الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما لم تصيدوه، أو يصد لكم». وتوسع الحنفية فأجازوا أكل الصيد للمحرم على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد من أجله، عملا بظاهر الآية،
وبما رواه محمد عن أبي حنيفة عن ابن المنكدر عن طلحة بن عبيد الله:
وروى مسلم من حديث أبي قتادة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا، وخرجنا معه، فصرف نفرا من أصحابه فيهم أبو قتادة فقال: خذوا ساحل البحر حتى تلقوني، قال: فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا قيل:
يا رسول الله، أحرموا كلهم إلا أبا قتادة، فإنه لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش، فحمل عليها أبو قتادة، فأصاب منها أتانا، فنزلوا فأكلوا من لحمها، قال: فقالوا: أكلنا لحما ونحن محرمون؟» إلخ القصة، وفيها:«أنهم استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل معكم أحد أمره أو أشار عليه بشيء، قال: لا، قال: فكلوا» .
ثم ختم الله تعالى بيان حكم الصيد حال الإحرام بالأمر بالتقوى، كما هو الشأن الغالب في تبيان الأحكام، فقال:{وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي اتقوا فيما نهاكم عنه من الصيد ومن جميع المعاصي كالخمر والميسر، واخشوه واحذروه بطاعته فيما أمركم به من الفرائض، فإنكم ستعرضون عليه يوم الحشر، ومصيركم ومرجعكم إليه، فيحاسبكم حسابا عسيرا، يعاقب العاصي، ويثيب الطائع. وهذا تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم، والتذكير بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير.
فقه الحياة أو الأحكام:
1 -
الدنيا كلها دار ابتلاء واختبار، وقد اختبر الله تعالى المؤمنين ليمتحن مدى صلابتهم في التمسك بأحكام دينهم وأصول شرعهم، اختبرهم بالصيد مع
الإحرام وفي الحرم، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعا عند الجميع منهم، ومصدر رزق ومتعة وتسلية، وذلك كما اختبر بني إسرائيل في ألا يعتدوا في السبت، فاحتالوا يوم الجمعة على صيد السمك بإقامة حواجز أمام حركة الجزر البحري بعد المد الحامل للسمك، ثم أخذوا ما حجز يوم الأحد، أما المؤمنون فقد امتثلوا المنع والحظر.
2 -
الصحيح أن الخطاب في الآية لجميع الناس محلّهم ومحرمهم، لقوله تعالى:{لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ} أي ليكلفنكم، والتكليف كله ابتلاء، وإن تفاضل في الكثرة والقلة، وتباين في الضعف والشدة.
3 -
احتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن الصيد للآخذ لا لمن أثاره (المثير) لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا.
4 -
كره مالك صيد أهل الكتاب ولم يحرمه، لقوله تعالى:{تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ} يعني أهل الإيمان، لأن صدر الآية:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فخرج عنهم أهل الكتاب. وخالفه الجمهور، لقوله تعالى:{وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ} والصيد عندهم مثل ذبائحهم. وأجاب المالكية بأن الآية تضمنت أكل طعامهم، والصيد نوع أخر، فلا يدخل في عموم الطعام، ولا يتناوله مطلق لفظه. لكن هذا الجواب ضعيف، لأن الصيد كان مشروعا عند أهل الكتاب، فيجوز لنا أكله، لتناول اللفظ له، فإنه من طعامهم كما ذكر القرطبي.
5 -
هل يجوز للمحرم ذبح الصيد؟ قال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز ذبح المحرم للصيد، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله:{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} فصار المحرم ليس أهلا لذبح الصيد. وقال الشافعي: ذبح المحرم للصيد جائز، لأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم، مضاف إلى محله وهو الأنعام، فأفاد مقصوده من حلّ الأكل، كذبح الحلال.
6 -
هل تستثنى السباع من صيد البر؟ للعلماء آراء ثلاثة:
قال مالك: كل شيء لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها، فلا يقتله المحرم، وإن قتله فداه. ولا بأس بقتل كل ما عدا ذلك على الناس في الأغلب، مثل الأسد والذئب والنمر والفهد، وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحدأة،
لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن عائشة: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحديا» . والخلاصة: أنه لا بأس بقتل المذكور في هذا الحديث ويقاس عليها السباع.
وأما قاتل الزّنبور والبرغوث والذباب والنمل ونحوه فيطعم قاتله شيئا في رأي مالك. وثبت عن عمر إباحة قتل الزنبور.
وقال أبو حنيفة: لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب العقور والذئب خاصة، سواء ابتدأه أو ابتدأهما، وإن قتل غيره من السباع فداه، فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شيء عليه. ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحداة، لأن النّبي صلى الله عليه وسلم خص دوابّ بأعيانها، وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها، فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء فيدخل في معناها. والخلاصة: لا بأس بقتل المذكور في الحديث، ولا يقاس عليها السباع.
أما الذئب فهو كالكلب.
وقال الشافعي: كل ما لا يؤكل لحمه، فللمحرم أن يقتله، وصغار ذلك وكباره سواء، إلا السّمع وهو المتولد بين الذئب والضبع. وليس في الرّخمة والخنافس والقردان والحلم (الصغيرة من القردان) وما لا يؤكل لحمه شيء، لأن هذا ليس من الصيد، لقوله تعالى، {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً} فدل أن الصيد الذي حرّم عليهم: ما كان قبل الإحرام حلالا. أما القملة فتفدى
وإن كانت تؤذي، لأنها مثل الشعر والظفر ولبس المخيط، لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته، فكأنه أماط بعض شعره، فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي. والخلاصة: كل ما يؤذي مما ذكر في الحديث ونحوه من السباع، وكذا الخنافس والقردان لا شيء في قتله.
6 -
صيد الحرم المكي والمدني: أي حرم مكة وحرم المدينة، وزاد الشافعي حرم الطائف: لا يجوز قطع شجره، ولا صيد صيده، ومن فعل ذلك أثم ولا جزاء عليه في مذهبي مالك والشافعي، ودليل التحريم
قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «اللهم إن إبراهيم حرّم مكة، وإني أحرّم المدينة مثل ما حرّم به مكة، ومثله معه، لا يختلى خلاها
(1)
، ولا يعضد شجرها، ولا ينفّر صيدها» ودليل عدم أخذ الجزاء: عموم
قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا أو أوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا
(2)
» فأرسل صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد، ولم يذكر كفارة.
وقال أبو حنيفة: صيد المدينة غير محرّم، وكذلك قطع شجرها،
لحديث سعد بن أبي وقاص عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها، فخذوا سلبه» أي ما يكون معه من متاع وسلاح، لكن اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة، فدل ذلك على أنه منسوخ. واحتج لهم الطحاوي أيضا
بحديث أنس: «ما فعل النّفير؟» فلم ينكر صيده وإمساكه.
(1)
الخلى: النبات الرقيق ما دام رطبا، ويختلى: يقطع.
(2)
عير: جبل بناحية المدينة. وأما ثور فهو جبل بمكة، وذكره هنا وهم من الراوي وخطأ. والصرف: التوبة، والعدل: الفدية.
قال القرطبي: وهذا كله لا حجة فيه. أما الحديث الأول فليس بالقوي، ولو صح لم يكن في نسخ أخذ السّلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة، فكم من محرّم ليس عليه عقوبة في الدنيا. وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم.
7 -
ذكر الله تعالى جزاء صيد الإحرام حال القتل العمد، والمتعمد: هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام، ولم يذكر المخطئ والناسي، والمخطئ: هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا، والناسي: هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه.
فاختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال: منها قول الجمهور: يجب الجزاء على قتل صيد الإحرام مطلقا، ذاكرا أم ناسيا، وقد ثبت وجوب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسنة أي بما ورد من الآثار عن عمر وابن عمر، ولأن الله تعالى أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد، ولا فرق بين أن يكون ذاكرا للإحرام أو ناسيا له،
ولأن النّبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضّبع فقال: «هي صيد» وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا، ولم يقل عمدا ولا خطأ. وقوله:«متعمدا» خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة.
وقال أحمد في رواية عنه والطبري: لا شيء على المخطي والناسي، عملا بالنص القرآني.
8 -
حالة العود أو التكرار: إن قتل المحرم في إحرامه شيئا من الصيد، ثم عاد إلى القتل مرة أخرى، فعليه في رأي الجمهور (مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم) الجزاء كلما قتل، لقوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ، وَأَنْتُمْ حُرُمٌ..} . الآية.. فالنهي دائم مستمر عليه، ما دام محرما، فمتى قتله، فالجزاء لأجل ذلك لازم له.
9 -
دل قوله تعالى: {فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} على أن الواجب
عليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النّعم. وهذا مؤيد لرأي الجمهور غير أبي حنيفة وأبي يوسف، كما تقدم في تفسير الآية.
والجزاء إنما يجب بقتل الصيد، لا بنفس أخذه، كما قال تعالى، فمن أخذ الصيد ثم حبسه بعد أن نتف ريشه أو قطع شيئا من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد، فلا شيء عليه في مذهب مالك.
10 -
جزاء الصيد شيئان: دواب وطير، فيجزى عند الشافعي ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة، ففي النعامة: بدنة، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش: بقرة، وفي الظبي: شاة، أي أن المثل في رأيه هو الأصل في الوجوب إن وجد، فإن عدم يقوم المثل وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشيء في المتلفات.
وأقل ما يجزئ عند مالك: ما استيسر من الهدي وكان أضحية، وذلك كالجذع من الضأن، والثّنيّ مما سواه، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك، ففيه إطعام أو صيام، وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة، فإن في الحمامة منه شاة، اتباعا للسلف في ذلك.
وقال أبو حنيفة: إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخلقة، فيقوّم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله، فيشتري الصائد بتلك القيمة هديا إن شاء، أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين، كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من شعير أو تمر.
11 -
من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام، فماتت، فعليه في كل فرخ شاة. قال مالك: وفي صغار الصيد مثل ما في كباره، وفي بيض النعامة عشر ثمن البدنة، وفي بيض الحمامة المكية عشر ثمن الشاة. وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة، بدليل
ما أخرج الدارقطني عن كعب بن عجرة أن النبي
صلّى الله عليه وسلّم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه.
وروى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في كل بيضة نعام: صيام يوم أو إطعام مسكين» .
وأما ما لا مثل له كالعصافير والفيلة: فقيمة لحمه أو عدله من الطعام، لأن المراعى فيما له مثل وجوب مثله، فإن عدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره، ولأن العلماء أجمعوا على اعتبار القيمة فيما لا مثل له.
12 -
قال الشافعي والحسن البصري: إذا اتفق الحكمان لزم الحكم، وإن اختلفا نظر في غيرهما، ولا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام، لأنه أمر قد لزم. وقال مالك: يخيّر الحكمان قاتل الصيد كما خيّره الله في أن يخرج {هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ، أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ، أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً} فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام، ثم خيّر في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوما.
13 -
هل يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين؟ فيه رأيان:
قال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين، لأن ظاهر الآية يقتضي جانيا وحكمين، ولأنه قد يتهم في حكمه لنفسه.
وقال الشافعي وأحمد: يكون الجاني أحد الحكمين لعموم الآية، ولأن عمر فيما رواه ابن جرير حكّم معه جانيا محرما قتل ظبيا، فحكما فيه جديا قد جمع الماء والشجر.
14 -
إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد، فقال مالك وأبو حنيفة:
على كل واحد جزاء كامل، لأن قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً، فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} خطاب لكل قاتل، وكل واحد من القاتلين قاتل نفسا على التمام والكمال، بدليل قتل الجماعة بالواحد اتفاقا.
وقال الشافعي: عليهم كلهم كفارة واحدة، لقضاء ابن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس بذلك، روى الدارقطني أن موالي لابن الزبير قتلوا ضبعا، فحكم عليهم ابن عمر بكبش.
15 -
قال أبو حنيفة: إذا قتل جماعة صيدا في الحرم المكي، وكلهم محلّون، عليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل والحرم، على كل واحد جزاء كامل. ودليله أن الجناية في الإحرام على العبادة قد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه. وإذا قتل المحلّون صيدا في الحرم، فإنما أتلفوا دابة محرمة، بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة، فإن كل واحد منهم قاتل دابة، ويشتركون في القيمة.
وقال مالك: على كل واحد منهم جزاء كامل، بناء على أن الرجل يكون محرما بدخوله الحرم، كما يكون محرما بتلبيته بالإحرام. قال ابن العربي:
وأبو حنيفة أقوى منا.
16 -
يرى المالكية أن الحكمين إذا حكما بالهدي فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإشعار والتقليد، ويرسل من الحلّ إلى مكة. وقال الشافعي: لا يحتاج الهدي إلى الحل، وإنما يبتاع في الحرم ويهدى فيه. واتفقوا على أنه ينحر في مكة ويتصدق به فيها، لقوله تعالى:{هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ} ولم يرد الكعبة بعينها، فإن الهدي لا يبلغها، إذ هي في المسجد، وإنما أراد الحرم.
أما الإطعام فيكون في رأي المالكية الراجح في الحرم وغيره، وفي مذهب الشافعي: في مكة لأنه بدل عن الهدي، وفي رأي أبي حنيفة: بموضع الإصابة مطلقا، اعتبارا بكل طعام وفدية، فإنها تجوز بكل موضع.
17 -
الكفارة بإطعام مساكين إنما هي عن الصيد لا عن الهدي، فيقوم الصيد، وينظركم ثمنه من الطعام، فيطعم لكل مسكين مدا أو يصوم مكان كل
مد يوما، ويخير الجاني في رأي جمهور الفقهاء بين الخصال الثلاث (الهدي أو الإطعام أو الصيام) سواء كان موسرا أو معسرا، لأن {أَوْ} للتخيير.
وقال الحنفية: يتصدق على كل مسكين بنصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو شعير، والتخيير محصور بالقيمة، يشتري بها هديا أو طعاما أو يصوم.
ووقت تقدير قيمة المتلف مختلف فيه، فقال قوم وهو الصحيح عند المالكية: يوم الإتلاف، وقال آخرون: يوم القضاء، وقال آخرون: يلزم المتلف أكثر القيمتين من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم. والأرجح الرأي الأول، لأنه الوقت الذي تعلق به حق المتلف عليه.
18 -
الصيام في رأي الجمهور: يصوم عن كل مدّ يوما، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة. وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل مدين (نصف صاع) يوما، اعتبارا بفدية الأذى.
19 -
صيد البحر حلال لكل محرم، للآية:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} والمراد بالصيد هنا المصيد، وأضيف إلى البحر، لأنه السبب، وأما طعام البحر فهو ما لفظه البحر أو ألقاه.
ويؤكل في رأي الجمهور كل ما في البحر من السمك والدواب، وسائر ما في البحر من الحيوان، سواء اصطيد أو وجد ميتا أو كان طافيا،
لقوله صلى الله عليه وسلم في البحر فيما رواه مالك والنسائي وغيرهما: «هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته» وأصح ما في الموضوع من جهة الإسناد
حديث جابر في الحوت الذي يقال له «العنبر» خرجه الصحيحان، وفيه: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فأكله» .
وقال أبو حنيفة: لا يؤكل السمك الطافي، ويؤكل ما سواه من السمك،
ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك؛ لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}
ولما رواه أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبد الله عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا ما حسر
(1)
عنه البحر وما ألقاه، وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه» قال الدارقطني: تفرد به عبد العزيز بن عبيد الله، عن وهب بن كيسان عن جابر، وعبد العزيز ضعيف لا يحتجّ به.
20 -
الحيوان البرمائي: اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر، هل يحل صيده للمحرم أم لا؟ قال مالك: كل ما يعيش في البر، وله فيه حياة فهو صيد البر، إن قتله المحرم وداه. ويجوز عنده أكل الضفادع والسلاحف والسرطان، وقال في المدونة: الضفادع من صيد البحر
(2)
.
ولا يجوز أكل الضفادع في بقية المذاهب، ويجوز عند الشافعي أكل خنزير الماء وكلب الماء، ولا يجوز عنده التمساح ولا القرش والدّلفين
(3)
، وكل ماله ناب
لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب.
21 -
أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه، لعموم قوله تعالى:
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً}
ولما رواه الأئمة عن الصعب بن جثّامة الليثي أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودّان، فرده عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهه من الكراهة قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم».
(1)
حسر ونضب وجزر: بمعنى واحد.
(2)
تفسير القرطبي: 320/ 6
(3)
القرش: دابة مفترسة من دواب البحر المالح، والدلفين بالضم: دابة بحرية تنجي الغريق، والعامة تقول: الدرفيل.
22 -
ما يأكله المحرم من الصيد البري: قال الجمهور: إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له، ولا من أجله،
لما رواه الترمذي والنسائي والدارقطني عن جابر: أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم» قال الترمذي: هذا أحسن حديث في الباب. فإن أكل من صيد صيد من أجله فداه.
وقال الحنفية: أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال سواء صيد من أجله أو لم يصد، لظاهر قوله تعالى:{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فحرّم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم. واحتجوا بحديث البهزي وبحديث أبي قتادة المتقدمين.
وقال علي وابن عباس وابن عمر: لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال، سواء صيد من أجله أو لم يصد، لعموم قوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً} قال ابن عباس: هي مبهمة، ولحديث الصعب بن جثّامة الليثي المتقدم. ووجه هذا الحديث في رأي الجمهور: أن النّبي صلى الله عليه وسلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله، فرده لذلك، فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه لحديث أبي قتادة السابق ذكره
(1)
.
23 -
إذا أحرم شخص وبيده صيد أو في بيته عند أهله، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: إن كان في يده فعليه إرساله، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله. وقال الشافعي في أحد قوليه: سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله. وجه القول بإرساله: قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً} وهذا عام في الملك والتصرف كله.
ووجه القول بإمساكه: أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام، فلا يمنع من استدامة ملكه.
(1)
تفسير ابن كثير: 103/ 2 وما بعدها.
24 -
إن صاد الشخص الحلال صيدا في الحل، فأدخله الحرم، جاز له في مذهب المالكية التصرف فيه بكل نوع، من ذبحه، وأكل لحمه؛ لأنه معنى يفعل في الصيد، فجاز في الحرم للحلال، كالإمساك والشراء، ولا خلاف فيها. وقال أبو حنيفة: لا يجوز.
25 -
إذا دلّ المحرم حلالا على صيد، فقتله الحلال فقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا شيء عليه. وقال أبو حنيفة وأحمد: عليه الجزاء؛ لأن المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض، فيضمن بالدلالة كالوديع إذا دل سارقا على سرقة الوديعة.
وإذا دل المحرم محرما آخر، فقال الحنفية وأشهب من المالكية: على كل واحد منهما جزاء،
لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة: «هل أشرتم أو أعنتم؟» وهذا يدل على وجوب الجزاء.
وقال مالك والشافعي وأبو ثور: الجزاء على المحرم قاتل؛ لقوله تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} فعلق وجوب الجزاء بالقتل، فدل على انتفائه بغيره، ولأنه دال فلم يلزمه بدلالته غرم، كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في الحرم. قال القرطبي: وهذا أصح.
26 -
إذا كانت شجرة نابتة في الحل، وفرعها في الحرم، فأصيب ما عليه من الصيد، ففيه الجزاء، لأنه أخذ في الحرم. وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل، ففيه قولان عند المالكية: الجزاء نظرا إلى الأصل، ونفيه نظرا إلى الفرع.