الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهي أخطاء بشعة مفزعة تشمل كل شيء: من الأخطاء في أبنية الأسماء وأبنية الأفعال ومخارج الحروف وصفاتها، وأسماء الأعلام والكنى والألقاب والأنساب، ولا تسأل عن غياب العلامة الإعرابية أو التخليط فيها، وقد كنت عنيت يوماً برصد هذه الأخطاء وتحليلها، ولكني رأيت الأمر قد اتسع اتساعاً عظيماً، وتشعب تشعباً مفزعاً، وأصبحت أنا وهذه الأخطاء كالذي قاله الأول:
تكاثرت الظباء على خراش
…
فما يدري خراش ما يصيد
وإن أبناءنا وبناتنا في معاهد العلم ليأتوننا كل يوم بكل غريبة وعجيبة من معلميهم ومعلماتهم، وكلما رتقت فتقاً تخرَّق عليك آخر، وكلما سددت ثلمة انفتحت أمامك أخوات لها أوسع وأبشع.
والسوأة السواء في تلاوة القرآن العزيز، فقد استعجم كلام ربنا عز وجل على ألسنة معلمي المدارس، وصاروا يتلونه على تلاميذهم محرفاً ومزالًا عن جهته، ثم أصبحت تسمعه من بعض المذيعين والمذيعات كذلك مغلوطاً ملحوناً. وهذه هي المصيبة التي تتضاءل دونها كل مصيبة، وهذا هو الخطر الماحق الذي يجب أن نقف جميعاً أمامه ندرأه وندفعه، فإن القضية بهذه المثابة قد صارت ديناً يغتال وشريعة تنتهك، ولا بد أن يقول فيها كل غيور على دين الله كلمته، لا يتتعتع ولا يتلجلج، لا يفزعه سخط الساخط، ولا يخفيه سلطان هؤلاء الذين يظنون أن بيدهم إغلاق الأبواب وفتحها، وقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه» .
عود على بدء:
ولقد تابعت هذه القضية منذ زمان بعيد، ورأيت أهل العلم يردونها إلى أسباب كثيرة، على أني لم أرَ من وضع يده على أصل البلاد ومكمن الداء إلا قارئاً كريماً هو الأستاذ طارق البوهي - بكَفْرِ الشيخ -. وقد علمت فيما بعد أنه من رجال التربية، وقد جاء رأيه هذا في سطر واحد منشور في باب (مجرد رأي) بجريدة الأهرام قال: «لا يجب أن نقسو كثيراً على الشباب، فهم نتاج البذور التي ألقيت والتعليم الذي
أعطي لهم ومجالات الثقافة التي تلقوها». وهذا رجل صادق، عرف الحق فقاله، ولم يضيع نفسه ويضيعنا في متاهات التفلسف والتنظير واللف والدوران.
ثم إنه أحسن الله إليه قد وضع القضية في حاق موضعها: ماذا يتلقى طالب العربية الآن في كليات اللغة العربية وأقسامها بالجامعات؟ أمشاج من قواعد النحو والصرف مطروحة في مذكرات يمليها الأساتذة إملاء أو يطبعونها طبعات تزيد عاماً وتنقص عاماً، واختفى الكتاب القديم لتحل محله هذه المذكرات والمختصرات، ودفع الطلاب دفعاً إلى الملل من قراءة الكتب، و «المللُ من كواذب الأخلاق» كما قال عمرو بن العاص رضي الله عنه.
إن هجر الكتاب القديم - وهو وعاء العلم ومستودع التراث - والاستعاضة عنه بالمذكرات والمختصرات، قد حجب عن هذا الجيل كوى النور، وحلأهم عن موارد العلم
…
وكان من أخطر الأمور ردُّ ذلك إلى التيسير والتسهيل والتخفيف على الناشئة، ولقد مضينا في التيسير والتسهيل خطوات وخطوات حتى انتهينا إلى هذا الذي نشكو منه ونضيق به، ونسأل الله السلامة منه.
على أن تيسير النحو قد سلك دروباً مظلمة، فليس من التسهيل والتيسير أن تدع «زيداً وعمراً» في التمثيل لتقول:«سمير وأشرف» ، وليس من التسهيل والتيسير أن تترك التمثيل على القاعدة النحوية بالشاهد القرآني والحديثي وأشعار العرب وأمثالها لتكتب قصة متكلفة عن نزهة في القناطر الخيرية، أو زيادة إلى أهرامات الجيزة، أو حكاية عن الفلاح في الحقل، لتستخرج من كل ذلك شواهدك على القاعدة النحوية والصرفية.
وليس يشك عاقل في أن التمثيل لتقدم المفعول على الفاعل بمثل: «قطف الوردة طفل» ليس في قوة الاستشهاد بقوله تعالى: {وإذ ابتلي إبراهيم ربه} [البقرة: 124]، وقوله:{إذ حضر يعقوب الموت} [البقرة: 133]، وقوله:{إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} [آل عمران: 140]، وقوله:{لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} [الحج: 37]، وقوله:{إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]،
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «ألا لا يمنعن رجلًا هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه» ، وقول جرير:
جاء الخلافة أو كانت له قدراً
…
كما أتى ربَّه موسى على قدر
فأنت مع المثال الأول أمام تركيب تمثلت فيه القاعدة النحوية، لكنه كالتمثال الأصم، فاز من الوسامة والقسامة بأوفر الحظ والنصيب، ولكنه تمثال جامد فاقد الحركة والنطق. أما مع الأمثلة القرآنية والحديثية والشعرية فأنت أمام نماذج تتنعَّش بالحياة وتمور بالحركة، مع ما تعطيه من أنس خبرة بالأبنية والتراكيب العربية. ومن هنا احتلت الشواهد التراثية في تقعيد النحو مكانة عالية.
على أنه ينبغي أن يكون واضحاً أن فكرة التيسير على الناشئة كانت ظاهرة بينة في فكر النحاة الأوائل رضوان الله عليهم: فابن السراج المتوفى 316 هـ يؤلف كتاباً كبيراً في النحو هو «الأصول» ثم يضع إلى جانبه مؤلفاً صغيراً جداً هو «الموجز» ، وأبو علي الفارسي 377 هـ يؤلف «الإيضاح» وهو متن صغير سهل العبارة إلى جانب كتبه الكبار: التذكرة والشعر والحجة والشيرازيات
…
وغلامه ابن جني العظيم - كما كان يصفه أستاذنا الطيب الدكتور كمال بشر أطال الله في النعمة بقاءه - يؤلف بجانب الخصائص والمنصف وسر صناعة الإعراب والمحتسب رسائل موجزة في النحو والصرف، مثل اللمع والملوكي في التصريف.
وأبو القاسم الزجاجي 340 هـ يصنف كتاباً في الفكر النحوي هو «الإيضاح في علل النحو» ثم يؤلفه للناشئة كتابه الشهير «الجمل» ، وهو كتاب سهل رهو، وقد جاء عنوانه في الأصل المخطوط هكذا: «كتاب الجمل في النحو
…
اختصار أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي» أرأيت إلى كلمة «اختصار» ؟
وقد وقفت عند كتاب غريب أراه صورة واضحة الدلالة على أن علماءنا الأوائل كانوا مشغولين حقاً بتربية الناشئة والتيسير عليهم والتدرج معهم في تعليم النحو. وذلك هو كتاب «إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم» لأبي عبد الله الحسين بن أحمد المعروف بابن خالويه المتوفى سنة 370 هـ. لقد كان المألوف في