الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
إن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد، ولما حكى تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد، وإبطال الشرك، وأبان الله تعالى ذلك الدليل بالوجوه الواضحة، شرع بعده في تقرير أمر النبوة، فقال:
{وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} حيث أنكروا النبوة والرسالة، فهذا بيان وجه نظم هذه الآيات
(1)
.
التفسير والبيان:
إن منكري الوحي الذين يكفرون برسل الله: وهم إما قريش أو طائفة من اليهود، كما ذكر في سبب النزول، ما عرفوا الله حق معرفته وما عظموه حق تعظيمه؛ إذ كذبوا رسله إليهم، وقالوا: ما أنزل الله كتابا من السماء.
قال ابن كثير: والأول (أي نزولها في قريش) أصح؛ لأن الآية مكية، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من البشر
(2)
، كما قال:{أَكانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النّاسَ} [يونس 2/ 10] وقال عز وجل:
{وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا: أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً. قُلْ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً} [الإسراء 94/ 17 - 95] وقال هاهنا: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا: ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} .
والواقع أن من عرف الله حقيقة، وأدرك أنه القادر على كل شيء، والعالم بكل شيء، ووسعت رحمته كل شيء، أيقن أن الإنسان بأشد الحاجة إلى الكتاب
(1)
تفسير الرازي: 72/ 13
(2)
تفسير ابن كثير: 156/ 2
الإلهي، والاهتداء بهدي الأنبياء والمرسلين، لإحراز السعادة الأبدية، وتحقيق الرقي الإنساني مادة ومعنى، فقد كان البشر البدائيون فوضى، والعالم يئن من الاضطراب والقلق، فكانت رسالة الرسل أداة تنظيم المجتمع، وواسطة الرقي، وسبيل الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، والحد من غطرسة الحاكم وظلم الفرد والجماعة، فمن أنكر رسالة الرسل ما عرف الله حق المعرفة، ولا قدرة حق قدره.
ثم ذكر الله الدليل الحسي على منكري الوحي والرسالة من مشركي قريش، وأمر الله نبيه محمدا أن يقول لهم: من أنزل كتاب التوراة على موسى بن عمران، الذي كان نورا بدد الظلام، وهدى للناس الذين أخرجهم من الضلال إلى نور الحق، وصاروا خلقا آخر بسبب الاهتداء بهدي الله، وأنتم تعترفون بالتوراة إذ قلتم:{لَوْ أَنّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنّا أَهْدى مِنْهُمْ} [الأنعام 157/ 6].
وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً} هذا لليهود الذين أخفوا صفة النّبي صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأحكام، والمعنى: تجعلون جملتها قراطيس أي قطعا تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم، وتحرفون منها ما تحرفون، وتبدلون منها ما تبدلون، وتقولون: هذا من عند الله، أي في كتابه المنزل، وما هو من عند الله.
وإذا جرينا على أن الأصح في سبب نزول هذه الآية وهو كونها في مشركي قريش، فيظهر إشكال، إذ كيف يكون الخطاب في أول الآية:{قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ} لقريش، ونهايتها {تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ} لليهود؟ والجواب: إذا كان سبب النزول هو اليهود، فأول الآية وآخرها فيهم، وإذا كان سبب النزول هو مشركي قريش، فتأويل الآية: من أنزل التوراة على موسى نورا وهدى للناس، وقد كانت كذلك حتى غيروها وحرّفوها، ونسوا حظا كثيرا منها، وجعلوها قراطيس مقطعة، يبدونها عند الحاجة، فإذا استفتي أحد
أحبارهم (علمائهم) في مسألة، أظهر منها ما يتفق مع هواه، وأخفى كثيرا من أحكام الكتاب، والسبب أن الكتاب محجور عليه بأيديهم، ولم يكن في أيدي العامة نسخ منه، وهذا الإخفاء محصور فيما تذكروه، لا ما نسيه متقدمو اليهود من الكتاب بضياعه عند تخريب بيت المقدس، وإجلاء اليهود إلى العراق، وهو ما أشار إليه تعالى بقوله:{وَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة 13/ 5] ثم كرر ذلك في الآية التالية بعدها فقال: {فَنَسُوا حَظًّا} وقد كتموا صفة النّبي صلى الله عليه وسلم، والبشارة به، وحكم الزنى وهو الرجم.
فأنتم أيها المشركون لا تثقوا بأقوال اليهود أشد أعداء النّبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى منسجم مع قراءة يجعلونه بالياء، أما على قراءة {تَجْعَلُونَهُ} بالتاء، فيكون الله قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ هذه الآية على اليهود وغيرهم بالخطاب لهم.
قال مجاهد: قوله تعالى: {قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى} خطاب للمشركين، وقوله:{تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ} لليهود، وقوله:{وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا..} . للمسلمين.
قال القرطبي: وهذا يصح على قراءة من قرأ يجعلونه قراطيس بالياء. والوجه على قراءة التاء أن يكون كله لليهود، ويكون معنى {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا} على وجه المنّ عليهم بإنزال التوراة.
والخلاصة: أن الآية {قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ.} . إن كانت واردة في حق قريش، فيمكن جعل أولها فيهم، وآخرها في اليهود، على قراءة الياء يجعلونه. وأما على قراءة التاء فلا تفهم إلا بجعلها كلها لليهود.
وقوله: {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} الخطاب: إما في حق العرب، كما قال مجاهد: هذا خطاب للعرب، وفي رواية عنه: للمسلمين، ومآلهم
واحد، لأن ما علمه العرب نقلوه إلى سائر المسلمين. وكما قال قتادة: هؤلاء مشركو العرب، والمعنى: وعلمكم الله بالقرآن من أخبار السابقين، وأنباء اللاحقين، ما لم تكونوا تعلمون ذلك، لا أنتم ولا آباؤكم. وفي ذلك امتنان من الله على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإنزال هذا القرآن عليهم لبيان أصول الاعتقاد مع الدليل، وإتمام مكارم الأخلاق، وتشريع العبادات لتزكية النفوس وتطهيرها، والمعاملات لنفع الأفراد والجماعات، وتقرير أصول الحياة كالحرية والكرامة الإنسانية والمساواة بين الناس، فلا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى أو بالعمل الصالح.
وقال الزمخشري وغيره: الخطاب في هذه الآية: {وَعُلِّمْتُمْ.} . لليهود، أي علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مما أوحى الله إليه ما لم تعلموا أنتم مع أنكم حملة التوراة، ولم تعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم، كقوله تعالى:{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل 76/ 27]. وأضاف الزمخشري بصيغة التضعيف قائلا: وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش، كقوله تعالى:{لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ} [يس 6/ 36]
(1)
.
وعلى رأي الزمخشري يكون المقصود المنّ على اليهود بإنزال التوراة فيهم.
ثم قال الله لنبيه: {قُلِ: اللهُ} أي قل يا محمد: الله أنزل الكتاب على موسى، وهذا الكتاب عليّ، أو قل: الله علمكم الكتاب، قال ابن عباس: أي قل: الله أنزله. قال ابن كثير: وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة.
{ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أي ثم دعهم واتركهم في جهلهم وضلالهم
(1)
الكشاف: 516/ 1
يلعبون، حتى يأتيهم من الله اليقين (الموت) فسوف يعلمون، ألهم العاقبة، أم لعباد الله المتقين؟! ثم حدد تعالى مهمة القرآن فقال:{وَهذا كِتابٌ.} . أي وهذا القرآن كتاب أنزلناه، يهدي إلى الحق وإلى سواء السبيل، كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى، وقد جعلناه كثير البركة والخير، ومؤيدا لما تقدمه من الكتب، ومهيمنا عليها، يبشر بالجنة والثواب والمغفرة من أطاع الله، وينذر بالنار والعقاب من عصى الله، ولينذر أهل أم القرى: مكة، ومن حولها من سائر الناس، أي من أحياء العرب ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم، كما قال تعالى في آية أخرى:{قُلْ: يا أَيُّهَا النّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف 158/ 7] وقال: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام 19/ 6] وقال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ، فَالنّارُ مَوْعِدُهُ} [هود 17/ 11] وقال: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان 1/ 25] وقال: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ: أَأَسْلَمْتُمْ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} [آل عمران 20/ 3] وثبت
في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي» وذكر منهن:
«وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» .
ولهذا قال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي كل من آمن بالبعث والمعاد وقيام الساعة أو اليوم الآخر يؤمن ويصدق بصحة هذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن. هؤلاء المؤمنون هم الذين يحافظون على صلواتهم، أي يقيمون ما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها، ويسرعون إلى كل أمر آخر أمروا به.