الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسَرَّت النفس أمسِ ذات الفرا
…
شات التي ريمُ جيدها صَنَمُ
ثم قال: «هذا بحر المنسرح فاعرفه: بحرٌ طروب إلى جارية وحشية عروب» .
وأقول: حسبنا أن نذكر من هذا البحر رائعة المتنبي التي أولها - وهو مما قاله في صباه:
أهلًا بدارٍ سباك أغيدها
…
أبعد ما بان عنك خردها
شرح القصيدة وتحليلها:
تبدأ القصيدة في روايتها المسندة، وفي سائر الكتب بهذا البيت:
من قبلها طبت في الظلال وفي
…
مستودع حيث يخصف الورق
ولا ينبغي أن يظن أن هناك نقصاً؛ فإن الرواية مجمعة على هذا الاستفتاح، وهو استفتاح غريب حقاً، وهو دال على حالة شعورية عجيبة، فكأن الشاعر طوى أشياء كثيرة في صدره، قفز منها إلى مقصوده الأعظم وشاغله الأقوى، أو كأنه لا يحفل بما تعارف عليه الشعراء في عصره من استفتاح القصائد، فكأنه لا يحب أن يرد طريقاً مسلوكاً. ولو وقع مثل هذا البدء في شعر شاعر من القوم في زماننا هذا لكان لنقادهم فيه ضجيج واحتفال
…
وقوله: «من قبلها» أي من قبل الخليقة، أضمر لغير مذكور، والعرب تفعل ذلك توسعاً واختصاراً وثقة بفهم السامع، وقد جاء منه في القرآن والشعر ما لا يحصى كثرة، كقوله تعالى:{كل من عليها فان (26)} [الرحمن: 26]، وقوله:{ما ترك على ظهرها من دابة} [فاطر: 45]، أضمر «الأرض» في الآيتين، وقوله:{فلولا إذا بلغت الحلقوم (83)} [الواقعة: 83]، وقوله:{كلا إذا بلغت التراقي (26)} [القيامة: 26]، أضمر «النفس والروح» في الآيتين، ومن ذلك إضمار «الخمر» في قول ابن المعتز:
وندمان دعوت فهب نحوي
…
وسلسلها كما انخرط العقيق
وقوله: «طبت في الظلال» أي في ظلال الجنة، حين كان في صلب آدم لما كان في الجنة، وهو قوله:«في مستودع» ، أي في صلب آدم قبل أن يهبط إلى الأرض، ومنه قوله تعالى:{فمستقر ومستودع} [الأنعام: 98]، أي مستقر في الأرحام، ومستودع في الأصلاب.
وقوله: «حيث يخصف الورق» يعني حيث خصف آدم وحواء عليهما الورق حيث بدت لهما سواءتهما. والخصف: ضم الشيء إلى الشيء وإلصاقه به، ومنه قولهم: خصفت النعل، أي رقعتها.
ثم هبطت البلاد لا بشر
…
أنت ولا مضغة ولا علق
يعني هبوطه وهو نطفة في صلب آدم، لم يصر علقاً ولا مضغة.
بل نطفة تركب السفين وقد
…
ألجم نسراً وأهله الغرق
يعني في صلب نوح، كما جاء في التنزيل:{وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون (41)} [يس: 41]، والسفين: جمع سفينة، واستعمل الجمع في موضع الواحد، كقولهم: شابت مفارقه، وإنما هو مفرق واحد.
وأراد بنسر: الصنم الذي كان قوم نوح يعبدونه. وإلجام الغرق: كناية عن وصول الماء إلى أفواههم التي هي موضع اللجام.
تنقل من صالب إلى رحم
…
إذا مضى عالم يدا طبق
الصالب: الصلب، وهو الظهر، قال تعالى:{يخرج من بين الصلب والترائب (7)} [الطارق: 7]، والعالم: بفتح اللام: قيل هو كل موجود سوى الله تعالى، وقيل: هم كل ذي روح، وقيل: هم الإنس والجن. والمراد به ها هنا: الإنس خاصة؛ لأن الذكر لهم. والطبق ها هنا: القرن من الناس؛ لأنهم كالطبق للأرض، يطبقون الأرض ثم ينقرصون، ويأتي طبق آخر. والمراد أنه صلى الله عليه وسلم تنقل في أصلاب كريمة، وتناسخته أرحام مطهرة، فأدته زاكي الحسب، نقي الأصول، وعن ابن عباس
في قوله تعالى: {وتقلبك في الساجدين (219)} [الشعراء: 219]، قال:«من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبيّاً» .
حتى احتوى بيتك المهيمن من
…
خندف علياء تحتها النطق
المراد بالبيت ها هنا: الشرف والنسب. والمهيمن: الشاهد، وهو صفة هذا الشرف: أي حتى احتوى شرفك الشاهد على فضلك أفضل مكان وأعلاه وأرفعه من مجد خندف وسامي شرفها. وخندف: لقب ليلى، وهي امرأة إلياس بن مضر، وهو من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم. والنطق: جمع نطاق، وهو في الأصل: تشدّ به المرأة وسطها فوق الثياب، ومنه أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر رضي الله عنهما. وضرب هذا مثلًا في ارتفاعه وتوسطه في عشريته وعزه، فجعله في علياء، وجعلهم تحته نطاقاً له.
وأنت لما ولدت أشرقت الـ
…
أرض وضاءت بنورك الأفق
هكذا يبدأ الشاعر بيته بالضمير المنفصل «أنت» ، ومجيء مثل هذا الضمير في مثل ذلك الموضع لا يأتي إلا في فحولة شعر وجسارة شاعر، فإذا عدم تلك الفحولة وفقد هذه الجسارة عاد غثاً بارداً، وانظره في قول عدي بن زيد العبادي، في إحدى غرره الأربع، كما يقول ابن سلام:
أرواح مودع أم بكور
…
أنت فانظر لأي حال تصير
وقد أدار النحويون على «أنت» في بيت عدي كلاماً كثيراً، فابسط لهم العذر، ولا تظن بهم إلا خيراً؛ لأنهم أصحاب صنعة ونظام، وقد أربكهم هذا الشاعر إرباكاً عظيماً، بذلك الضمير في هذا الموضع. والشاعر الفحل مختال تياه، يتلعب بالكلام كما يشاء!
وعلى أن استعمال هذا الضمير «أنت» في الشعر كثيراً ما يدل على التحنن والأنس والود بين المخاطب والمخاطب، وقد استعمله العباس في قصيدته هذه ثلاث مرات.
وأشرقت الأرض: إذا أضاءت وأنارت. ويقال: شرقت الشمس: إذا طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت. ويقال: ضاء المكان وأضاء، وضاءت النار وأضاءت، لغتان فاشيتان. قال الراجز:
قرب قلوصيك فقد ضاء القمر
والأفق: واحد الآفاق، وهي أطراف السماء ونواحيها التي مع الأرض. والأفق مذكر، بدليل قوله تعالى:{ولقد رآه بالأفق المبين (23)} [التكوير: 23].
وقال: «ضاءت بنورك الأفق» فأنث فعله حملًا على المعنى؛ لأنه أراد بالأفق الناحية، وقيل: إنه استعمل الواحد في موضع الجمع، كقوله تعالى:{ثم يخرجكم طفلاً} [غافر: 67] أي أطفالًا، وقوله:{والملائكة بعد ذلك ظهير (4)} [التحريم: 4]، أي ظهراء، وكقول الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تصحوا
…
فإن زمانكم زمن خميص
أي بطونكم.
فنحن في ذلك الضياء وفي النـ
…
ـنور وسبل الرشاد نخترق
السبل: الطرق، جمع سبيل، واختراقها: السير فيها.
ويبقى بيت من القصيدة جاء من زيادات بعض الكتب، وقد جاء بعد البيت الرابع، وبعضهم يجعله آخر القصيدة. وقد روي هذا البيت بروايات ثلاث:
الرواية الأولى:
وردت نار الخليل مكتتماً
…
تجول فيها وليس تحترق
والرواية الثانية:
وردت نار الخليل مكتتماً
…
في صلبه أنت؛ كيف يحترق
والرواية الثالثة:
يا برد نار الخليل يا سبباً
…
لعصمة النار وهي تحترق
وأضعف الروايات الرواية الثالثة، أما الأخريان فهما من أزكى الكلام وأشرفه، وأعلاهما عندي الرواية الثانية؛ لأن فيها صريح الدلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان سبباً لنجاة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام؛ ولأن الشطر الثاني فسر «مكتتماً» في الأول، فضلًا عما في البيت من إحكام الصنعة الشعرية وتوهجها، وتأمل مرة أخرى «أنت» كيف جاءت في البيت كالمنارة، مضيئة عالية، ومجيئها بعد الجار والمجرور وقبل الاستفهام يحمل القارئ والسامع على أن يقف عندها هنيهة، يندي لسانه ويرهف سمعه تشريفاً وإجلالًا للممدوح صلى الله عليه وسلم.
وبعد: فهذه قصيدة العباس بن عبد المطلب، عم المصطفى صلى الله عليه وسلم، في مديحه وتعظيمه، أرجو أن أكون قد وفقت في تحقيقها وجلائها، ولفت الأنظار إليها.
وبأبي أنت وأمي يا رسول الله! .
* * *