث يقولون:
لا يجب استحلاف أحد عند منبر النّبي صلى الله عليه وسلم، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها.
وقال مالك والشافعي: أيمان القسامة بين الركن والمقام في مكة لمن كان فيها أو في توابعها، وعند المنبر النبوي لمن كان في المدينة وتوابعها. وتغلظ الأيمان في الدماء والطلاق والعتاق في رأي الشافعي.
ج -الحال: ذكر مظرّف وابن الماجشون وبعض الشافعية: أنه يحلف قائما مستقبل القبلة؛ لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر. وقال ابن كنانة: يحلف جالسا.
د-التغليظ باللفظ: قالت طائفة: يحلف بالله لا يزيد عليه؛ لقوله تعالى: {فَيُقْسِمانِ بِاللهِ} وقوله: {قُلْ: إِي وَرَبِّي} وقوله: {وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ} .
وقال مالك: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي حق، وما ادّعاه علي باطل،
لما رواه أبو داود عن ابن عباس أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل حلّفه: «احلف بالله الذي لا إله إلا هو، ماله عندك شيء» يعني للمدعي.
وقال الحنفية: يحلف بالله لا غير، فإن اتهمه القاضي، غلظ عليه اليمين، فيحلفه «بالله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور» .
وزاد الشافعية: التغليظ بالمصحف. وقال أحمد: لا يكره ذلك.
8 -
قدر المال الذي يحلف به: قال مالك: لا تكون اليمين في أقل من ثلاثة دراهم، قياسا على حد القطع في السرقة. وقال الشافعي: لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة، وكذلك عند منبر كل مسجد.
9 -
الأصل قبول أخبار الشهود وتصديقهم دون يمين لقول الله تعالى:
{وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} وشرط في تحليف الشاهدين الارتياب في خبرهما، فإذا لم يكن الشاهدان عدلين وارتاب الحاكم بقولهما حلّفهما، بدليل قوله تعالى:
{إِنِ ارْتَبْتُمْ} ومتى لم يقع ريب فلا يمين. وأصبح تحليف الشهود السمة العامة في المحاكم الحالية. وسبب الريبة في الآية: هو الاحتياط؛ لقبول شهادة الكافر بدلا عن شهادة المسلم للضرورة. وقد حلف ابن عباس المرأة التي شهدت بالرضاع.
10 -
تجيز الآية شهادة المدعين لأنفسهم واستحقاقهم بمجرد أيمانهم: وهذا مخالف للمقرر في الشريعة: أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. وهو محض العدل، وقد أجاب الجمهور بأن حكم الآية هذا منسوخ.
وأما جواب القائلين بأن الآية محكمة غير منسوخة: فهو قبول يمين المدعي بسبب العثور على خيانة المدعى عليه واستحقاقه الإثم، وهذا موافق للأصول حيث يتقوى جانب المدعي بالشاهد، أو بنكول خصمه عن اليمين، أو قوة جانبه باللوث (القرينة على القتل)، أو قوة جانبه بشهادة العرف في تداعى