الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ} وثانيها-قوله: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ} وثالثها-قوله: {وَوَهَبْنا لَهُ.} . أي أنه جعله عزيزا في الدنيا؛ لأنه تعالى جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله ومن ذريته، وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة.
التفسير والبيان:
أكرم الله نبيه إبراهيم عليه السلام، فوهب له إسحاق، بعد أن كبر في السن، وأيس هو وامرأته «سارة» من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك وقالت:{يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ. قالُوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ؟ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود 72/ 11 - 73].
بشروهما أيضا بنبوته، وبأن له نسلا وعقبا، كما قال تعالى:{وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ} [الصافات 112/ 37] وهذا أكمل في البشارة، وأعظم في النعمة، وقال:{فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} [هود 71/ 11].
وكان هذا مجازاة ومكافأة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم، وهاجر من بلاده ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه، على دينه، لتقرّبهم عينه، كما قال تعالى:{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا} [مريم 49/ 19] وقال هاهنا: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، كُلاًّ هَدَيْنا} أي جعلنا له إسحاق ويعقوب ولدين صالحين ومن الأنبياء، وهدينا كلا منهما كلا هدينا إبراهيم بالنبوة والحكمة والفطنة إلى الحجة الدامغة.
وإنما ذكر إسحاق دون إسماعيل؛ لأنه هو الذي وهبه الله تعالى بآية منه بعد كبر سنه وعقم امرأته «سارة» جزاء إيمانه وإحسانه، وكمال إسلامه وإخلاصه، بعد ابتلائه بذبح ولده «إسماعيل» الذي لم يكن له ولد سواه، على كبر سنّه، ومثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين. وهناك سبب آخر لذكر إسحاق دون إسماعيل: وهو أن المقصود بالذكر أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب، وأما إسماعيل فليس من صلبه نبي إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإبراهيم من سلالة نوح، وكما هداه الله، هدى جده نوحا قبله، فأتاه النبوة والحكمة، وهذه نعمة من أعظم النعم، فهو من سلالة نبي، وأولاده أنبياء، فجعل من ذريته داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، فهي ذرية طيبة:{ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران 34/ 3].
وإنما ذكر نوحا؛ لأنه جد إبراهيم، كما تقدم، مما يرشد إلى فضل الله عليه في أصوله وفروعه، فهو كريم الآباء، شريف الأبناء، ولأن الله جعل الكتاب والنبوة في نسلهما معا، كما قال:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ} [الحديد 26/ 57].
وهدى الله كذلك من ذرية إبراهيم إلى النبوة والحكمة زكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وكل منهم من الصالحين قولا وعملا. وعود الضمير إلى إبراهيم؛ لأنه الذي سبق الكلام من أجله، ويجوز عوده إلى نوح؛ لأنه أقرب المذكورين.
وهدى أيضا من ذريته إسماعيل ابنه الصلبي وجد المصطفى صلى الله عليه وسلم، واليسع، ويونس، ولوطا، وكلا منهم فضلناه على العالمين.
لكن يأتي إشكال هنا وهو أن لوط عليه السلام ليس من ذرية إبراهيم، وإنما هو ابن أخيه هاران بن آزر، اللهم إلا أن يقال: إنه دخل في الذرية تغليبا، كما
في قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ، إِذْ قالَ لِبَنِيهِ:}
{ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ: إِبْراهِيمَ، وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ، إِلهاً واحِداً، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة 133/ 2] فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليبا، وكما قال:{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّ إِبْلِيسَ} [الحجر 30/ 15، ص 73/ 38] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود وذم على المخالفة؛ لأنه كان متشبها بهم، فعومل معاملتهم، ودخل معهم تغليبا، وإلا فهو كان من الجن، وطبيعته من النار، والملائكة من النور.
وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم، أو نوح على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل؛ لأن عيسى عليه السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه السلام من طريق أمه «مريم» فإنه لا أب له. ومثل ذلك دخول الحسن والحسين رضي الله عنهما في ذرية النّبي صلى الله عليه وسلم وهما أولاد فاطمة رضي الله عنها؛ لما ثبت
في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فسماه ابنا، فدل على دخوله في الأبناء.
ويلاحظ أن الله تعالى ذكر أولا أربعة من الأنبياء وهم: نوح، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر من الأنبياء: داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوطا، والمجموع ثمانية عشر.
والترتيب بينهم غير معتبر؛ لأن حرف الواو لا يوجب الترتيب.
وحكمة جعل الأنبياء في الآية ثلاثة أقسام هي ما يأتي:
1 -
داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون: وهؤلاء جمعوا بين النبوة والرسالة وبين الملك والإمارة والحكم، فداود وسليمان كانا ملكين، وأيوب
كان أميرا، ويوسف كان وزيرا وحاكما متصرفا، وموسى وهارون كانا حاكمين، ولم يكونا ملكين. وقد ذكرهم القرآن على طريقة الترقي في هدى الدين؛ فأفضلهم موسى وهارون، ثم أيوب ويوسف، ثم داود وسليمان.
وقوله: {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي بالجمع بين نعم الدنيا والرياسة، وبين هداية الدين وإرشاد الناس.
2 -
زكريا ويحيى وعيسى وإلياس: وهؤلاء امتازوا بالزهد في الدنيا، فوصفهم الله بالصالحين.
3 -
إسماعيل واليسع ويونس ولوط: وهؤلاء لم يكونوا ملوكا كالقسم الأول، ولا زهادا كالقسم الثاني، وإنما لهم أفضلية على العالمين في زمانهم، فالمنفرد منهم أفضل من قومه، والموجود منهم اثنان فأكثر أفضل من أقوامهم، وقد يكون أحدهم أفضل من الآخر، فإبراهيم أفضل من لوط المعاصر له، وموسى أفضل من أخيه ووزيره هارون، وعيسى أفضل من ابن خالته يحيى عليهم السلام.
ثم ذكر الله تعالى فضله على هؤلاء الأنبياء، فقال:{وَمِنْ آبائِهِمْ..} . أي وهدينا بعض آبائهم، وذرياتهم، وإخوانهم، لا كلهم؛ إذ لم يكن الكل مهديا إلى الخير، كأبي إبراهيم، وابن نوح، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ، وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} [الحديد 26/ 57].
ثم وصفهم الله بما خصهم به فقال: ولقد {اِجْتَبَيْناهُمْ..} . أي ولقد اصطفيناهم واخترناهم وخصصناهم بمزايا كثيرة، وهديناهم إلى الصراط المستقيم:
وهو الدين الحق القويم.
ذلك الهدى الذي هدى به هؤلاء الأنبياء والمرسلين لإصابة الدين الحق، هو هدى الله الخالص وتوفيقه، دون هداية من عداه. والهداية نوعان: إما هداية محضة من الله لا تنال بالسعي والكسب وهي النبوة، وهي المشار إليها في قوله تعالى لنبيه:{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى} [الضحى 7/ 93]. وإما هداية تنال بالسعي والكسب مع التوفيق الإلهي لنيل المراد.
ولو أشرك هؤلاء المهتدون بربهم، مع فضلهم ورفعتهم درجات، لبطل أجر عملهم كغيرهم في حبوط أعمالهم، وهو تشديد في أمر الشرك وتغليظ لشأنه، كقوله تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.} . [الزمر 65/ 39] وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، كقوله:{قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ} [الزخرف 81/ 43] وقوله: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ} [الأنبياء: 17/ 21] وقوله: {لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ، سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} [الزمر 4/ 39].
أولئك المذكورون، رسالتهم واحدة وهي الدعوة إلى التوحيد لله تعالى، وهم الذين آتيناهم الكتاب (أراد جنس الكتاب): وهو ما ذكر في القرآن من صحف إبراهيم وموسى وزبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى، وآتيناهم الحكم:
أي الحكمة وهي العلم النافع والفقه في الدين، ويتفرع عنه الحكم والقضاء بين الناس لفصل الخصومات، والنبوة، أي جعلناهم أنبياء يوحى إليهم من الله حكمه وأمره ودينه، وبعضهم أوتي النبوة صبيا كيحيى وعيسى عليهما السلام، وبعضهم جمع العطايا الثلاث كإبراهيم وموسى وعيسى وداود، قال تعالى حكاية عن إبراهيم:{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} [الشعراء 83/ 26] وقال حكاية عن موسى:
{فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء 21/ 26] وقال عن داود: {يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ}
[ص 26/ 38] وقال في داود وسليمان: {وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء 79/ 21].
ومنهم من أوتي الحكم والنبوة كالأنبياء الذين حكموا بالتوراة، ومنهم من لم يؤت إلا النبوة فقط.
فإن يكفر بالكتاب والحكم والنبوة هؤلاء المشركون من أهل مكة، فقد وكلنا برعايتها وعنايتها، ووفقنا للإيمان بها قوما كراما ليسوا بها بكافرين، آمنوا بها وعملوا بأحكامها ودعوا الناس إليها، آمن بعضهم فورا، وسيؤمن بعضهم بعدئذ. أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله:{فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ} يعني أهل مكة، يقول: إن يكفروا بالقرآن، فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين، يعني أهل المدينة والأنصار
(1)
.
والأصح أن المراد بالموكلين بها هم أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم مطلقا. ثم ربط الله تعالى بين هؤلاء الأنبياء وخاتم النبيين، فقال:{أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ..} .
أي أولئك الأنبياء المذكورون الثمانية عشر الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة، وما أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان هم أهل الهدى الكامل من الله، لا غيرهم، فبهداهم اقتده، أي اقتد واتبع هداهم في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته والأخلاق الحميدة.
وإذا كان هذا أمرا للرسول صلى الله عليه وسلم، فأمته تبع له فيما يشرعه ويأمرهم به. قال البخاري عند هذه الآية بسنده عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي ص سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا:{وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ} إلى قوله:
{فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} ثم قال: هو منهم.
(1)
تفسير الطبري: 175/ 7