الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلم ومشافهتهم والرواية عنهم، وأعطوني حماسة الشباب وتوقده، بل إنهم فتحوا لي أبواباً من النظر، ودلوني على فوائد من الكتب لم أكن أقف عليها لولا نظرهم ومناقشتهم، وما زلت أقول: إننا حين نعلم ونخرج أبناءنا الطلبة إنما نقرأ معهم العلم مرة أخرى، بل ربما استفدنا منهم مثل الذي استفادوه منا، ولأمر ما كان التلميذ قديماً يسمى «صاحباً» لشيخه: فأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة، والربيع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي، وابن جني صاحب أبي علي الفارسي
…
وهلم جرّاً».
ثم لا يترك هذا الموضع حتى يذكر في هامش الصفحة أسماء هؤلاء الشباب الذين أفادهم واستفاد منهم، ومنهم: عياد بن عيد الثبيتي، سليمان بن إبراهيم العايد، عثمان بن حسين الصيني، عبد الرحمن بن سليمان العثيمين وغيرهم.
ولعل هذه الإشارة من عالمنا الجليل إلى توقير واحتفال الجامعات السعودية بأهل العلم والحفظة والرواد، الذين ضاقت بعلمهم الواسع الشهادات الجامعية، فالتقطتهم درراً واستقطبتهم نجوماً، أثرت بهم هيئاتها التدريسية وانتفع طلابها بعلمهم العظيم، هي التفاتة مهمة وتنبيه واجب للقائمين على إدارة المؤسسات الجامعية في بلادنا العربية، فهذه السُّنَّة الحميدة، وهي التعيين دون الالتزام بمسميات الشهادات، أسلوب عرفته الجامعات الأجنبية قبل العربية، فاستفادت منه، وبسبب هذا النهج رأينا العقاد وعبد السلام هارون وعمر الدسوقي، وغيرهم كثيرين، رأيناهم في أروقة الجامعات يحاضرون ويناقشون ويفيدون وهم لا يحملون لقب العصر وصرعته «الدكتوراه» ولا يعبأون بها، وكان الأمر كذلك في مؤسساتنا العلمية إلى أن ابتليت بالنظام الأمريكي الفجّ، الذي جعل الطلاب يمتحنون أساتذتهم في بعض المقابلات الخارجية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
علمه وفضله:
أما علمه وفضله فإن الحديث في هذا الجانب «سوف يغرق في بحور إحسانه» ، (وهي كلمة الحسن بن رجاء في مدح أبي تمام)، وما سطره الإخوة الأفاضل
والأساتذة الكبار من محبي الفقيد في مجلات وجرائد مصر والمملكة العربية السعودية والكويت ينبئك عن مكانته العلمية ورسوخ قدمه في علوم العربية، بما لا يتأتى لأحد في هذا العصر إلا القليل، وربما لا تجد عند غيره تلك الثقافة الموسوعية التي حظي بها يرحمه الله، وتلك القراءات الثرية تتلألأ بها مؤلفاته بصورة مدهشة، فأنت عندما تقرأ ما يكتب الدكتور الطناحي تجده تجاهك يحدثك وتحدثه، ويلقي إليك بفوائد جمة تجيئك تترى، والمحب للتراث إزاء تلك الفوائد والغرائب لا يكاد يلتقط أنفاسه من نفاستها وتتابعها، ويكفيك أن الإخوة في المملكة العربية السعودية عرفوا قدره فوضعوه بإزاء الشيخ محمد متولي الشعراوي والشيخ محمد الغزالي والسيد صقر يرحمهم الله وغيرهم. كما أن فكه لطلاسهم أسلوب أبي علي الفارسي في كتاب «الشعر» دليل على رسوخ قدمه في تحرير النص وتحقيقه (انظر ج 1 ص 63 وما بعدها).
وعالمنا الجليل يحرص على تذكيرنا دائماً بأنه: «لا يغني كتاب عن كتاب» (الموجز في مراجع التراجم ص 24) و «أن مجاز كتب التراث مجاز الكتاب الواحد» ، (المرجع السابق ص 35).
ولقد اخترمته المنية وقرار اختياره عضواً في مجمع اللغة العربية في سبيله للصدور، فخسر المجمع بذلك ابناً باراً من أبنائه الأوفياء، رحمه الله رحمة واسعة.
وبقي فقيدنا عمره كله وفياً لتراث أمته يذود عنه بغي الباغين، وتشكيك المستغربين، ويسوؤه ما انتشر في هذا الزمان من استهانة به وبأصول تحقيقه ودراسته، واندفاع بعضهم في إخراج الطبعات السريعة لبعض كتب التراث: لا يعبأ بصحة القراءة، ولا يضبط النص، ويستجلب التعليقات مغيراً على كتب الأئمة الأعلام، «ولا بأس من التهويش ببعض الشروح اللغوية التي تعبُّ من المعاجم عبّاً، وكثيراً ما يقع في نقل هذه الشروح أخطاء فادحة، لعدم التنبه للمشترك اللفظي» كما يقول رحمه الله في (كتاب الشعر لأبي علي الفارسي، المقدمة صفحة: ج).