الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجيء الكاتب القادر المبين، فإذا بهذه الأشياء الحبيسة تنطلق من عقالها، وإذا بالأفكار والخواطر تأتيه من كل مكان، وتنثال عليه انثيالًا، وتزدحم أمامه ازدحاماً، وكأنها قوافي سويد بن كراع التي وصفها:
أبيت بأبواب القوافي كأنما
…
أصادي بها سرباً من الوحش نزعا
فيقيد منها الشارد، ويستدني منها البعيد، فيكون فرح القارئ بما قرأ معادلًا لسروره بما استخرج.
الجاحظ والعربية:
وقراءة الجاحظ إذا أخذت بحقها قادت إلى المكتبة العربية كلها، بفنونها وعلومها المختلفة، إذ كان الجاحظ كثير الإلمام بالعلوم العربية، لا يكاد يشذ عنه منها شيء وبخاصة في «رسائله» التي لم تؤت ما تستحقه من الدرس؛ لأن الناس شغلوا عنها بكتبه الأخرى: البيان والحيوان والبخلاء والعثمانية. على أن أهم ما تستثيره عندي قراءة الجاحظ الآن هو: ما حظ شباب هذا الجيل من كتب الجاحظ ومن إليه؟
لقد قال ابن خلدون قولته الشهيرة: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن - علم الأدب - وأركانه أربعة دواوين: وهي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها» .
ونعم، لقد أحسن كل الإحسان من عد هذه الكتب الأربعة أصول علم الأدب، فإن كتاب ابن قتيبة يدور حول اللغة، في تسمية الأشياء وخلق الإنسان والحيوان، وأصول الهجاء وضوابط الأبنية، وتقويم اللسان ولحن العامة. وكتاب المبرد كتاب لغة ونحو وأخبار - وبخاصة أخبار الخوارج - وكتاب الجاحظ دائر حول البيان والبلاغة والخطابة، مع الاسترسال إلى المعارف الأخرى، وكتاب القالي المعروف بالأمالي والنوادر، كتاب لغة وغريب وشعر، فمن حصّل هذه الكتب، ثم أطال الوقوف عندها والنظر فيها فاز بأوفر الحظ والنصيب.
وهذه الكتب كانت متاحة لنا في صدر شبابنا: في دار الكتب المصرية بباب الخلق، وفي مكتباتها الفرعية داخل القاهرة، وفي عواصم الأقاليم، ثم كانت تغص بها مكتبات الكليات الجامعية، بل في كثير من مكتبات المدارس الثانوية، ثم كانت تلك الكتب قريبة إلى عقولنا وقلوبنا بذكر أساتذتنا لها، ونقلهم عنها، وحثهم لنا عليها وإغرائهم بها، ومطالبتهم إيانا باستظهارها، غذ كانوا يرون أنها أوعية العلم ولا أوعية غيرها، وكذلك كانت مألوفة لنا بإحالة الأدباء والكتاب عليها في المجلات والدوريات الثقافية.
والآن: جفت الينابيع، وصوح النبت، فدار الكتب أصبحت كبئر معطلة ومكتبات الكليات الجامعية تطايرت محتوياتها إلى بيوت بعض الأساتذة: غنيمة باردة، وعارية غير مستردة، أما تعامل الأساتذة والكتاب مع هذه الكتب فأنت تعرفه!
وأسأل طلبتي في السنة النهائية (الليسانس) عن هذه الكتب فلا أظفر إلا بصبابة قول، لا تكاد تتجاوز اسم الكتاب، مع تخليط كثير في بعض أسماء الكتب وأسماء أصحابها
…
ولا تلوموهم ولوموا أنفسكم.
ثم أعود إلى مكتبتي وأطيل النظر إلى قسم الأدب منها، وأكرر سؤالًا أعرف ألا جواب له: من يقرأ هذه الكتب، كبارها وأوساطها وصغارها؟ بدءاً بالمفضليات والأصمعيات، وانتهاء بالكشكول والمخلاة للعاملي، وقروناً بين ذلك كثيراً: دواوين الشعر ومختارات الأدب والحماسات والأمالي والمجالس، وكتب المعاني وكتب الأمثال: تجارب أمم، وعقول أقوام استودعها بطون الكتب، وأدتها إلينا أجيال وفية من الرواة والحفظة والنساخ والمحققين، حفظوها وصانوها كما يصون كرام الأبناء ودائع الآباء.
وقل مثل هذا في سائر علومنا: تفسير القرآن وعلومه، ودواوين السنة، وكتب الفقه وأصوله، وعلم الكلام والتصوف والتاريخ والأنساب والبلدانيات (الجغرافيا) والمعارف العامة، واللغة والنحو والبلاغة. فمن يقرأ هذه الكتب الآن فضلًا عن اقتنائها؟