الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عرف من السائل أنه ما أورد لفظ «المتوفي» على الوجه الذي يكسوه جزالة في المعنى وفخامة في الإيراد، وهو وجه القراءة المنسوبة إليه {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً} ، بلفظ بناء الفعل للفاعل، من إرادته معنى: والذين يستوفون مدد أعمارهم».
قضية لغوية:
وهذا الذي رأيته من تسويغ «توفى» ، وإخراجه من دائرة الخطأ المحض يقودنا إلى قضية لغوية كبيرة شغلت اللغويين قديماً وحديثاً، وهي قضية التصويب اللغوي، وقد بدأ التصنيف فيها مواكباً لجمع اللغة وتدوينها، على نحو ما نرى عند الكسائي (189 هـ) في الكتاب المنسوب إليه «ما تلحن فيه العامة» .
وتحت هذا العنوان كتب كثير من علماء اللغة الأوائل، مثل الفراء (207 هـ) وأبي عبيدة (210 هـ) والأصمعي (216 هـ) ومن في طبقتهم ومن جاء بعدهم، بل إن حركة التصحيح اللغوي هذه قد شارك فيها بعض علماء الترك في الدولة العثمانية الذين اتخذوا العربية قلماً ولساناً، فرأينا ابن كمال باشا (940 هـ) يؤلف كتابه «التنبيه على غلط الجاهل والنبيه» ، ثم جاء علي بن بالي القسطنطيني (992 هـ) فصنف كتابه «خير الكلام عن أغلاط العوام» .
ومعلوم أن حركة التصحيح اللغوي قد تغيت غاية كبيرة، هي المحافظة على سلامة اللغة، في أصواتها ومفرداتها وتراكيبها وإعرابها ودلالة ألفاظها. ومعلوم أيضاً أن التنبه للخطأ اللغوي قديم، وأن محاصرته والتوقي منه مما جاءت به السنة والأثر، فقد رُوي: أن رجلًا لحن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«أرشدوا أخاكم» ، وروي عنه عليه السلام أنه قال:«أنا من قريش ونشأت في بني سعد، فأنَّى لي اللحن؟ » .
وقال أبو بكر رضي الله عنه: «لأن أقرأ فأُسِقط أحب إليّ من أن أقرأ فألحن» .
وكتب كاتب لأبي موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: «من أبو موسى» فكتب إليه عمر: «أما بعد فاضرب كاتبك سوطاً واحداً وأخَّر عطاءَه - أي راتبه - سنة» .
ومن أصدق وأدق ما قيل في استنكار اللحن واستبشاعه ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: «إن الرجل ليُكلمني في الحاجة يستوجبها فيلحن فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض، لبغضي استماع اللحن، ويكلمني آخر في الحاجة لا يستوجبها فيُعرب - أي يتكلم كلاماً صحيحاً - فأجيبه إليها، التذاذاً لما أسمع من كلامه» . وروي عنه أيضاً أنه قال: «أكاد أضرس إذا سمعت اللحن» . وقال عبد الملك بن مروان: «اللحن في الكلام أقبح من الجُدري في الوجه» .
وينتهي عصر الراشدين واللسان العربي لا يزال صحيحاً محروساً لم يتداخله الخلل ولم يتطرق إليه الزلل، وتأتي الدولة الأموية، ومن بعدها العباسية، وتكثر الفتوح ويدخل الناس في دين الله أفواجاً، فتختلط الألسنة، وتتداخل الأصوات واللهجات، ويستعمل العربي ما لا بد له منه في الحوار والخطاب اليومي، من أجنبي ودخيل، فيضاف إلى عامل «اللحن» القديم عامل آخر، هو هذا الدخيل، فينهض له علماء اللغة، فتكثر الجهود والتصانيف في حركة التنقية اللغوية.
وفي عصرنا الحديث يطرأ عامل ثالث: هو الاستخفاف باللغة والنحو والصرف، وإشاعة أن الاشتغال بمثل هذه العلوم مضيعة للوقت والجهد الذي ينبغي أن يُصرف إلى الفكر وحده، ثم ظهرت بدعة «التفكير الموضوعي» الذي يرفض الاحتفال بهذه الشكليات من حركات الإعراب وأبنية الأسماء والأفعال، والرسم «الإملاء» ، ثم يكون التخليط في هذه القواعد والضوابط سمة من سمات التحرر والانعتاق من ربقة التخلف وأكفان الموتى ورمائم القبور!
ويفزع لهذه الغاشية طائفة من علماء اللغة والنحو المحدثين، فيتصدون لهذا الانحراف عن سَنَن العربية، فيما عُرف بالتأليف في الأخطاء الشائعة. ومن أبرز ما كتب فيها «لغة الجرائد» لإبراهيم اليازجي، التي نشرها مقالات في مجلة الضياء التي أنشأها بمصر سنة 1898 م، و «حول الغلط والفصيح على ألسنة الكتاب» لأحمد أبي الخضر منسي، و «تذكرة الكاتب» لأسعد خليل داغر، و «أخطاؤنا في الصحف والدواوين» لصلاح الدين سعدي الزعبلاوي، و «الكتابة الصحيحة» لزهدي جار الله،
ثم كتب العلامة النحوي الشيخ محمد علي النجار عدة مقالات في مجلة الأزهر، باسم:«لغويات» نشرها بعد ذلك مجموعة بمعهد الدراسات العربية بجامعة الدول العربية. وكتب العالم العراقي الدكتور مصطفى جواد عدة مقالات أيضاً بمجلة عالم الغد البغدادية، بعنوان «قل ولا تقل» نشرها بعد ذلك في كتاب، إضافة إلى ما ذكره في كتابه:«مباحث لغوية في العراق» .
على أن هذه الجهود التي بُذلت في التنقية اللغوية وتصحيح اللسان العربي، قد تعرضت في القديم والحديث لحركة نقدية واسعة، تبعاً لمقياس الصواب اللغوي وعلى أي صورة يكون؟ وهل يقتصر القياس على المشهور الشَّائع دون القليل النادر كما يرى البصريون، أم يقاس على الشاهد الواحد والشاهدين، كما يقول الكوفيون؟ وهل نقف عند أفصح اللغات ونلغي ما سواها، أم نجعل الشاذ والفصيح واحداً؟ وقد كان بعض اللغويين يتشدد ويحكم بالخطأ على ما لم يكن فصيحاً وإن جاءت به لهجة من لهجات العرب ولو كانت ضعيفة، وكذلك يعد صحيحاً كل ما رواه لغوي ولو كان منفرداً بروايته. ولعل أعدل منهج في القبول والرد هو ما أثر عن أبي عمرو بن العلاء، وقال له أحدهم:«أخبرني عما وضعت مما سميته عربية، أيدخل فيها كلام العرب كله؟ فقال: لا، فقال: كيف تصنع فيما خالفك فيه العرب وهم حجة؟ قال: أعمل على الأكثر، وأسمي ما خالفني لغات» . فهذا منهج يقوم على اعتبار الأكثر، وعدم إنكار الأقل، فهو يقبله ولكنه يضعه في دائرة اللغات. واللغات عندهم تعني ما نسميه نحن الآن: لهجات.
ومن أشهر كتب نقد مؤلفات التصحيح اللغوي قديماً: ما صنفه ابن هشام اللخمي الإشبيلي (577 هـ) فقد ألف كتابه: «المدخل إلى تقويم اللسان وتعليم البيان» ، وعرض فيه بالنقد لكتابين تقدماه في لحن العامة، هما:«لحن العامة» لأبي بكر الزبيدي الإشبيلي (379 هـ)، و «تثقيف اللسان وتلقيح الجنان» لابن مكي الصقلي (501 هـ). وقد ذكر ابن هاشم أن الزبيدي «تعسف على عامة زمانه في بعض الألفاظ، وأنحى عليهم بالإغلاظ، وخطأهم فيما استعمل فيه وجهان وللعرب فيه