الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البلاغة:
{بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ} فيه قصر صفة على موصوف، أي لا تدعون غيره لكشف الضر.
{فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ} كناية عن إهلاكهم بعذاب الاستئصال.
المفردات اللغوية:
{أَرَأَيْتَكُمْ} أي أخبروني، وهو أسلوب عربي يفيد التعجب والاستغراب مما يأتي بعده {السّاعَةُ} القيامة المشتملة على العذاب بغتة {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} في أن الأصنام تنفعكم فادعوها.
{فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ} أي يزيل ما تدعونه إلى أن يكشفه عنكم من الضر ونحوه {إِنْ شاءَ} كشفه {وَتَنْسَوْنَ} تتركون {ما تُشْرِكُونَ} به من الأصنام فلا تدعونه. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} رسلا فكذبوهم {بِالْبَأْساءِ} بالشدة والعذاب والقوة وشدة الفقر، وتطلق أيضا على الحرب والمشقة، والبأس: الشدة في الحرب {وَالضَّرّاءِ} من الضر: ضد النفع، وهو المرض {يَتَضَرَّعُونَ} يتذللون، والتضرع: إظهار الضراعة والخضوع بتكلف {مُبْلِسُونَ} متحسرون يائسون من النجاة {دابِرُ الْقَوْمِ} آخرهم الذي يكون في أدبارهم.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى غاية جهل أولئك الكفار، وأن علمه تعالى محيط بما في الكون، أبان شيئا آخر من حال الكفرة وهو أنه إذا نزلت بهم بلية أو محنة، فإنهم يفزعون إلى الله تعالى ويلجأون إليه، ولا يتمردون على طاعته، وذلك تأثرا منهم بالفطرة التي أودع فيها توحيد الله والحاجة إليه.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه الفعال لما يريد، المتصرف في خلقه بما يشاء، وأنه لا معقب لحكمه، ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه، بل هو وحده لا شريك له الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء.
قل أيها الرسول للمشركين: أخبروني إن أتاكم عذاب الله، مثل الذي نزل
بأمثالكم من الأمم السابقة كالخسف، والريح الصرصر العاتية، والصاعقة، والطوفان، أو أتتكم القيامة بأهوالها وخزيها ونكالها، أتدعون غير الله لكشف ما نزل بكم من البلاء؟ أم تدعون آلهتكم الأصنام التي تفزعون إليها، إن كنتم صادقين في اتخاذكم آلهة معه؟ ثم أجابهم عن هذا التساؤل الموجّه للتبكيت والإلزام بقوله:{بَلْ} للإبطال لما تقدم. والجواب أنكم في وقت الشدة والمحنة والضرورة لا تدعون أحدا سوى الله، فأنتم تدعونه لكشف وإزالة ما نزل بكم من الضرر، وهو يكشف ذلك على وفق حكمته ومشيئته، وتنسون ما تشركون أي تتركون آلهتكم، ولا تذكرون في ذلك الوقت إلا الله، كقوله عز وجل:{وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ} [الإسراء 67/ 17] وقوله: {فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت 65/ 29] وقوله: {وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ، فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاّ كُلُّ خَتّارٍ كَفُورٍ} [لقمان 32/ 31].
وذلك أن الله تعالى أودع في فطرة الإنسان التوحيد والإذعان للخالق الحقيقي، الباهر القدرة الذي تفوق قدرته كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وأما الشرك فهو شيء عارض موروث في الأقوام البدائية، حتى إذا نزلت المحنة تضرعوا إلى الله:{فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الروم 30/ 30].
ثم ضرب الله المثل بالأمم السابقة وعقد قياسا للعبرة، وللإعلام بأن من سنته التشديد على عباده، ليرجعوا عن غيهم، ويعودوا إلى رشدهم فقال:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا..} . أي لقد أرسلنا رسلا إلى أمم قبلك، فدعوهم إلى التوحيد وعبادة الله، فلم يستجيبوا لهم، فاختبرناهم بالبأساء والضراء، أي بالفقر وضيق العيش،
والمرض والسقم والألم، لعلهم يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون؛ إذ الشدائد تصقل النفوس، وتنبت الرجال وتهذب الأخلاق. وهذه الآية متصلة بما قبلها اتصال الحال بحال قريبة منها؛ لأن المشركين سلكوا في مخالفة نبيهم مسلك من كان قبلهم، فكانوا متعرضين لأن ينزل بهم من البلاء ما نزل بمن كان قبلهم.
ثم أكد تعالى الحض على التضرع فقال: فهلا تضرعوا إلينا خاشعين تائبين حين جاءهم بأسنا وظهرت بوادر العذاب، ولكن لم يفعلوا وقست قلوبهم، أي ما رقّت ولا خشعت، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فلم يعتبروا، وزيّن لهم الشيطان أفعالهم من الشرك والفجور والمعاندة والمعاصي، ووسوس لهم بان يبقوا على ما كان عليه آباؤهم.
ثم نزل بهم العقاب مقرونا ببيان سببه وحيثياته، فقال تعالى:{فَلَمّا نَسُوا 1.} . أي لما أعرضوا عما ذكّرهم به رسلهم من الإنذار والبشارة، وتناسوه، وجعلوه وراء ظهورهم، وأصرّوا على كفرهم وعنادهم، فتحنا عليهم أبواب الرزق وألوان رخاء العيش والصحة والأمن وغير ذلك مما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم، حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الأموال والأولاد والأرزاق، أخذناهم على غفلة بعذاب الاستئصال، فإذا هم آيسون من النجاة ومن كل خير.
فهلك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإبقاء على الشرك واستوصوا، فلم يبق منهم أحد، والثناء الخالص لله رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته، ومعاقبة أهل الكفر والفساد. وهذا يشير إلى أن إبادة المفسدين نعمة من الله، وأن في الضراء والبأساء عبرة وعظة، وأن الانغماس في الترف وسعة المعيشة قد يكون استدراجا ومقدمة للعقاب، وأن ذكر الله واجب في خاتمة كل أمر.
(1)
ليس المراد به النسيان الغالب على الإنسان، وإنما بمعنى تركوا ما ذكّروا به.