الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجلى فن هؤلاء الخطاطين الذين أجادوا في كتابته غاية الإجادة، ما بين كتابته كاملاً، أو كتابة بعض آياته، حتى قيل بحق:«إن القرآن الكريم نزل بمكة، وقرئ في مصر، وكتب في استانبول» .
وهذا الإبداع في فن الخط العربي ليس في المسطور بين دفتي كتاب فقط، فأنت تراه أيضاً يزين جدران وقباب المساجد كلها صغارها وكبارها، بأقلام الخط الستة المعروفة، وإن كان أكثر ما رأيته في المساجد: الثلث والفارسي، ومن المألوف في أكثر المساجد أن تجد مكتوباً: الله جل جلاله محمد صلى الله عليه وسلم الصحابة الأربعة الراشدين، ثم الحسن والحسين، وأحياناً الصحابة الستة الذين تتم بهم العشرة المبشرون بالجنة.
ومن أنفس وأبدع المجموعات الخطية ما رأيته في مسجد السليمانية باستانبول، والمسجد الكبير بمدينة بورسة، وهو المسمى «أولو جامع» ، فالخطوط في هذين المسجدين من وراء الوصف، فهي من الأشياء التي تحيط بها المعرفة ولا تدركها الصفة. ولست أدري كيف كتب ذلك الخطاط التركي العظيم تلك القافات الثلث في مدخل جامع بورسة، فقد كتب بها سورة العلق:«قافات كبيرة جداً على شكل دائرة ثم وصل بينها ببقية الآيات بالحرف الصغير، وكذلك صنع بالسينات التي تنتهي بها سورة الناس» .
لفظ الجلالة:
على أن أبدع وأجمل ما رأيته في كتابه لفظ الجلالة «الله» و «محمد» صلى الله عليه وسلم، ما رأيه في صدر كنيسة آيا صوفيا التي حولها السلطان محمد الفاتح إلى مسجد، وقد تحول هاذ المسجد الآن إلى متحف، وقد راعني ما رأيت: قباب عالية تملؤها خطوط تخطف البصر بجمالها، وعلى جانبي الكنيسة آثار إسلامية، مستحدثة على هذا البناء الكنسي العتيق، وفي مكان الهيكل وبعيداً عنه شيئاً ما أقيم المحراب، وعلى يمينه نهض منبر فخم، ومن وراء المحراب بقيت صورة السيدة مريم عليها السلام في صدر الهيكل. ومما يلفت النظر في هذه الكنيسة أن الآثار المسيحية لم تمح فبقيت كما هي، ثم استحدثت أبنية إسلامية كبعض الإيوانات ومصلى النساء.
ومما ينبغي التنبه له والتنبيه عليه أن عناية الأتراك بالخط العربي وتحسينه لا زالت باقية إلى الآن في تركيا (الجمهورية)، ومن الخطاطين الأتراك المعاصرين: داود بكتاش، وإيدين أركون، وعثمان أونال، وأفضل الدين فيلج، وعلي طوى، وتحسين قورت، وآي تكين أرسلان، ثم يتقدم هؤلاء كبيرهم الأستاذ حسن جلبي خطاط الجمهورية. فما برح النهر يجري متدفقاً زخاراً.
ورغم أن لمصر تاريخاً في فن الخط العربي، فإن أثر الخطاطين الأتراك كان واضحاً على هذا الفن في مصر، وحين أنشاأ الملك فؤاد مدرسة تحسين الخطوط الملكية عام 1920 م - ومقرها كان ولا يزال بمدرسة خليل آغا الثانوية بشارع الجيش - قام بالتدريس فيها الخطاطون المصريون المعروفون آنذاك: الشيخ علي بدوي، والشيخ محمود رضوان، ومحمد إبراهيم، ونجيب هواويني، وهو سوري عاش ومات في القاهرة، ثم استقدم الملك فؤاد خطاطاً تركياً كبيراً من استانبول هو «الشيخ محمد عبد العزيز الرفاعي» الذي يوقع أحياناً على خطوطه باسم «عزيز» ، وهو من تلاميذ الخطاط الحاج أحمد العارف الفلبوي، والخطاط حسن حسني القرين آبادي، كما ذكر هو في بعض لوحاته.
وقد أثر الشيخ عبد العزيز تأثيراً كبيراً في تلاميذه الذين درسوا على يديه وارتقى به فن الخط في مصر ارتقاءً عظيماً، وظهر أثره واضحاً في سيد إبراهيم، وبخاصة في خط الثلث، وفي محمد حسني، وبخاصة في الخط الفارسي.
وقد جمعت روائع الشيخ عبد العزيز الرفاعي في كتالوج فخم جداً، وفيه ترجمة لحياته وأسفاره، وطبع هذا الكتالوج في استانبول سنة 1988 م، وفيه صورة رسالة بخط الشيخ عبد العزيز الرفاعي إلى شيخ الأزهر، وهي وثيقة مفيدة، في تاريخ نزوله بمصر ومحل إقامته.
وهذه صورة الوثيقة: «حضرة صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر الشريف. أعرض لفضيلتكم أني دعيت من الآستانة العلية لكتابة المصحف الشريف لحضرة مولانا صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول، وقد كتبت نموذجاً لطلبة المدارس
والأزهر، وها هو مرفق طيه للاطلاع عليه حتى إذا حاز القبول يكرم باعتماد تقريره بالأزهر، وإني مستعد لتقديم الكمية اللازمة، وفي الختام تفضلوا بقبول فائق الاحترام - في 23 أكتوبر سنة 1923 الشيخ محمد عبد العزيز الرفاعي الخطاط المقيم بتكية المولوية بشارع السيوفية نمرة 31 قسم الخليفة».
توفي الشيخ عبد العزيز ودفن في استانبول يوم 16 من أغسطس سنة 1934 م وقبره قريب من مسجد الفاتح، وهو أكبر خطاط في هذا الجيل، وترى نماذج من خطه في عنوانات بعض الكتب التي طبعتها دار الكتب المصرية: الأغاني للأصفهاني، وذيل الأمالي والنوادر لأبي علي القالي، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ونهاية الأرب للنويري. ورأيت في الستينات بعض لوحات بخطه في قاعة المعارضة بدار الكتب المصرية، لا أعرف مصيرها الآن.
وإلى جانب هذا الكتالوج الخاص بالشيخ عبد العزيز الرفاعي، رأينا عملًا رائعاً آخر أصدره مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وهو كتاب «فن الخط» وهو ثمرة جهود طويلة قام بها فريق من الباحثين تحت إشراف الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلي مدير عام المركز، ويضم الكتاب مقدمة تاريخية حول نشأة الكتابة العربية وأعلام الخطاطين القدامى، إلى أن يصل إلى الخطاطين العثمانيين، ويحتوي الكتاب على 192 لوحة وصورة بالألوان.
ويقوم هذا المركز بجهود عظيمة في مجال التاريخ والفنون الإسلامية، ومن صور نشاطه إقامة مسابقات دولية لفن الخط العربي توجه منها الدعوة لخطاطي العالم كله. ومن إصداراته الجيدة «فهرس مخطوطات مكتبة كوبريلي» في ثلاثة مجلدات ضخام - استانبول 1406 هـ، = 1986 م، وفهرس مخطوطات الطب الإسلامي باللغات العربية والتركية والفارسية في مكتبات تركيا، 1404 هـ = 1984 م، ويدير هذا المركز ويوجه نشاطه شاب مثقف، يتوقد ذكاء، ويتوهج حماسة، هو الأستاذ الدكتور «أكمل الدين إحسان أوغلي» وهو تركي، ولكنه مصري المولد والنشأة والتعليم، تخرج في كلية العلوم، وعين معيداً بجامعة الأزهر في أول
سني التطوير، ثم أكمل تعليمه العالي في لندن، وعاد إلى موطنه تركيا.
ووالده الشيخ «إحسان» من علماء الأتراك الذين نزلوا مصر، واتخذوها داراً ومقاماً، وكان رئيس قسم الفهارس الشرقية بدار الكتب المصرية إلى أوائل الستينات. رأيته شيخاً مهيب الطلعة، حسن السمت، صالح الوجه.
ولا يبقى إلا أن نلتفت التفاتة جادة إلى تجربة الأتراك في حفظ المخطوطات وصيانتها، وأن ننقلها إلى ديارنا، فالحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها. كذلك ينبغي أن نستفيد من جهودهم في فن الخط العربي، جمعاً لروائعه ونشراً لها، وإني أدعو ورثة الخطاطين المصريين الكبار، من أمثال سيد إبراهيم ومحمد حسني ومحمد إبراهيم ويوسف أحمد، والخطاطين الأحياء أمثال محمد عبد القادر وحسين أمين، ومن إليهما، أدعو هؤلاء جميعاً إلى جمع ما لديهم من خطوط، ونشرها بين دفتي كتاب يحفظها، أثراً يبقى ونموذجاً يحتذى، بل إننا لو جمعنا فقط عنوانات الكتب التي خطها سيد إبراهيم ومحمد حسني لأظهرنا كنزاً من الفن العالي، ولأحيينا تاريخاً عزيزاً كاد يضيع بتأثير الكمبيوتر وتشكيلاته المستحدثة التي لا تقوم على قواعد، ولا تستند إلى أصول، كما ذكر الأستاذ حامد العويضي في مقالته الجيدة «جماليات الخط العربي أمام مخاطر الكمبيوتر» - عدد أكتوبر الماضي من الهلال.
والحق أن هذا الذي نراه من الكمبيوتر الآن من تخليط واضطراب إنما سبقه ومهد له، وأغرى به ما قام به بعض الرسامين وخريجي الفنون الجميلة منذ زمن، من اللعب بقواعد الخط العربي وتجاوزها، في هذه الخطوط الصاعدة والهابطة، والمنتصبة والمضطجعة، وقد قالوا وقتها: إنه الخط الحر، على مثال الشعر الحر، وكلها فتن ومصائب يأخذ بعضها برقاب بعض، ولا نتنبه لها في بدايتها ونتركها حتى تعظم ويتطاير شررها، على ما قال الحارث بن وعلة الذهلي:
والقول تحقره وقد ينمي
…
وبالله نستدفع البلايا
* * *