الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب النزول:
نزول الآية (82):
{الَّذِينَ آمَنُوا}
أخرج ابن أبي حاتم عن بكر بن سوادة قال: حمل رجل من العدو على المسلمين، فقتل رجلا، ثم حمل فقتل آخر، ثم قال: أينفعني الإسلام بعد هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فضرب فرسه فدخل فيهم، ثم حمل على أصحابه، فقتل رجلا، ثم آخر، ثم آخر، ثم قتل، قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية.
المناسبة:
الآيات استمرار في مناظرات إبراهيم عليه السلام، وهي هنا جدال بينه وبين قومه فيما ذهب إليه من التوحيد، ولما أفحمهم في المناظرة، تمسكوا بالتقليد، واستهجنوا جعل الآلهة إلها واحدا، وخوفوه بالآفات والبليات، لما طعن في ألوهية هذه الأصنام.
التفسير والبيان:
جادله قومه في مبدأ التوحيد، فهو حين أثبته لهم بالأدلة القاطعة في حدود مستواهم الفكري، وأثبت لهم وجوب عبادة الله وحده، حاجوه ببيان شبهاتهم في شركهم، فقالوا: إن تعدد الآلهة لا ينافي الإيمان بالله؛ لأنهم شفعاء عنده، وتمسكوا بالتقليد للآباء وبنحو ذلك. فرد الله عليهم بقوله:
{قالَ: أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ} ؟ أي أتجادلونني في أمر الله وأنه لا إله إلا الله، وقد بصرني وهداني إلى الحق، وأنا على بينة منه، فكيف ألتفت إلى مزاعمكم وضلالكم في شرككم وتقليدكم فيه أسلافكم من غير حجة؟
ومن أدلة بطلان مذهبكم أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئا، وأنا لا أخافها ولا أرهبها ولا أبالي بها؛ لأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تنصر ولا تشفع، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تمهلون، بل عاجلوني بذلك.
لا أخاف ما تشركون به أبدا إلا إذا شاء الله شيئا في إصابة مكروه لي، فإنه يقع حتما؛ لأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله عز وجل، وهو القادر على كل شيء.
ثم علل تعالى ما سبق فقال: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أي أحاط علمه بجميع الأشياء، فلا تخفى عليه خافية، فلربما أنزل بي مكروها بسبب الدعوة إلى نبذها وتحطيمها.
أفلا تتذكرون هذا وما بينته لكم فتؤمنوا، أي أفلا تعتبرون أن هذه الآلهة باطلة، فتنزجروا عن عبادتها؟ وهذا شبيه بما احتج به هود عليه السلام على قومه عاد:{قالُوا: يا هُودُ، ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ، قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} .
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود 53/ 11 - 56].
وكيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، ولا تخافون إشراككم بالله خالقكم، ما لم ينزل به حجة بيّنه بوحي ولا نظر عقل تثبت لكم جعله شريكا في الخلق والتدبير أو في الوساطة والشفاعة؟ وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على أن الله واحد أحد فرد صمد، فإشراككم وافتئاتكم هو الذي ينبغي أن يخاف.
وفي {كَيْفَ} معنى الإنكار، أنكر عليهم تخويفهم إياه بالأصنام، وهم
لا يخافون الله عز وجل؛ أي كيف أخاف ميتا وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شيء؟! قال ابن عباس وغيره عن قوله {سُلْطاناً} أي حجة، أي لا دليل يثبته، كقوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ} [الشورى 21/ 42] وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ} [النجم 23/ 53].
وإذا كان هذا هو الحقيقة والواقع، فأي الفريقين: فريق الموحدين وفريق المشركين أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة، وأجدر بالأمن وعدم الخوف على نفسه في الدنيا من جراء عقيدته؟ أي الطائفتين أصوب؟ الذي عبد من بيده الضر والنفع، أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل؟ والتصريح بالفريقين دون الاكتفاء بقول:(فأينا أحق بالأمن) للدلالة على أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك، لا خاصة لهم، وللبعد عن تخطئتهم صراحة حتى لا ينفروا من الإصغاء، ويلجأوا إلى العناد.
إن كنتم تعلمون، أي إن كنتم على علم وبصيرة بهذا الأمر، فأخبروني بذاك، وفي هذا دفع لهم إلى الاعتراف بالحق.
ثم أجاب الله تعالى عمن هو أحق بالأمن فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا..} . أي الذين صدقوا بوجود الله ووحدانية، وأخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئا، ولم يخطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم، هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة.
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال أصحابه: وأينا لهم يظلم نفسه، فنزلت:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} هذه رواية البخاري. وأما
رواية الإمام أحمد: «لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك
على الناس، فقالوا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح:{يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان 13/ 31] إنما هو الشرك».
وتلك الحجة القوية التي احتج بها إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله:
{فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} إلى قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أرشدنا إليها إبراهيم ووفقناه لها، ليقنع قومه. وهذا يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى.
إننا نرفع من شئنا من عبادنا درجات في الدنيا في العلم والحكمة، وهي درجة الإيمان، ودرجة العلم، ودرجة الحكمة والتوفيق، درجة النبوة، ما لم يحظ بها غيرهم، كما قال تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ} [البقرة 253/ 2] وفي الآخرة بالجنة والثواب. والمراد من الآية: أنه تعالى رفع درجات إبراهيم بسبب ما آتاه من الحجة.
إن ربك حكيم في قوله وفعله وصنعه، عليم بشؤون خلقه، وبمن يهديه ومن يضله، وإن قامت عليهم الحجج والبراهين، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} [يونس 96/ 10 - 97]. والله يرفع درجات من يشاء بمقتضى الحكمة والعلم، لا بموجب الشهوة والمجازفة، فإن أفعال الله منزهة عن العبث والباطل.
ويلاحظ أن معرفة الله تعالى لا تحصل على الوجه الأكمل الصحيح إلا عن طريق الوحي، وعلم الأنبياء بالوحي بدهي لا نظري، فقد علّمهم كل ما يحتاجون إليه من الأدلة العقلية والنقلية.