الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث. ناقش الله تعالى أولا فريقا من الكفار ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان ينكر رسالة البشر، ويطلب أن يكون الرسول من جنس الملائكة. ثم ناقش ثانيا فريقا آخر ينكر البعث والحشر والنشر بعد الموت، ثم ذكر هنا الرد على من كان يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول، متهما إياه بالكذب في الظاهر، أو أنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون.
التفسير والبيان:
يواسي الله نبيه في تكذيب قومه له، ومخالفتهم إياه، وإيلامه بالإعراض عن دعوته، فيقول:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} أي قد علمنا بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم، كما جاء في قوله تعالى:{فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف 6/ 18] و {باخِعٌ نَفْسَكَ} أي مهلكها، وقوله:{فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ} [فاطر 8/ 35].
ومنشأ هذا التكذيب في الظاهر: هو العناد والجحود، كما قال تعالى:
{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ.} . أي لا يتهمونك بالكذب في الواقع، فأنت الصادق الأمين في نظرهم، فما جربوا عليك كذبا ولا خيانة، ولكنهم يعاندون الحق، ويجحدون بآيات الله، ويردونها بصدودهم.
روى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني: أن النّبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه، فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال: والله، إني لأعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لنبي عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد:{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} .
وقال أبو صالح وقتادة: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون.
هذا الموقف من المشركين شبيه تماما بموقف اليهود والنصارى المتقدم بيانه،
كل منهم يعلم حقيقة أن محمدا رسول الله، ولكنهم يعارضون الحق ويقاومونه عنادا منهم واستكبارا وحفاظا على مراكزهم بين الناس.
لهذا فلا تحزن أيها الرسول عليهم، واصبر على تكذيبهم وإيذائهم، كما صبر رسل الله قبلك وكما أوذوا، حتى يتوج الله جهودك بالفوز والغلبة، ويكلل مساعيك بتبليغ دعوتك بالنصر والانتقام من أعدائك المكذبين، كما نصر رسله الكرام السابقين.
ثم أكد تعالى هذا النصر وإنجازه لك كما نصر الرسل، فقال:{وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ} أي لا تغيير ولا خلف في وعد الله ووعيده، فوعد الله بالنصر في الدنيا والآخرة نافذ منجز لعباده المؤمنين، وكذا وعيده لا حق بالكافرين، كما ذكرت من آيات مماثلة في بيان المفردات.
ونظير هذه قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر 4/ 35] وقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ} [الحج 42/ 22].
والآية تسلية للنّبي صلى الله عليه وسلم بعد تسلية، وإرشاد إلى سنة شائعة في الرسل والأمم، وما على النبي إلا الصبر على الأذى والإعراض كما قال تعالى:{فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف 35/ 46] وقال أيضا: {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل 10/ 73].
وقد تحقق فعلا أثر الصبر، ونجحت دعوة الإسلام، وانتشرت في المشارق والمغارب، وظهرت حكمة تكرار التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأمثال هذه الآيات مع الأمر بالصبر مرارا وتكرارا؛ لأن التأسي والاصطبار يهوّن المصائب، ويؤذن بالفرج:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الانشراح 5/ 94 - 6].
ثم أكدّ لله تعالى عدم تبديل كلماته بقوله: {وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} أي ولقد أخبرناك من أخبار المرسلين التي تفيد تكذيب الناس لهم وصبرهم ثم نصر الله لهم كما قال: {إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} [غافر 51/ 40] وقال أيضا: {وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم 47/ 30] والنصر مقيد كما هو واضح في هذه الآية وغيرها بشرط توافر الإيمان الصحيح وصدق المؤمنين، كما قال تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج 40/ 22] وقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} [محمد 7/ 47].
وأراد الله أن يستأصل شدة وقع الحزن والألم على قلب النّبي صلى الله عليه وسلم بسبب إعراض قومه عن دعوته، فقال له:{وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ..} . أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك، فإن استطعت أن تطلب لنفسك نفقا في أعماق الأرض، فتسير فيه، أو سلّما في أجواء السماء، فترقى فيها إلى ما فوقها، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك، فأت بها، ولكنك مجرد رسول من عندنا، لا تستطيع شيئا إلا بإرادتنا، وكل رسول لا يقدر على شيء أبدا مما يعجز عنه البشر إلا بدعم من الله عز وجل.
ومن أمثلة اقتراحاتهم الإتيان بمعجزات مادية محسوسة كما طلب اليهود تماما:
تفجير ينبوع في الأرض، أو تنزيل كتاب من السماء ونحو ذلك، كما قال تعالى حاكيا مطالبهم:{وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ، حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ، قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي، هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء 90/ 17 - 93] أي أنك بشر لا تقدر على شيء مما يعجز عنه سائر البشر، ولا يستطيع إيجاده غير الله تعالى.