الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هارون الرشيد وصور شائهة:
ولن يتسع المقام هنا لذكر ما كان من هذا التخليط في كتابات الدارسين المحدثين، لكني أكتفي بذكر مثال واحد، من كتاب له عند الناس مكانة كبيرة، ذلكم هو كتاب «قصة الحضارة» لول ديورانت. يقول عن هارون الرشيد: «وتصور لنا القصص - وخاصة قصص ألف ليلة وليلة - هارون الرشيد، في صورة الملك المرح المثقف المستنير، العنيف في بعض الأوقات، الكريم الرحيم في أغلب الأحيان، المولع بالقصص الجميلة ولعاً يحمله على أن يسجلها ويحتفظ بها في ديوان محفوظات الدولة. وتبدو هذه الصفة كلها فيما كتبه عنه المؤرخون، إذا استثنيا منها مرحه، ولعل السبب في ذلك أن هذا المرح قد أغضب المؤرخين، فهم يصورونه أولًا وقبل كل شيء في صورة الرجل الورع المتمسك أشد التمسك بأوامر الدين، ويقولون إنه فرض أشد القيود على حرية غير المسلمين، وإنه كان يحج إلى مكة مرة كل عامين، وإنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة مع الصلوات المفروضة، ويقال: إنه كان يشرب الخمر، ولكن هذا لم يكن إلا سرّاً مع عدد قليل من خاصة أصدقائه. ويقال: إنه تزوج من سبع نساء
…
»، قصة الحضارة، الجزء الثاني من المجلد الرابع ص 90، 91 - ترجمة الأستاذ محمد بدران. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - الطبعة الثانية، القاهرة 1964 م.
فهذه صورة شائهة مهزوزة لهارون الرشيد، تتأرجح بين المدح والذم، وقد استخدم فيها المؤلف «منهج العكس» حيث يقدم صورة الرشيد كما جاءت في ألف ليلة وليلة، وهي صورة «الملك المرح» ، ولكن هذا المرح أغضب المؤرخين - وهو يقصد المؤرَّخين العرب المسلمين، بلا شك - فصوروه في صورة الورع المتمسك بالدين. فهؤلاء المؤرخون في نظر «ديورانت» كاذبون مزيفون، ساءهم مرح الرشيد، فاخترعوا له صورة معكوسة، عكس الواقع.
وفضلًا عن ذلك كله ففي كلام «ديورانت» خبط كثير، وجهل بتاريخ الأمة وشرعها. وتأمل قوله:«وتزوج من سبع نساء» ، وقد علق على هذه العبارة مترجم
الكتاب رحمه الله، فقال في الحاشية:«لعل المؤلف يضيف الجواري إلى الأزواج؛ لأن الإسلام يحرم الزواج بأكثر من أربع» ، وأقول: الصواب حذف «لعل» هذه.
ومن دقيق الفطنة هنا ما لاحظه الدكتور عبد العظيم الديب، قال:«إن ديورانت غيرَّ عبارة المؤرَّخين، فهم يقولون: «كان الرشيد يحج عاماً ويغزو عاما» ، فغيَّرها إلى «يحج كل عامين» وأسقط الغزو، وفي هذا ما فيه. (المنهج في كتابات الغربييَّن عن التاريخ الإسلامي للدكتور عبد العظيم الديب ص 108 - كتاب الأمة - قطر 141 هـ - 1990 م).
ونعم كان الرشيد رجلاً لا ينسى نصيبه من الدنيا، مقبلًا عليها، آخذاً حظّه منها، قال الأصمعي:«كان الرشيد يحب السمر ويشتهي أحاديث الناس» . لكن وراء ذلك دنيا حافلة بالغرائب والعجائب. قالوا: لم يكن أحد أحظى بالشعر منه، كما ذكر الجاحظ في الحيوان 4/ 383 - أي أكثر احتفالًا بالشعر، وقد اجتمع على مدحه من الشعراء ما لم يجتمع على أحد: أبو العتاهية، ومروان بن أبي حفصة، وسَلْم الخاسر، وابن مناذر، وأشجع السلمي، وكلثوم بن عمرو العتابي، ومنصور النمري، والعماني الراجز. وفوق هؤلاء جميعاً صديقه الأثير أبو نواس.
ومن وراء الشعر والشعراء كانت عناية الرشيد بالفقه والحديث واللغة والأدب، وما ظنك بملك يجتمع عنده الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض؟ وقد ألَّف له أبو يوسف «كتاب الخراج» ، واقرأ مقدمة هذا الكتاب، وتأمل وصية أبو يوسف للرشيد، ففيها من الإخلاص في النصح، والصراحة في التوجيه ما لم يقدم عليه أبو يوسف إلا لأنه يعلم أنه سيجد من الرشيد صدراً واسعاً وأذناً واعية.
وما ظنك أيضاً بملك يجتمع عنده سيبويه والكسائي، ويتناظران بحضرته في المسألة النحوية الشهيرة، المعروفة بالمسألة الزنبورية؟ وبحضرته أيضاً تناظر الكسائي مع المفضل الضبي والأصمعي، وأبي محمد اليزيدي، وأبي يوسف (وانظر مجالس العلماء للزجاجي).
وقال الذهبي في وصفه: «وكان شهماً شجاعاً حازماً جواداً ممدحاً، فيه دين وسنة، مع انهماكه على اللذات والقيان، وكان أبيض طويلًا، سميناً مليحاً، وقد وخطه الشيب. وكان يصلي في اليوم مائة ركعة إلى أن مات، ويتصدق كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان يخضع للكبار ويتأدب معهم» . العبر في خبر من عبر 1/ 312. وقال في سير أعلام النبلاء 9/ 290: «ومحاسنه كثيرة، وله أخبار شائعة في اللهو واللذات والغناء، والله يسمح له».
فهذا الذهبي مؤرخ الإسلام يذكر كل جوانب هارون الرشيد، فلا ينشر الحسنات ويطوي السيئات، وهكذا جمهور مؤرخي العرب المسلمين، لا ما يذهب إليه ول ديورانت ومن لفَّ لفَّه.
ويقول السيوطي عن الرشيد في تاريخ الخلفاء صفحة 284: «وكان يحب العلم وأهله، ويعظم حرمات الإسلام، ويبغض المراء في الدين، والكلام في معارضة النص، وبلغه عن بشر المريسي القول بخلق القرآن، فقال: لئن ظفرت به لأضربن عنقه. وروي أن أبا معاوية الضرير حدثه بحديث: «احتج آدم وموسى» (انظر تمام الحديث في صحيح البخاري، كتاب الأنبياء 4/ 192)، فقال رجل شريف من الحضور: فأين لقيه؟ فغضب الرشيد قال: النطع والسيف، زنديق يطعن في الحديث! فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول بادرة منه يا أمير المؤمنين، حتى سكن.
وقد سبق أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً، وكان يلبس قلنسوة مكتوباً عليها: غاز حاج، قال أبو المعالي الكلابي:
فمن يطلبْ لقاءك أو يُرِدْه
…
فبالحرمين أو أقصى الثغورِ
وقد حكم الرشيد ثلاثاً وعشرين سنة، بلغت فيها الدولة الإسلامية شأواً عظيماً من الرقي والحضارة. يقول ابن دحية:«وفي أيامه كملت الخلافة بكرمه وعدله وتواضعه وزيارته العلماء في ديارهم» .
وقد غزا الروم في القسطنطينية فصالحته الملكة إيريني، وافتدت منه مملكتها