الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
هذه الآيات تأكيد لما سبق في إثبات أصول الدين الثلاثة: إثبات وجود الصانع وتوحيده، وتقرير البعث والمعاد والجزاء، وتقرير النبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك بإقامة الأدلة عليها بطريق السؤال والجواب، وهذا نمط آخر في الإثبات، لترسيخ العقيدة في القلب، واجتذاب الأنظار واستمالة السامع حتى لا يمل.
وإذا ثبت كون الله هو الخالق والمبدع والمنشئ للسموات والأرض وما فيهما من كل متحرك وساكن، ثبت كونه قادرا على الإعادة والحشر والنشر، وثبت أنه تعالى الملك المطاع، والملك المطاع: من له الأمر والنهي على عبيده، ولا بد حينئذ من مبلّغ، والمبلّغ هو النبي، فكانت بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق أمرا لازما، وبذلك كانت الآية وافية بإثبات هذه الأصول الثلاثة.
التفسير والبيان:
قل يا محمد للمشركين من قومك: لمن هذه السموات والأرض، ولمن هذا الكون والوجود وما فيه؟ والمقصود من السؤال التبكيت والتوبيخ، لأنهم كانوا يعتقدون بأن الله هو الخالق، كما حكى تعالى عنهم:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [لقمان 25/ 31].
{قُلْ: لِلّهِ} هذا هو الجواب إما بالنيابة عنهم، لأنهم مقرّون بذلك، وإما بطريق الإلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه.
ومن صفات هذا الخالق التي ترغب في طاعته: صفة الرحمة، فإنه تعالى أوجب على ذاته الرحمة بخلقه. ومن مقتضيات الرحمة: الحشر يوم القيامة بلا شك للثواب والعقاب؛ لأنه متى عرف الإنسان ما قد ينتظره أقبل على الخير وكفّ عن الشر، فكان إيجاد هذا الوازع النفسي طريقا لتهذيب النفوس والرحمة
بالعباد، ولولا خوف العذاب يوم القيامة، لامتلأت الدنيا فسادا وفوضى وإجراما، ولضجّ العالم، واختل نظام المجتمع، فصار التهديد بهذا اليوم من مظاهر الرحمة.
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لما خلق الخلق، كتب كتابا عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي» أي لما أظهر قضاءه، وأبرزه لمن شاء، أظهر كتابا في اللوح المحفوظ أو فيما شاءه، مقتضاه خبر حق ووعد صدق أن رحمته تسبق غضبه وتزيد عليه.
وأخص الذين خسروا أنفسهم بإفسادها وتعطيلها استخدام العقل والعلم وعدم اهتدائها بالتذكير، كما أخصهم بالذم والتوبيخ من بين المجموعين إلى يوم القيامة؛ وسبب الخسارة: أنهم لا يؤمنون، أي لا يصدقون بالبعث والمعاد، ولا يخافون شر ذلك اليوم. هذا هو الواقع، لكن قوله تعالى جعل عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم أنفسهم، والأمر على العكس.
والجواب كما ذكر الزمخشري: معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله لاختيارهم الكفر، فهم لا يؤمنون.
وليس ملك السموات والأرض مجرد ملك فراغ، وإنما هو ملك شامل لكل شيء فيهما من ساكن ومتحرك، الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، لا إله إلا هو. وخص بالذكر ما سكن بالليل والنهار وإن كان داخلا في عموم ما في السموات والأرض، للدلالة على تصرفه تعالى بهذه الخفايا.
ثم إن كان ما في السموات والأرض خاضع لرقابة الله وتصرفه، فهو السميع المحيط سمعه بكل دقيق وكبير، يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، وهو أيضا العليم المحيط علمه بكل ما دقّ وعظم، والشامل سمعه كل مسموع كأقوال عباده وأصواتهم. والذي وسع علمه كل معلوم كحركات
المخلوقات وأسرارهم، وكا ذلك مؤد إلى الرقابة الإلهية والتصرف التام بكل شيء.
ثم أمر الله نبيه المبلّغ شرعه أمرا بما لزم عما سبق وبما هو نتيجة له، فقال له: قل يا محمد: لا أتخذ وليا ناصرا ينفعني أو يدفع ضررا عني إلا الله وحده لا شريك له، فإنه فاطر السموات والأرض، أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق، وهذا مثل قوله تعالى:{قُلْ: أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ} [الزمر 64/ 39].
وأما خلق السموات والأرض فكانتا أولا كتلة دخانية واحدة، ثم فصلتا، وهذا فيه أيضا فطر وشق، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما} [الأنبياء 30/ 21].
وإن الله أيضا هو الذي يطعم ولا يطعم أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم، لأنه تعالى منزّه عن الحاجة إلى كل ما سواه، كما قال تعالى:{وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات 56/ 51 - 58].
وفي هذه دلالة واضحة ترشد البشر إلى أنه يجب عليهم التماس الرزق من الله تعالى وحده، مع اتخاذ الأسباب الموصلة إليه من السعي والعمل والتدبير والبحث والتنقيب، لا من أي مخلوق سواه، سواء أكان بشرا أم صنما ووثنا، وسواء أكان البشر حاكما أم غير حاكم، فأرزاق العباد بيد الله تعالى وحده.
وإذ قامت لك يا محمد ولغيرك الأدلة على من يستحق الألوهية والعبادة واتخاذه وليا، فقل لهم: إني أمرت من ربي المتصف بهذه الصفات أن أكون أول من أسلم وخضع وذلّ وانقاد لله من هذه الأمة، ونهيت عن الشرك بالله أيا كان نوع الشرك، ومنه شرك الجاهلية القائم على اتخاذ الأصنام واسطة ووسيلة تقرب إلى الله زلفى.